اغتنام الأيام الفاضلة
إن الله عز وجل جعل التفاضل بين الأشياء سنة، ذلك ترغيبًا لعباده في المداومة
والحرص والمسارعة في فعل الخيرات والمداومة على فعل الطاعات، ففضَّلَ بعض الأيام على
بعض وفضَّل بعض الشهور على بعض، بل إن التفاضل بين أهل الإيمان أصلٌ من أصول اعتقاد
أهل السنة والجماعة كما هو معلوم في كتب السنة، لكن تفاضل الأيام والشهور ليس لذاتها
وإنما مرجعه إلى ما يُعملُ فيها من الأعمال والعبادات والقربات، ففضيلة رمضان في عبادة
الصيام، وفضيلة الأشهر الأربعة الحرم في أداء مناسك الحج والسفر إليها والرجوع منها،
وتحريم القتال فيها، وفضيلة يوم عرفة وأيام التشريق ويوم الجمعة بما يعمل فيها الطاعات
وهي معروفة. والناس في اغتنام تلك الأيام الفاضلة على ضربين: فمنهم آخذٌ بنفسه على
طريق الجدِّ والاستقامة فأصلحها بالطاعة لله، ومنهم من حاد عن طريق الله فأخملَها ووضع
منها، واتبعها طريق الهوى فخسر دينه ودنياه، وصدق الله جل جلاله إذ يقول: {وَنَفْسٍ
وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10]
لَا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا:
إن من رحمة
الله عز وجل بعباده أنه لم يستعبدهم إلا بما يطيقون، فقد اتفق أهل العلم على أن الحر
المُكاف القادر إذا و جد الزاد والراحلة وأمن الطريق، يلزمه الحج(1).
قال تعالى:
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: 286]
وقال أيضًا:
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}[الطلاق: 7]
قال أبو
جعفر الطبري:
يعني بذلك جل ثناؤه: لا يكلف الله نفسا فيتعبدها إلا بما يسعها، فلا يضيق عليها ولا
يجهدها(2).
فوسَّعَ
الله على عباده المؤمنين أمر دينهم، فلم يجعل لهم في دينهم أدنى حرج، فأراد بهم اليسر
ولم يرد بهم العسر وهذا كله من تمام وكمال رحمة الله عز وجل بعباده.
وقال سبحانه:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ
كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 97]
قال القاضي
ابن عطية:
الزاد والراحلة على الأغلب من أمر الناس في البعد، والاستطاعة- متى تحصلت- عامة في
ذلك وغيره، فإذا فرضنا رجلًا مستطيعًا للسفر ماشيًا معتادًا لذلك، وهو ممن يسأل الناس
في إقامته ويعيش من خدمتهم وسؤالهم ووجد صحبة، فالحج عليه واجب دون زاد ولا راحلة،
وهذه من الأمور التي يتصرف فيها فقه الحال، وكان الشافعي يقول: الاستطاعة على وجهين:
بنفسه أولا، فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك(3).
ومن كمال
رحمة الله بعباده أن المستطيع لا يجب عليه الحج في كل عام، بل متى فعله مرة في حياته
سقط من عُهدة وجوبه عليه.
عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-،
قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم-
فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا
"، فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا
ثَلاَثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم-:
"لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ - ثُمَّ قَالَ - ذَرُونِي
مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ
وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيءٍ فَأْتُوا مِنْهُ
مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيءٍ فَدَعُوهُ "(4).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ
بِشَيءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"، قال النووي: " هَذَا
مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام الْمُهِمَّة، وَمِنْ جَوَامِع الْكَلِم الَّتِي أُعْطِيهَا
-صلى الله
عليه وسلم-،
وَيَدْخُل فِيهِ مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأَحْكَام، وَهَذَا الْحَدِيث مُوَافِق لِقَوْلِ
اللَّه تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّه مَا اِسْتَطَعْتُمْ}"(5).
لا تَحزَنُوا
فإِنَّ فَضلَ اللهِ واسعٌ:
قد يحزن
البعض من الناس ممن لم يُقدَّر لهم الحج لضيق عيش أو قصر نفقة أو غلاء أسعار أو ما
شابه ذلك من العواقب، فيدفعه الشيطان بأن يظن سوءًا فيتمنى الأماني الباطلة، وقد حذرنا
ربنا تبارك وتعالى من مثل ذلك فقال جل شأنه: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ
بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ
نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32]
فنهى الله
عباده عن الأماني الباطلة، وأمرهم أن يسألوه من فضله، إذ كانت الأمانيّ تورِث أهلها
الحسد والبغي بغير الحق(6).
وقد جاء فقراء المدينة للنبي -صلى الله
عليه وسلم- يشكون له ضيق الحال فأعطاهم -صلى الله
عليه وسلم- أعظم بديل وأنسب حل، ووضَّح لهم سعة فضل الله عز وجل على
عباده.
فعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-،
قَالَ جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ
مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلاَ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ يُصَلُّونَ كَمَا
نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا
وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ قَالَ أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ
إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ
وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ
"تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ
صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ"، فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا فَقَالَ بَعْضُنَا
نُسَبِّحُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَنَحْمَدُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا
وَثَلاَثِينَ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ تَقُولُ سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
وَاللَّهُ أَكْبَرُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ(7).
وعَنْ أَبِى
ذَرٍّ-رضي الله عنه-،
أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالُوا لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ
أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ
وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: " أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ
اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ
صَدَقَةٌ وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ
صَدَقَةٌ وَنَهْىٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ
"، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ
فِيهَا أَجْرٌ قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِى حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ
فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِى الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ
"(8).
فانظر إلى تسابق الصحابة رضوان الله عليهم، وتنافسهم في الطاعات،
لكن لم يقصد هؤلاء الصحابة بقولهم: "ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ
الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلاَ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ"،
الحسد لإخوانهم الأغنياء، لا بل إنما جاء بهم حب المبادرة، والرغبة في السبق والمنافسة
في فعل الطاعات، فهم يريدون أن يلحقوا بإخوانهم ليحرزوا من الأجر ما أحرزوه، لذلك وجههم
النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلى
ما يحقق رغبتهم، وأرشدهم إلى ما ينفعهم من أمر دينهم فدعاهم لأمر الآخرة دون أن يلفتهم
لأمر الدنيا وجمع الأموال.
قال ابن القيم: "فجعل
الذكر عوضاً لهم عما فاتهم من الحج والعمرة والجهاد، وأخبر أنهم يسبقونهم بهذا الذكر،
فلما سمع أهل الدثور بذلك عملوا به، فازدادوا ــ إلى صدقاتهم وعبادتهم بمالهم ــ التعبد
بهذا الذكر، فحازوا الفضيلتين، فنفسهم الفقراء، وأخبروا رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- بأنهم قد شاركوهم في ذلك وانفردوا لهم بما لا قدرة لهم عليه،
فقال: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}(9).
أبواب الخير كثيرة:
وفضل الله على عباده واسع، مهد لهم سبل الخير ويسرها وأكثر
منها، فمن أعظم أبواب الخير التي لابد من اغتنامها في هذه الأيام:
1-الصيام:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري-رضي
الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله
عليه وسلم-، يَقُولُ: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ بَعَّدَ
اللَّهُ وَجْهَهُ، عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا"(10). وفي
لفظ للترمذي، "
زَحْزَحَهُ اللَّهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا".
قال ابن الأثير: "
زَحْزَحه أي نحاَّه عن مكانه وباعَده منه يعني باعَدَه عن النَّار مسافةً تُقْطع في
سَبْعين سنة لأنه كلما مرَّ خَرٍيف فقد انْقَضَت سنة"(11).
وهذا فضل صيام يوم واحد ابتغاء وجه الله سبحانه، وقد
قال الله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]
ومن أفضل الصيام صيام ثلاثة أيام من كل شهر وهي الأيام البيض
ثالث عشر، ورابع عشر وخامس عشر من كل شهر، فصيام يعدل صيام الدهر كما أخبر بذلك الصادق
الذي لا ينطق عن الهوى، فعَنْ قُرة بن إياس-رضي
الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله
عليه وسلم- قَالَ: صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ
الدَّهْرِ، وقيامه"، وفي رواية "وإفطاره"(12).
ومن أبواب الخير في الصيام، صوم العشر الأول من ذي الحجة،
وفيها يوم عرفة، وعن فضله يقول النبي-صلى الله عليه وسلم-:
" صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ
الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ"(13).
2-الإكثار من الصدقات:
فثواب الصدقة وفضلها عظيم لاسيما في هذه الأيام المباركة،
فمن فضلها أن العبد يستظل تحت ظل عرش الرحمن يوم القيامة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي
الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله
عليه وسلم- قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ
لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ-ذكر منهم-"وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا
حَتَّى لاَ تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ"(14).
وأخبر النبي-صلى الله عليه وسلم- أن
كل إنسان في ظل صدقته يوم القيامة فقال -صلى الله عليه وسلم-:
"كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ - أَوْ
قَالَ: يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ"(15).
وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الصدقة تطفئ غضب الرب، فقال:
"صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ"(16).
3-المحافظة على الصلوات:
فالصلاة من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وهي عماد الدين
والعهد الذي بيننا وبين المشركين، عن عبدالله بن مسعود -رضي
الله عنه-، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله
عليه وسلم- أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ قَالَ الصَّلاَةُ عَلَى
وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ
الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي(17).
وفي حضور الجماعة والذهاب إلى المسجد فضل عظيم أخبر به سيد
المرسلين، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله
عليه وسلم- أنه قال: " مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِى الْجَنَّةِ نُزُلاً كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ "(18).
والنُزُل: هُوَ مَا يعد للضيف عِنْدَ نزوله من الكرامة والتحفة(19).
قال ابن بطال: " فيه
الحض على شهود الجماعات، ومواظبة المساجد للصلوات؛ لأنه إذا أعد الله له نزله فى الجنة
بالغدو والرواح، فما ظنك بما يُعِدُّ له ويتفضل عليه بالصلاة فى الجماعة واحتساب أجرها
والإخلاص فيها لله تعالى"(20).
4-الإكثار من النوافل:
فالإكثار من النوافل سبب لنيل محبة الله سبحانه، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ
اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ
إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ
عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ
كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ
الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ
وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ
تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ.
ومنها قيام الليل وصلاة والوتر:
عَنْ بِلاَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ
دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ
وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ
الْجَسَدِ"(21).
ومنها السنن الرواتب:
عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ ’زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله
عليه وسلم- أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- يَقُولُ مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ
يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلَّا بَنَى اللَّهُ
لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ. قَالَتْ
أَمُّ حَبِيبَةَ فَمَا بَرِحْتُ أُصَلِّيهِنَّ بَعْدُ(22).
5-الذكر والدعاء وقراءة القرآن:
فخير الأعمال وأرضاها وأطيبها وأزكاها لله ذكر الله، عَنْ
أَبِي الدَّرْدَاءِ-رضي الله عنه-، أَنَّ
النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:
"أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَرْضَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ،
وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ،
وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟
" قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "ذِكْرُ اللَّهِ".
وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ-رضي
الله عنه-: مَا عَمِلَ امْرُؤٌ بِعَمَلٍ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ(23).
قال ابن حجر: " المراد
بذكر الله في حديث أبي الدرداء-رضي الله عنه- الذكر
الكامل وهو ما يجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى
وان الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار مثلا من غير استحضار لذلك وان أفضلية
الجهاد انما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد فمن اتفق له انه جمع ذلك كمن يذكر الله
بلسانه وقلبه واستحضاره وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه أو قتاله الكفار مثلا
فهو الذي بلغ الغاية القصوى والعلم عند الله تعالى، وأجاب القاضي أبو بكر بن العربي
بأنه ما من عمل صالح الا والذكر مشترط في تصحيحه فمن لم يذكر الله بقلبه عند صدقته
أو صيامه مثلا فليس عمله كاملا فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية"(24).
وأما الدعاء: فهو
من أفضل العبادات، عن النعمان بن بشير، أن النبيِّ -صلى الله
عليه وسلم- قال: "الدُّعاءُ هو العِبادةُ، قال ربُّكم: {ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60](25)
وأما قراءة القرآن: فهي
خير تجارة وأفضل ما يحصَّل به الأجر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ
اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً
يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29، 30]
وفي قراءة القرآن فضل وخير كثير، فمن فضل الله أن بكل حرف
حسنة وما أحوجنا إلى الحسنات.
6-البر والصلة:
ومن أفضل الأيام التي يتقرب فيها العبد إلى ربه بأعمال الخير
والبر الأشهر الحرم التي عظمها الله وحرمها، ومن أمثلة ذلك:
-بر الوالدين:
فبر الوالدين من أعظم القربات، ومن أفضل الأسباب لتحصيل الخير،
ودخول الجنة، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ، أَنَّ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ-رضي
الله عنه- جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله
عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ
وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: "هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ " قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: "فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا".
(26)
وعن أبى الدَّرْدَاءِ-رضي
الله عنه-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله
عليه وسلم- يَقُولُ: " الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ،
فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْهُ". (27)
قال أبو موسى المدني: {أَوْسَطُ
أَبْوَابِ الجَنَّةِ} أي خيرها، يقال هو من أوسط قومه أي من خيارهم.
وقال العراقي: والمعنى
أن برّه مؤدّ إلى دخول الجنة من أوسط أبوابها.
وقال العاقولي:
"المعنى أحسن ما يتوصل به إلى دخول الجنة بر الوالدين". (28)
-صلة الأرحام:
وصلة الرحم من أعجل الطاعاتِ ثواباً للعبد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
-رضي الله عنه- قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-:
" لَيْسَ شَيْءٌ أُطِيعَ اللهَ فِيهِ أَعْجَلُ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ".
(29)
وصلة الرحم تجلب البركة فى الأرزاق والزيادة فى الأعمار والعمارة
للديار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ:
"مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ،
فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ". (30)
ومن سُبل البر أيضًا الإحسان إلى الجيران فقد وصى النبي-صلى الله
عليه وسلم- به، وكذلك إصلاح ذات البين.
---
(1) شرح السنة للبغوي(7/ 14).
(2) تفسير الطبري(6/ 129).
(3) تفسير ابن عطية(1/ 478).
(4) أخرجه مسلم(3321).
(5) شرح النووي على مسلم(4/ 499).
(6) تفسير الطبري(8/ 260).
(7) أخرجه البخاري(843)وهذا لفظه، ومسلم(1375).
(8) أخرجه مسلم(2376).
(9) الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم(ص: 76).
(10) أخرجه البخاري(2840) ولفظه، ومسلم(2769).
(11) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير(2/ 719).
(12) أخرجه ابن حبان(3652)، وصححه الألباني في الجامع الصغير
(7295).
(13) أخرجه مسلم(1162)، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ
الْأَنْصَارِيّ-رضي الله عنه-.
(14) أخرجه البخاري(660)، ومسلم(2427).
(15) أخرجه أحمد(17333) عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ-رضي الله
عنه-، وصححه الألباني في الجامع الصغير (8639).
(16) أخرجه الطبراني في الصغير(1034) عن عبدالله بن جعفر-رضي
الله عنه-، وصححه الألباني في الجامع الصغير(7207).
(17) أخرجه البخاري(527)، ومسلم(264).
(18) أخرجه البخاري(662)، ومسلم(1556) ولفظه.
(19) فتح الباري لابن رجب (4/ 65).
(20) شرح صحيح البخارى لابن بطال (2/ 285).
(21) أخرجه الترمذي(3895)، وصححه الألباني في الجامع
الصغير(7528).
(22) أخرجه مسلم(728).
(23) أخرجه ابن ماجة(3791)، وصححه الألباني في صحيح الجامع
الصغير(5644).
(24) فتح الباري لابن حجر (11/ 210).
(25) أخرجه أبوداود(1479)، وصححه الألباني في الجامع
الصغير(5719).
(26) أخرجه النسائي
(3104)، وقال الألبانى فى إرواء الغليل (5/ 21)الحديث بمجموع طرقه صحيح.
(27) أخرجه الترمذي
(1900)، وصححه الألبانى في صحيح الجامع الصغير (7145).
(28) دليل الفالحين
لطرق رياض الصالحين لمحمد بن علي البكري(3/ 174).
(29) أخرجه البيهقي فى الكبرى(19870)، وصححه الألبانى فى
صحيح الجامع الصغير(5391).
(30) أخرجه البخاري (5985)، ومسلم(6616).