لا تغضب
معنى الغضب
أنواع الغضب
أسباب الغضب
علاج الغضب
مقدمة: الغضب من الصفات التي يندر أن يسلم منها أحد، بل تركه بالكلية صفة نقص لا صفة كمال، ولكن إذا اشتدَّ الغضب ربما يُنسي الإنسان نفسه فينتهك الحرمات، وينسف ما حصَّله من الحسنات، و يجلب على نفسه المصائب والجنايات، وكثير من الناس لا يعرف لماذا يغضب، وما هي الضوابط التي ينبغي أن يلتزمها إذا غضب، وما هي الوسائل والأسباب التي يتخلص بها من الغضب، وهذه السطور للتعرف على بعض ما ذُكر.
المحور الأول: تعريف الغضب
- الغضب في اللغة
عَرَّف الغضبَ جمعٌ من علماء اللغة وغيرهم، فاختلفت عباراتهم، واتفقت الثمرة، فالغضب ضد الرضا، قال ابن فارس: الغَيْنُ والضَّاد والباءُ أصْلٌ صَحيحٌ يَدلُّ على شدَّةٍ وقُوّة. يقالُ: إنَّ الغَضبَة: الصَّخْرةُ الصُّلبَة. قالُوا: ومنْهُ اشْتُقَّ الغضَبُ، لأَنه اشْتدادُ السُّخْط. يقالُ: غَضِبَ يَغْضَبُ غضبًا، وهوَ غَضْبَانُ وغضُوبٌ. (1)
وقال القرطبي: رجلٌ غَضُوب أي شديد الخُلُق. والغضوب: الحيَّة الخبيثة لشدتها. والغضبة: الدرقة من جلد البعير يطوى بعضها على بعض، سميت بذلك لشدتها. (2)
- الغضب في الاصطلاح
قال الجرجاني: الغضب: تغيُّر يحصلُ عند غليان دَمِ القلب؛ ليحصل عنه التشفي
للصدر. (3)
وقال ابن رجب: الغضب: هو غليان دم القلب طلبا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلبا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعد وقوعه. (4)
المحور الثاني: درجات الغضب وأنواعه
قال الغزاليّ: يتفاوت النّاس في قوّة الغضب على درجات ثلاث وهي: التّفريط، والإفراط، والاعتدال.(5)
- النوع الأول: الغضب المحمود
وهو ما كان لله تعالى أو لدينه أو لرسوله أو لانتهاك حرمة من حرمات الله، وهذا النوع ثمرة من ثمرات الإيمان؛ إذ إن الذي لا يغضب في هذا المحل ضعيف الإيمان.
- فهذا نبي الله موسى عليه السلام يشتد غضبه على قومه لما عبدوا العجل من دون الله قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150]
- وأما غضب النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يُعرف إلا أن تنتهك محارم الله تعالى، فعَنْ عَائِشَةَ ’ قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (6)
وعَنْ عَائِشَةَ ’ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِنَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. (7)
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأنصاري -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنِ الصَّلاَةِ فِي الفَجْرِ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فُلاَنٌ فِيهَا، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَمَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالكَبِيرَ وَذَا الحَاجَةِ). (8)
ومن ذلك حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدَرِ، فَكَأَنَّمَا يُفْقَأُ فِي وَجْهِهِ، حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ، فَقَالَ: (بِهَذَا أُمِرْتُمْ، أَوْ لِهَذَا خُلِقْتُمْ، تَضْرِبُونَ الْقُرْآنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، بِهَذَا هَلَكَتِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ). (9)
وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَى وَالْغَضَبِ). (10)
وكذلك من الغضب المحمود: الغضب لما يحدث للمسلمين من سفك للدماء، وانتهاك للأعراض، واستباحة للأموال، وتدمير للبلدان بلا حق، فهذا من الغضب لله.
- النوع الثاني: الغضب المذموم
وهو ما كان في سبيل الباطل والشيطان كالغضب للنفس أو الغضب للعصبية أو الغضب للحمية الجاهلية أو الغضب للعاطفة الغير منضبطة بالشرع أو الغضب للدين بدون ضوابط شرعية فربما يفسد من حيث أنه يريد الإصلاح، ومن أمثلة ذلك:
- حديث أبي ذَرّ الغفاري -رضي الله عنه- أنه قَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ). (11)
- ومن ذلك حديث جُنْدَب بن عبد الله -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَ (أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ).(12)
فكان غضب هذا الرجل لله، لكنه بلا ضابط شرعي فاستوجب غضب ربه عليه
قال أبو هريرة: فَوَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ، لَقد تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ.(13)
- ومن ذلك حديث ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَتَاهُ رَجُلاَنِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي. فَقَالاَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} فَقَالَ: قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ. (14)
النوع الثالث: الغضب المباح
وهو الغضب في غير معصية الله تعالى دون أن يتجاوز حدَّه كأن يجهل عليه أحد أو يتسبب في إيذائه، وكظم الغيظ في هذه الحالة خير عظيم، قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]
- ومن جميل ما يُذكر هنا ما رواه ابْن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ}. وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ. (15)
- وكان عند ميمون بن مهران ضيفٌ فاستعجل على جاريته بالعشاء، فجاءت مسرعة ومعها قصعة مملوءة، فعثرت وأراقتها على رأس سيدها ميمون! فقال: يا جارية أحرقتني؟ قالت: يا مُعلم الخير ومؤدب الناس ارجع إلى ما قال الله تعالى. قال: وما قال الله تعالى قالت قال {والكاظمين الغيظ} قال: قد كظمت غيظي. قالت: {والعافين عن الناس} قال: قد عفوت عنك. قالت: زدْ فإن الله تعالى يقول {والله يحب المحسنين} قال: أنتِ حُرةٌ لوجه الله تعالى. (16)
المحور الثالث: أسباب الغضب
بواعث الغضب وأسبابه كثيرة جداً، والناس متفاوتون فيها؛ فمِن أسباب الغضب:
أولاً: العُجْب والكبر
فالعجب قرين الكِبْر وملازم له. والكِبْر من كبائر الذنوب؛ عَنْ فعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ). (17)
فإذا كان الإنسان متكبرا أو معجبا بنفسه أو بوظيفته أو بنسبه أو بقوته أو بعقله وذكائه، فمثل هذا لا يقبل النصح من أحد، وإذا قال قولا أو فعل فعلا فأنكره عليه أحد قامت الدنيا ولم تقعد واحمر وجهه وعلا صوته لمجرد أن خالفه أحد أو ردَّ عليه قوله، وإرضاء مثل هذا النوع من البشر أشقّ من نقل جبل من مكانه
قال الشافعي: من استُغْضب فلم يغضب فهو حمار، ومن استُرضى فلم يرضى فهو شيطان
قال الغزالي معلقا: فلا تكن حماراً ولا شيطاناً واسترض قلبك بنفسك نيابة عن أخيك واحترز أن تكون شيطاناً إن لم تقبل. (18)
ثانياً: المِراء بلا فائدة
قال عبد الله بن الحسين: المراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلا يأتيك بالغضب. (19)
وللمِراء آفات كثيرة منها: الغضب؛ ولهذا فقد نهى الشارع عنه، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا).(20)
وحقيقة المراء طَعْنُك في كلام غيرك لإظهار خللٍ فيه لغير غرض سوى تحقير قائله وإظهار مزيتك عليه.
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: المراءُ لا تُعقلُ حكمتُه، ولا تُؤمنُ فتنتُه.(21)
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لا تمارِ أخاك؛ فإنه لا يأتي بخير، وقال: لا أماري أخي إما أن أغضبه وإما أكذبه.
وقال سليمان بن داود لابنه: يا بُنيَّ، إياك والمراء؛ فإنه ليست فيه منفعة وهو يُهيِّج بين الإخوان العداوة. (22)
ثالثاً: كثرة المزاح
فالمزاح كثيره يُورث الضغينة ويجرُّ إلى القبيح، والمزاح كالملح للطعام قليله يكفي وإن كثُرَ أضَرَّ وأهلَكَ.
لا تمزَحَنَّ فإنْ مزَحْتَ فلَا يَكُنْ. . . مَزحًا تُضافُ به إلى سُوءِ الأدبْ
واحْذرْ ممازحةً تعودُ عداوةً. . . إن المزاحَ علَى مُقَدِّمَةِ الغضبْ(23)
قال الماوردي: اعلم أن للمزاح إزاحة عن الحقوق، ومخرجا إلى القطيعة والعقوق.
إن المزاح بدؤه حلاوه. . . لكنما آخره عداوه
يحتد منه الرجل الشريف. . . ويجتري بسخفه السخيف(24)
فتجد بعض المكثرين من المزاح يتجاوز الحد المشروع منه: إما بكلام لا فائدة منه، أو بفعل مؤذ قد ينتج عنه ضرر بالغ، ثم يزعم بعد ذلك أنه كان يمزح؛ لذلك سدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الباب لما يترتب عليه من المشاحنات، فعن السائب بن يزيد -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ صَاحِبِهِ جَادًّا وَلاَ لاَعِبًا). (25)
قال سعيد بن العاص: لا تمازح الشريف فيحقد، ولا الدني فيجترئ عليك.
وقال ميمون بن مهران: إذا كان المزاح أمام الكلام، فآخره الشتم واللطام
وسُئل الحجّاج ابن الفرية عن المزاح فقال: أوله فرحٌ وآخره تَرحٌ، المزاحُ فَحْلٌ لا يُنتجُ إلا الشرَّ. وقيل: المزاح مجلبةٌ للبغضاء مثلبة للبهاء مقطعة للإخاء. (26)
رابعاً: بذاءة اللسان وفحشه
فمن أسباب الغضب الشتم أو السب أو التعيير، وكل ذلك يوغر الصدور، ويثير الغضب ، والله تعالى لا يحب مَن يتصف بهذه الصفات، عَنْ عَائِشَةَ ’ أَنَّ رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَاحِشَ الْمُتَفَحِّشَ). (27)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ). (28)
خامسا: الصحبة السيئة
من أسباب الْغَضَب مصاحبة الأشْرَار الَّذِينَ لا يفرقون بين الممدوح والمذموم من الْغَضَب فيحسبون التهور والطيش شجاعة ويعدون طغيان الْغَضَب الموجب للظلم رجولة ويتبجحون بذَلِكَ، فَيَقُولُ الواحد مِنْهُمْ: أَنَا الَّذِي لا أصبر عَلَى مكروه، ولا عَلَى مكر ولا أحتمل من أحد أمراً، ومعناه حَقِيقَة: لا عقل فِي ولا حلم يذكر فِي معرض الفخر بالجهل فإِذَا سمعه الجاهل رسخ فِي ذهنه حسن الْغَضَب وحب التشبه بالقوم فيقوي به الْغَضَب. (29)
وقد قيل: مَنْ يَصْحَبُ الأشْرارَ يُعَدُّ شِرِّيرًا. وقِيلَ:
عَن المَرءِ لَا تَسلْ وسلْ عنْ قَرينهِ. . . فكلُّ قَرينٍ بالمقارِنِ يَقْتَدِي
إذا كان ذَا شَرٍّ فَجَنِّبْهُ سُرْعةً. . . وَإِنْ كَانَ ذَا خَيْرٍ فَقَارِنْهُ تَهْتَدِي
المحور الرابع: علاج الغضب
شدة الغضب داءٌ خطير، والله عز وجل ما أنزل داء إلا أنزل له شفاء، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً). (30) والدواء الناجع لهذا المرض العضال لا يخرج البتة عن الشريعة الإسلامية التي هي مصدر السلامة والسعادة، فإليك بعض ما ورد في الشريعة لعلاج مرض الغضب:
أولا: تجنُّب أسباب الغضب
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَوْصِنِي، قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ) فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ). (31)
وعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْصِنِي؟ قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ) قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ: فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَا قَالَ، فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ. (32)
قال ابن رجب: لما لم يزده النبي -صلى الله عليه وسلم- في الوصية على (لا تغضب) مع تكراره الطلب، فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر، وأن التحرز منه جماع الخير. (33)
وقال ابن رجب: فقوله -صلى الله عليه وسلم- لمن استوصاه: (لا تغضب) يحتمل أمرين
أحدهما: أن يكون مراده الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق، فإن النفس إذا تخلقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه.
والثاني: أن يكون المراد لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به، فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان الآمر والناهي له.(34)
ثانيا: الاستعاذة بالله من الشيطان
قال ابن القيم: لما كان الغضب والشهوة جمرتين من نار في قلب ابن آدم، أُمر أن يطفئهما بالوضوء والصلاة، والاستعاذة من الشيطان الرجيم. (35) قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36]
قال ابن كثير: وإما يُغضبنَّك من الشيطان غضبٌ يصدك عن الإعراض عن الجاهلين ويحملك على مجازاتهم {فاستعذ بالله} أي: فاستجر بالله من نزغه. (36)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا غَضِبَ الرَّجُلُ فَقَالَ أَعُوذُ بالله سكن غضبُه). (37)
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَرَجُلاَنِ يَسْتَبَّانِ، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ). فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ). (38)
قال ابن القيم: وأما الغضب فهو غول العقل يغتاله كما يغتال الذئبُ الشاة وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته. (39) لذلك ينبغي للمسلم عند الغضب أن يلجأ إلى ربه ليحميه من نزغات عدوه الذي يسعى جهده أن يوقعه في الهلكات.
ثالثا: تغيير الحال التي كان عليها
قال ابن مفلح: يستحب لمن غضب إن كان قائما جلس، وإذا كان جالسا اضطجع.
وقال ابن عقيل: ويستحب لمن غضب أن يغيِّر، فإن كان جالسا قام واضطجع، وإن كان قائما مشى. (40)
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (إِذَا غَضِبْتَ فَاجْلِسْ). (41)
وعَنْ أَبِي ذَرّ -رضي الله عنه- قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَنَا: (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ). (42)
قال ابن رجب: المعنى في هذا أن القائم متهيئ، للانتقام، والجالس دونه في ذلك، والمضطجع أبعد عنه، فأمره بالتباعد عن حالة الانتقام. (43)
وقال ابن قدامة: الحكمة من الجلوس والاضطجاع، يمكن أن يكون إنما أمر بذلك ليقرب من الأرض التي منها خُلِق، فيذكر أصلَه فيَذِل، ويمكن أن يكون ليتواضع بذله، لأن الغضب ينشأ من الكبر. (44)
رابعا: السكوت عن الكلام حتى يهدأ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ). (45)
قال ابن رجب: وهذا دواء عظيم للغضب، لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيرا من السباب وغيره مما يعظم ضرره، فإذا سكت زال هذا الشر كله عنه.
قال عطاء بن أبي رباح: ما أبكى العلماء بكاء آخر العمر من غضْبةٍ يغضبها أحدهم فتهدم عمل خمسين سنة، أو ستين سنة، أو سبعين سنة، ورب غضبة قد أقحمت صاحبها مقحما ما استقاله.(46)
وما أحسن قول مورق العجلي: ما امتلأتُ غيظا قط ولا تكلمتُ في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت.
وغضب يوما عمر بن عبد العزيز فقال له ابنه عبد الملك: أنت يا أمير المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضلك به تغضب هذا الغضب؟ فقال له: أو ما تغضب يا عبد الملك؟ فقال عبد الملك: وما يغني عني سعةُ جوفي إذا لم أرددْ فيه الغضب حتى لا يظهر؟. فهؤلاء قوم ملكوا أنفسهم عند الغضب رضي الله عنهم. (47)
وقال ميمون بن مهران: جاء رجل إلى سلمان، فقال: يا أبا عبد الله أوصني، قال: لا تغضب. قال: أمرتني أن لا أغضب وإنه ليغشاني ما لا أملك. قال: فإن غضبت، فأمْلك لسانك ويدك. (48)
قال سالم بن ميمون الخواص:
إِذَا نَطَقَ اللَئِيمُ فَلَا تُجِبْهُ. . . فَخَيْرٌ مِنْ إِجَابَتِهِ السُّكُوتُ
سَكَتُّ عَنْ السَّفِيهِ فَظَنَّ أَنِّي. . . عَيِيتُ عَنْ الْجَوَابِ وَمَا عَيِيتُ
لَئِيمُ الْقَوْمِ يَشْتِمُنِي فَيَحْظَى. . . وَلَوْ دَمُهُ سَفَكْتَ لَمَا حَظِيتُ
فَلَسْتُ مُشَاتِمًا أَبَدًا لَئِيمًا. . . خَزِيتُ لِمَنْ يُشَاتِمُنِي خَزِيتُ(49)
خامسا: الوضوء
قال الغزالي: ويُستحب لمن وقع في الغضب أن يتوضأ بالماء البارد؛ فإن الغضب من النار، والنار لا يطفئها إلا الماء. (50)
عَنْ عَطِيَّةَ بن عروة السعدي -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ،
وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ). (51)
قال ابن القيم: فما أطفأ العبدُ جمرةَ الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة، فإنها نار والوضوء يطفئها والصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك كله وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه. (52)
سادسا: استحضار الأجر العظيم المترتب على كظم الغيظ
فمن استحضر الثواب الكبير الذي أعده الله تعالى لمن كظم غيظه وغضبه كان ذلك سبباً في ترك الغضب والانتقام للنفس، وهذه بعض الأدلة من الكتاب والسنة فيها جملة من الفضائل لمن ترك الغضب:
1- تحصيل مرتبة الإحسان والفوز بمحبة الرحمن
قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]
ومرتبة الإحسان هي أعلى مراتب الدين. وقال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 36، 37]
قال السعدي: أي: قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعة حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله، كظموا ذلك
الغضب فلم ينفذوه، بل غفروه، ولم يقابلوا المسيء إلا بالإحسان والعفو والصفح. (53)
2- ترك الغضب سبب لدخول الجنة
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ: (لَا تَغْضَبْ وَلَكَ الْجَنَّةُ). (54)
3 - المباهاة به على رؤوس الخلائق
عن معاذ بن أنس -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ)(55)
4 - النجاة من غضب الله تعالى
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ). (56)
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ، سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ، كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ). (57)
فالجزاء من جنس العمل، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: (اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ)، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ: (أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ) أَوْ (لَمَسَّتْكَ النَّارُ). (58)
5 – تحصيل الأجر وزيادة الإيمان
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ، مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ). (59)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ جَرْعَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ، مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ لِلَّهِ إِلاَّ مَلأَ اللَّهُ جَوْفَهُ إِيمَانًا). (60)
قال الحسن البصري: ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة، وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم.(61)
جاء غلام لأبي ذرٍّ الغفاري -رضي الله عنه- قد كسر رِجْلَ شاةٍ له. فقال له أبو ذر: مَن كسر رِجْل هذه الشاة؟ قال: أنا. قال: ولمَ؟ قال: لأغيظك فتضربني فتأثم! فقال أبو ذر: لأغيظن مَن حرّضك على غيظي؛ فأعتقه. (62)
سابعا: الإكثار من ذكر الله تعالى
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]
فمن اطمأن قلبه بذكر الله تعالى كان أبعد ما يكون عن الغضب.
قال عكرمة في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]: إذا غضبتَ.(63)
والنفس تهدأ وترتاح من الهم والغضب والحزن إذا ذكرت الله وأثنت عليه وسبحته.
ثامناً: النظر في نتائج الغضب
فإذا كان الإنسان شديد الغضب تجده مصاباً بأمراض كثيرة كالسكر والضغط والقولون العصبي وغيرها من الأمراض الخطيرة، كما أنه بسببه تصدر من الغاضب تصرفات قولية أو فعلية يندم عليها بعد ذهاب الغضب، فعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: إِنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا قَتَلَ أَخِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَقَتَلْتَهُ) فَقَالَ: نَعَمْ قَتَلْتَهُ، قَالَ: (كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟). قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ(64) مِنْ شَجَرَةٍ، فَسَبَّنِي، فَأَغْضَبَنِي، فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ، فَقَتَلْتُهُ، وَاللهِ مَا أَرَدْتُ قَتْلَهُ. (65)
فأزهق الرجلُ روح صاحبه في لحظة غضب، وأبدى ندمه وظهرت حسرته.
قال المنصور في كلام لولده المهدي: لذة العفو أطيب من لذة التشفي، وذلك أن لذة العفو يلحقها حمْدُ العاقبة ولذة التشفي يلحقها ذمُّ الندم. (66) فكم حلَّت من مصيبة ودمار وهلاك بسبب الغضب، وبسبب ساعة غضب قطعت الأرحام، ووقع الطلاق، وتهاجر الجيران، وتعادى الإخوان، لذلك قال ابن القيم: أَوْثِقْ غضبَك بسلسلة الحلم؛ فإنه كلبٌ إن أفلتَ أتلف. (67)
تاسعاً: أن تعلم أن القوة في كظم الغيظ ورده
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ). (68)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لَيْسَ الشَّدِيدُ مَنْ غَلَبَ النَّاسَ وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ مَنْ غَلَبَ نَفْسَهُ). (69)
قال ابن القيم: وهذا لا يقتضي نفي الاسم عن الذي يصرع الرجال، ولكن يقتضي أن ثبوته للذي يملك نفسه عند الغضب أولى. (70)
وعَنْ أَنَس بن مالك -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: مَرَّ بِقَوْمٍ يَصْطَرِعُونَ، فَقَالَ: (مَا هَذَا؟)، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فُلَانٌ الصِّرِّيعُ لَا يُنْتَدَبُ لَهُ أَحَدٌ إِلَّا صَرَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ؟ رَجُلٌ ظَلَمَهُ رَجُلٌ فَكَظَمَ غَيْظَهُ فَغَلَبَهُ، وَغَلَبَ شَيْطَانَهُ، وَغَلَبَ شَيْطَانَ صَاحِبِهِ). (71)
قال أبو ذرّ الغفاري -رضي الله عنه- لغلامه: لم أرسلتَ الشّاة على العلف؟ قال: أردتُ أن أغيظك، قال: لأجمعنّ مع الغيظ أجراً، أنت حرٌّ لوجه الله تعالى. (72)
وأَسْمَعَ رجلٌ الشّعبِيّ كلَاما، وعدَّد فيه خصالاً قبيحةً - والشعبِيّ ساكت - فلمَّا فرغ الرجلُ مِن كلَامه، قالَ: واللِّهِ لأغيظنَّ مَن أمرك بِهذا: إِن كُنت صادِقا، فغفرَ اللهُ لي، وإِن كنتَ كاذِباً فغفرَ اللهُ لك. قيل: يا أَبا عامر: ومن أمرهُ بهذا؟ قال: الشيطانُ. (73)
وقال رجل للفضيل بن غزوان: إن فلانا يقعُ فيك، قال: لأغيظنَّ مَن أمره، غفر الله له، قيل له: مَن أمره؟ قال: الشيطانُ. (74)
عاشرا: أخذ الدروس من الغضب السابق
فلو استحضر كلّ إنسان قبل أن يُنفذ غضبه الحاضر ثمرةَ غضبٍ سابقٍ ندم عليه بعد إنفاذه لما أقدم على ما تمليه عليه نفسه الأمارة بالسوء مرة ثانية، فمنع الغضب أسهل من إصلاح ما يفسده. قال ابن حبان: سرعةُ الغضب من شيم الحمقى كما أن مجانبته من زيّ العقلاء، والغضب بذر الندم؛ فالمرء على تركه قبل أن يغضب أقدر على إصلاح ما أفسد به بعد الغضب. (75)
الحادي عشر: معرفة أن المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة فتركه إغلاق لباب من أبواب العصيان
قال ابن القيم: لما كانت المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة، وكان نهاية قوة الغضب القتل، ونهاية قوة الشهوة الزنا، جمع الله تعالى بين القتل والزنا، وجعلهما قرينين في سورة الأنعام، وسورة الإسراء، وسورة الفرقان، وسورة الممتحنة، وأرشد عباده إلى ما يدفعون به شر قوتي الغضب والشهوة من الصلاة والاستعاذة. (76)
قال ابن القيم: دخل النّاسُ النّارَ من ثلاثة أبواب؛ باب شبهة أورثت شكّا في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضب أورثَ العدوان على خلقه. (77)
الثاني عشر: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب
قال ابن قدامة: من آثار الغضب في الظاهر، تغير اللون، وشدة الرعدة في الأطراف، وخروج الأفعال عن الترتيب، واستحالة الخِلْقة، وتعاطى فعل المجانين، ولو رأى الغضبان صورته في حال غضبه وقبحها وأنه يشبه حينئذ الكلب الضاري، والسَّبُع العادي، لأنفتْ نفسه من تلك الحال، ومعلوم أن قبح الباطن أعظم. (78)
الثالث عشر و أخيرا: الدعاء والتضرع أن يصرف عنا شر الغضب
فالدعاء أعظم ما يدفع عن العبد الشر وأعظم ما يجلب له الخير، ومن جوامع الدعاء في هذا الباب، حديث عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو بهذا الدعاء (اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ). (79)
---
(1) مقاييس اللغة (4/ 428)
(2) تفسير القرطبي (1/ 150)
(3) التعريفات (ص: 162)
(4) جامع العلوم والحكم (1/ 369)
(5) إحياء علوم الدين (3/ 167)
(6) رواه البخاري (6786) ومسلم (2328)
(7) رواه البخاري (3560) ومسلم (2327)
(8) رواه البخاري (704) ومسلم(466)
(9) رواه ابن ماجه (85) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (1/ 157)
(10) رواه النسائي (3/ 54) والبزار (1392) من حديث عمار بن ياسر -رضي الله عنهما-، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (2/ 770)
(11) رواه البخاري (31) ومسلم (1661)
(12) رواه مسلم (2621)
(13) أحمد (2/ 323)
(14) رواه البخاري (4513)
(15) رواه البخاري (4642)
(16) إحياء علوم الدين (2/ 220)
(17) رواه مسلم (91)
(18) إحياء علوم الدين (2/ 185)
(19) البيان والتبيين للجاحظ (1/ 315)
(20) رواه أبو داود (4800) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 306)
(21)الصمت لابن أبي الدنيا (ص: 100)
(22) الزهد لهناد بن السري (2/ 557)
(23) الآداب الشرعية لابن مفلح (2/ 223)
(24) أدب الدنيا والدين (ص: 310)
(25) رواه أحمد (4/ 221) وصححه شعيب الأنؤوط في تحقيقه للمسند (29/ 460)
(26) الآداب الشرعية والمنح المرعية (2/ 223)
(27) رواه أبو داود (4792) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1312)
(28) رواه أحمد (1/ 416) و الترمذي (1977) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 949)
(29) موارد الظمآن لعبد العزيز السلمان (4/ 558)
(30) رواه البخاري (5678)
(31) رواه البخاري (6116)
(32) رواه أحمد (5/ 373) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 45)
(33) جامع العلوم والحكم (1/ 362)
(34) جامع العلوم والحكم (1/ 364)
(35) زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 423)
(36) تفسير ابن كثير (3/ 533)
(37) رواه السهمي في تاريخ جرجان (ص: 292) وابن عدي في الكامل (6/ 451) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 364)
(38) رواه البخاري (3282) ومسلم (2610)
(39) التبيان في أقسام القرآن (ص: 417)
(40) الآداب الشرعية (2/ 271)
(41) رواه الخرائطي في مساوئ الأخلاق (334) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 180)
(42) رواه أحمد (5/ 152) وأبو داود (4782) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (3/ 1415)
(43) جامع العلوم والحكم (1/ 365)
(44) مختصر منهاج القاصدين (ص: 182)
(45) رواه أحمد (1/ 239) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 180)
(46) جامع العلوم والحكم (1/ 374)
(47) جامع العلوم والحكم (1/ 366)
(48) جامع العلوم والحكم (1/ 368)
(49) الصمت لابن أبي الدنيا (ص: 302)
(50) إحياء علوم الدين (3/ 174)
(51) رواه أحمد (4/ 226) وأبو داود (4784) وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح (3/ 1414)
(52) بدائع الفوائد (2/ 271)
(53) تفسير السعدي (ص: 760)
(54) رواه الطبراني في الأوسط (2353) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 46)
(55) رواه أبو داود (4777) والترمذي (2021) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1112)
(56) رواه أحمد (2/ 175) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 45)
(57) رواه أبو يعلى (4338) والخرائطي في مساوئ الأخلاق (ص: 157) والبيهقي في شعب الإيمان (10/ 542) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 475)
(58) رواه مسلم (1659)
(59) رواه أحمد (2/ 128) وابن ماجه (4189) وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 47)
(60) رواه أحمد (1/ 327) وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (14/ 533)
(61) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية (ص: 42)
(62) تاريخ دمشق لابن عساكر (66/ 211)
(63) تفسير ابن كثير (5/ 149)
(64) أي نجمع الخبط وهو ورق السمر بأن يضرب الشجر بالعصا فيسقط ورقه فيجمه علفا
(65) رواه مسلم (1680) والترمذي (1407)
(66) محاضرات الأدباء / للراغب الأصفهاني (1/ 281)
(67) الفوائد لابن القيم (ص: 51)
(68) رواه البخاري (6114) ومسلم (2609)
(69) رواه النسائي (10156) والطيالسي (2648) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 46)
(70) بدائع الفوائد (2/ 217)
(71) رواه البزار (7272) والطبراني في مكارم الأخلاق(ص: 330) وحسنه الألباني في الصحيحة (7/ 870)
(72) البصائر والذخائر (8/ 35)
(73) نثر الدر في المحاضرات (5/ 95)
(74) الإشراف في منازل الأشراف لابن أبي الدنيا (ص: 276)
(75) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 139)
(76) زاد المعاد (2/ 424)
(77) الفوائد لابن القيم (ص: 58)
(78) مختصر منهاج القاصدين (ص: 180)
(79) رواه النسائي (3/ 54) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 279)