غلاء الأسعار: الأسباب والعلاج
معنى الغلاء
الغلاء بلاء قديم
محاربة الإسلام للغلاء
أسباب الغلاء
كيف نواجه الغلاء
إن غلاء الأسعار من المشكلات الخطيرة التي تواجه الشعوب والأفراد، لما لهذه القضية من تأثير مباشر على معايش كثير من الناس ومصالحهم، فإذا لم تُعالج علاجا سريعا أدَّت إلى كوارث ونتائج سيئة، منها انتشار الفقر في المجتمعات، وظهور الأمراض الاجتماعية الخطيرة من البطالة والسرقة والإجرام، إلى غير ذلك مما يتسبب في سقوط الدول وتلاشيها، لذلك وجب علينا أن نقف مع هذه المشكلة وقفة تأمل لننظر في أسبابها، ونحذر من آثارها، ونبحث جاهدين عن علاجها، سائلين الله تعالى أن يرفع عنا الغلاء والوباء والفتن والمحن، إنه على كل شيء قدير.
المحور الأول: معنى الغلاء
غلا السّعرُ يغلُو، والاسمُ الغَلَاءُ -بالفتح والمدّ- ارتفع، ويقال للشيء إذا زاد وارتفع: قد غلا، فالغلاء هو ارتفاع السعر على معتاده. (1)
المحور الثاني: الغلاء بلاءٌ قديم
فقد وقع الغلاء في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعَنْ أَنَس بن مالك -رضي الله عنه- قَالَ: غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ (إِنَّ اللَّهَ هُوَ المُسَعِّرُ، القَابِضُ، البَاسِطُ، الرَّزَّاقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ). (2)
قال السندي: فيه إشارة إلى أن التسعير تصرف في أموال الناس بغير إذن أهلها، فيكون ظلما فليس للإمام أن يسعر، لكن يأمرهم بالإنصاف والشفقة على الخلق والنصيحة. (3)
ونقل لنا علماؤنا الذين كتبوا في التاريخ الإسلامي فظائع وأهوال بسبب وقوع الغلاء في هذه الأمة من ذلك:
- ما ذكره ابن كثير في أحداث سنة (334 هـ)
قال: في هذه السنة وقع غلاء شديد ببغداد حتى أكلوا الميتة والكلاب، وكان من الناس من يسرق الأولاد فيشويهم ويأكلهم، وكثر الموت في الناس حتى كان لا يدفن أحدٌ أحدا، بل يتركون على الطرقات، فيأكل كثيرا منهم الكلاب، وبيعت الدور والعقار بالخبز، وانتجع الناس البصرة فكان منهم من يموت في الطريق، ومن وصل منهم مات بعد مديدة. (4)
وقال ابن الجوزي: وفي سنة (448هــ) غلت الأسعار، وانقطعت الطريق من القوافل للنهب المتدارك، ولحق الفقراء من معاناة الغلاء ما كان سببا للوباء والموت حتى دفنوا بغير غسل ولا تكفين، وكان الناس يأكلون الميتة، واغْبرَّ الجو، وفسد الهواء، وكثر الذباب، ووقع الغلاء والموت بمصر أيضا، وكان يموت في اليوم ألف نفس، وعظم ذلك في رجب وشعبان، حتى كفن السلطان من ماله ثمانية عشر ألف إنسان، وحمل كل أربعة وخمسة في تابوت، وعم الوباء والغلاء مكة، والحجاز، وديار بكر، والموصل، وخراسان، والجبال، والدنيا كلها. (5)
وقال ابن كثير: وفي سنة (462 هــ) كان غلاء شديد وقحط عظيم بديار مصر، بحيث أنهم أكلوا الجيف والميتات والكلاب، فكان يباع الكلب بخمسة دنانير، وماتت الفيلة فأُكلت، وأفنيت الدواب فلم يبق لصاحب مصر سوى ثلاثة أفراس ; وكان لا يجسر أحد أن يدفن ميِّتَه نهارا، وإنما يدفنه ليلا خُفْيَةً ; لئلا يُنبش فيُؤكل. (6)
وقال ابن كثير: وفي سنة (596 هــ) وفى التي بعدها كان بديار مصر غلاء شديد، فهلك بسببه الغنيُّ والفقير، وهرب الناسُ منها نحو الشام فلم يصل إليها إلا القليل، وتخطفهم الفرنج من الطرقات وغرُّوهم من أنفسهم واغتالوهم بالقليل من الأقوات. (7)
وفي أواخر هذه السنة (694) والتي تليها حصل بديار مصر غلاء شديد، هلك بسببه خلق كثير، هلك في شهر ذي الحجة نحو من عشرين ألفا. (8)
وقال السيوطي: وفي سنة ست وتسعين وخمسمائة توقف النيل بمصر، بحيث كَسَرها، ولم يُكمل ثلاثة عشر ذراعاً، وكان الغلاء المفرط بحيث أكلوا الْجِيَفَ والآدميين.
وفَشَا أكلُ بني آدم واشتُهر وَرُوِي من ذلك العجب العجاب، وتَعَدَّوْا إلى حفر القبور وأكل الموتى، وتمزّق أهلُ مصر كل ممزق، وكثُر الموت من الجوع بحيث كان الماشي لا يقع قدمه أو بصره إلا على ميت أو مَن هو في السياق، وهلك أهل القرى قاطبة بحيث إن المسافر يمر بالقرية فلا يرى فيها نافخ نار، ويجد البيوت مفتحة وأهلها موتى.
وقد حكى الذهبي في ذلك حكايات يقشعر الجِلْدُ من سماعها، قال: وصارت الطرق مُزَرَّعة بالموتى وصارت لحومها للطير والسباع، وبيعت الأحرار والأولاد بالدراهم اليسيرة، واستمر ذلك إلى أثناء سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. (9)
وقال السيوطي: واستهلت سنة خمس وتسعين وستمائة وأهل الديار المصرية في قحط شديد ووباء مفرط، حتى أكلوا الجيف، وبلغ الإردب القمح مائة وسبعين درهما، والخبز كل رطل وثلث بالمصري بدرهم، وأكلت الضعفاء الكلاب، وطرحت الأموات في الطرقات، وكانوا يحفرون الحفائر الكبار، فيلقون فيها الجماعة الكثيرة. (10)
المحور الثالث: محاربة الإسلام للغلاء
فشريعة الإسلام مبنية على تحقيق مصالح العباد في دينهم ودنياهم، لذلك جاء النهي والمنع من كل معاملة تؤدي إلى الغلاء الذي يوقع الضرر بالناس ومن ذلك:
1- النهي عن الغش، فبالغش تباع السلعة المعيبة بأغلى من ثمنها.
2- النهي عن النجش، وهو أن يزيد في سعر السلعة بدون رغبة في الشراء.
3- وكذلك حرمت الشريعة التعامل بالربا لما فيه من الظلم الواضح.
4- النهي عن تلقي الركبان لما فيه من التضييق على أهل المحلة.
5- النهي عن الاحتكار.
قال ابن حجر الهيتمي: الاحتكار المحرم: هو أن يمسك ما اشتراه في الغلاء لا الرخص من القوت بقصد أن يبيعه بأغلى مما اشتراه به عند اشتداد الحاجة إليه، ومتى اختل شرط مما ذكر فلا حرمة. (11)
المحور الرابع: أسباب الغلاء وارتفاع الأسعار
غلاء الأسعار له أسباب كثيرة ومتعددة، ومن أهمها:
السبب الأول: كثرة الذنوب والمعاصي وبُعد الناس عن دينهم
وهي من أشد الأسباب التي أظهرت هذا الوباء العظيم، ومعلوم أن الذنوب سبب هلاك الحرث والنسل، وسبب انتشار الفساد في البر والبحر، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]
يقول الإمام القرطبي: أي ظهر قلةُ الغيث وغلاءُ السعر بما كسبت أيدي الناس. (12)
فالله سبحانه يبتلي عباده ببعض ما كسبت أيديهم لكي ينتبهوا ويراجعوا أنفسهم
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ). (13)
فهل نظر الناس لهذا الحديث العظيم الذي أوضح فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- أثر هذه الذنوب العظيمة التي تعود على أمة الإسلام جميعها بما لا يُحمد عقباه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فالغلاء بارتفاع الأسعار والرخص بانخفاضها، وهما من جملة الحوادث التي لا خالقَ لها إلا الله وحده، ولا يكون شيء منها إلا بمشيئته وقدرته، لكن هو سبحانه قد جعل بعض أفعال العباد سببا في بعض الحوادث، كما جعل قَتْلَ القاتل سببا في موت المقتول، وجعل ارتفاع الأسعار قد يكون لسبب ظلم بعض العباد، وانخفاضها قد يكون لسبب إحسان بعض الناس. (14)
فعلى العبد أن يعلم جيدا أن المصائب التي تُصيبه، والنِّقم التي تَحِلُّ به ما هي إلا بسبب ما عمل وما قدمت يداه، يقول جل وعلا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]
يقول ابن كثير: أي: مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هو عن سيئات تقدمت لكم {ويعفو عن كثير} أي: من السيئات، فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها.(15)
ويقول السعدي: يخبر تعالى أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبون ويكون عزيزا عليهم، إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات، وأن ما يعفو الله عنه أكثر، فإن الله لا يظلم العباد، ولكن أنفسهم يظلمون. (16)
فعلى المسلم أن يعلم يقينًا أن المعاصي والذنوب هي أصل كل داء، وسبب كل بلاء، ومصدر كل وباء، وطريق كل حرمان وشقاء، يقول الإمام ابن القيم: إن الذنوب تزيل النعم ولا بد، فما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصر لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تسلب النعم كلها. (17)
السبب الثاني: حبّ الدنيا والتنافس على تحصيلها بكل طريق
فحب المال والحرص على كسبه بأي طريق - حتى ولو كان عن طريق الحرام – أمر مشاهد للجميع، وخاصة مع انتشار المعاملات الربوية، واختلاط الحلال بالحرام، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20] وعندما يطغى على الناس ذلك يصبح الأمر خطيراً جدا، فيتسبب في أمور كثيرة مخالفة لشريعة الله تعالى، وهذا ما خشية النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته من بعده، فعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيَّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال (وَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ). (18)
وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا إِنَّ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ أَهْلَكَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَهُمَا مُهْلِكَاكُمْ). (19)
وعَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي المَالُ). (20)
السبب الثالث: جشع بعض التجار واحتكارهم للسلع
ففي كثيرٍ من الأحيان يُمسك التِّجَّار السلعة فيقومون بتخزينها وإخفائها، فتَقِلّ في سوق الناس، من أجل رفع ثمنها لتحصيل أكبر مكسب منها، وهذا العمل فيه إضرار بالناس، وخاصة الفقراء وأصحاب الحاجات، وهو أيضاً منهي عنه شرعاً، لأنه من الظلم الواضح البين الذي أمر الله بالبعد عنه، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ القرشي -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ). (21)
يقول الإمام النووي: قال أهل اللغة الخاطئ بالهمز هو العاصي الآثم وهذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار. . . . قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس. (22)
فالتجار إما أن يكونوا معول هدم يزيد من معاناة الفقراء والمحتاجين، و إما أن يكونوا أداة بناء يسهمون في تخفيف الضراء عن المتضررين، لذلك جاءت الأحاديث تبين علو منزلة التاجر الصادق الأمين، ووعيد أهل الجشع والغش منهم، فعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُصَلَّى، فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: (إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنْ اتَّقَى اللهَ، وَبَرَّ وَصَدَقَ). (23)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ). (24)
فمراعاة أحوال المسلمين، ووضع الإجحاف بهم، وترك استغلالهم لا يفعله إلا ذوو القلوب الرحيمة، التي امتلأت عدلاً وصدقاً، وتقوى وإحساناً، وأولئك هم الموعودون بالبركة في أرزقاهم، والسعة في أموالهم، والصحة في أبدانهم، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ، كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ).(25)
السبب الرابع: انعدام الأمن وعدم استقراره
وهذا شيء معلوم شرعا ومشاهد حسا، فالأمن والاستقرار سبب لسعة الأرزاق، فإذا انعدم الأمن قلَّت الأرزاق وظهر الغلاء، لأن الأمن وسعة الرزق متلازمان وجودا وعدما، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]
وقال ممتنا على أهل الحرم، {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57]
المحور الرابع: الواجب على المسلمين عند وقوع مثل هذه المحنة
أولا: الرجوع إلى الله بالتوبة و كثرة الاستغفار
قال ابن القيم: فما زالت عن العبد نعمةٌ إلا بذنب، ولا حلَّتْ به نقمةٌ إلا بذنب، كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة. (26)
قال ابن صُبيح: شكا رجلٌ إلى الحسن البصري الجدوبة فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله. وقال له آخر. ادع الله أن يرزقني ولدا، فقال له: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئا، إن الله تعالى يقول: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10- 11]. (27)
ثانيا: كثرة الدعاء والصدق في التضرع إلى الله
لا شيء أكرم على الله من الدعاء، ولا شيء أنفع للعبد منه، فما استجلبت النعم، ولا استدفعت النقم بمثل الدعاء، به تفرج الهموم، وتزول الغموم، فعَنْ سَلْمَانَ الفارسي -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي العُمْرِ إِلَّا البِرُّ). (28)
ومن أجمع الأدعية الواردة في ذلك حديث أَبِي وَائِلٍ شقيق بن سلمة، عَنْ عَلِيّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ مُكَاتَبَتِي فَأَعِنِّي، قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ، قَالَ: (قُلْ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ). (29)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ). (30)
وكذلك على المسلم أن يكثر من الدعوات التي يفرج بها الله الكروب، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ يَقُولُ: (لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ). (31)
وعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْكُمْ كَرْبٌ أَوْ بَلَاءٌ مِنَ بَلَاءِ الدُّنْيَا دَعَا بِهِ فُرِّجَ عَنْهُ؟) فَقِيلَ لَهُ: بَلَى، قَالَ: ((دُعَاءُ ذِي النُّونِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). (32)
ومن عجيب ما ورد في ذلك قصة دَيْنِ الزبيربن العوام -رضي الله عنه-، فقد ترك دينا كبيرا وأوصى ولده عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- فقال له: يَا بُنَيِّ إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ، فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلاَيَ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ: يَا أَبَةِ مَنْ مَوْلاَكَ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ، إِلَّا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ، فَيَقْضِيهِ. (33)
ثالثا: الصبر الجميل الذي لا تسخط معه على قدر الله
فالغلاء ابتلاء والمؤمن يقابل البلاء بالصبر الجميل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]
وأعظم ثمرات الصبر نيلُ معية الله، ومن كان الله معه فلن يضرَّه ما نزل به من بلاء كغلاء وغيره. قال تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]
وقد مدح الله الصابرين على شظف العيش وضيق الحال فقال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]
رابعا: تقوية الصلة بالله وحسن الظن به سبحانه
قال ابن القيم: إِذا أصبح العَبْد وَأمسى وَلَيْسَ همه إِلَّا الله وَحده تحمل الله سُبْحَانَهُ
حَوَائِجه كلهَا وَحمل عَنهُ كل مَا أهمه وَفرغ قلبه لمحبته وَلسَانه لذكره وجوارحه لطاعته. (34)
ولما كان الفقر والعوز من آثار الغلاء فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر بعظيم أثر التوكل وحسن الظن بالله في محو ذلك، فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ، لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ، أَوْشَكَ اللَّهُ لَهُ، بِالْغِنَى، إِمَّا بِمَوْتٍ عَاجِلٍ، أَوْ غِنًى عَاجِلٍ). (35)
وعن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: إِنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا). (36)
- فمن أحسن ظنه بالله أعطاه الله ما تمناه، عن وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ -رضي الله عنه- قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ). (37)
قال ابن حجر: أي قادرٌ على أن أعملَ به ما ظنَّ أني عامل به. (38)
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: والذي لا إله غيره ما أعطي عبد مؤمن شيئا خيرا من حسن الظن بالله عز وجل والذي لا إله غيره لا يحسن عبدٌ بالله عز وجل الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنه، ذلك بأن الخير في يده. (39)
وعن أبي حازم سلمة بن دينار، أنهم أتوه، فقالوا له: يا أبا حازم أما ترى قد غلا السعر، فقال: وما يغمكم من ذلك؟ إن الذي يرزقنا في الرخص هو الذي يرزقنا في الغلاء. (40)
- وقرن الله العسر باليسر فقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح]
قال ابن مسعود: لو كان العسرُ في جُحر لتبعه اليسر، حتى يستخرجه، لن يغلب عسرٌ يسرين، لن يغلب عسر يسرين. (41)
- ولا أرحم بالعباد من رب العباد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي). (42)
- ورزق الله مكتوب، ولا يحول بينك وبينه غلاءٌ ولا غيرُه، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]
قيل لبهلولبن عمرو: إن السعر قد غلا. فقال: والله ما أبالي، ولو حبة بدينار، إن لله علينا أن نعبده كما أمرنا، وإن عليه أن يرزقنا كما وعدنا. (43)
غلا السعرُ في بغداد من بعد رُخْصه. . . وإني في الحالين بالله واثق
فلستُ أخاف الضيق والله واسع. . . غناه ولا الحرمان والله رازق(44)
خامسا: التربية على الرضا والقناعة بما قسم الله تعالى
أن يعلم المسلم أن معيار الغنى الحقيقي ليس هو كثرة المال و وفرته و إنما هو غنى
النفس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ). (45)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (ارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ، تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ). (46)
سادسا: التربية على الاعتدال ونبذ الترف والإسراف
فعلينا مراجعة سلوكنا الاستهلاكي الذي نتبعه في شرائنا للحاجيّات، فمن الملحوظ أن كثيرا من النّاس لا يحسن إدارة أمواله و لا طريقة استهلاكه فتجده مسرفا على نفسه من حيث لا يشعر. . وقد ذم الله المسرفين بقوله {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا، وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ). (47)
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ، أَوْ مَخِيلَةٌ. (48)
وقَالَ عُمَرُ بن الخطاب -رضي الله عنه-: الْخُرْقُ فِي الْمَعِيشَةِ أَخْوَفُ عِنْدِي عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَوَزِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَ الْفَسَادِ شَيْءٌ، وَلَا يَقِلُّ مَعَ الْإِصْلَاحِ شَيْءٌ. (49)
ورأَى أَبُو الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- حبا منثورا في غرفته فقال: إِنَّ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ رِفْقَهُ فِي مَعِيشَتِهِ.(50)
سابعا: نشر ثقافة التعامل مع الغلاء ورفع الأسعار
فمن الخطأ الذي يقع فيه الكثير من الناس أنهم إذا سمعوا عن سلعة زاد سعرها ونقصت من السوق هموا بالإكثار من شرائها وتخزينها ظنا منهم أنها ستنفد فيتسبب ذلك في ارتفاع سعرها، والموقف الصحيح عند ارتفاع ثمن أي سلعة أن يحجم الناس عن شرائها واستبدالها بغيرها إذا كان لها بديل وبذلك لا يُستغل الناس من قِبَل المحتكرين
يقول رزين الأَعْرج، غلا الزبيب علينا بمكة، فكتبنا إلى علي بالكوفة، فكتب يقول: أرخصوه بالتمر.(51) أي استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوافراً في الحجاز وأسعاره رخيصة، فيقلّ الطلب على الزبيب فيرخص. وإن لم يرخص فالتمر خير بديل.
وقيل لإبراهيم بن أدهم: إنَّ اللحمَ غلا قال: فأرْخِصُوه أيْ: لا تَشْتروه. (52)
وإذا غلا شَيْء عَلَيَّ تركتُه. . . فيكون أرخص مَا يَكُون إذ غلا
ثامنا: تفعيل روح التكافل الاجتماعي والوقوف بجانب المحتاجين
فمن أعظم أسباب رفع الغلاء ودفع البلاء الوقوف بجانب المحتاجين وإعانة الفقراء والمساكين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ). (53)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (قَالَ اللَّهُ: أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ). (54)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا). (55)
تاسعا: التسعير إن اضطر الناس إلى ذلك
فإذا رأى المسؤولون أن المصلحة في التسعير بدون أن يتضرر التاجر أو المستهلك، فلهم ذلك، وهذا التفصيل قول جماعة من العلماء، واختاره ابن تيمية ونافح عنه تلميذه ابن القيم.
قال ابن تيمية: السعر منه ما هو ظلم لا يجوز ومنه ما هو عدل جائز فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه؛ أو منعهم مما أباحه الله لهم: فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل؛ ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل: فهو جائز؛ بل واجب. (56)
ويقول الإمام ابن القيم: وجماع الأمر أنَّ مصلحة الناس إذا لم تَتِمَّ إلا بالتسعير سَعَّرَ عليهم تَسْعِيرَ عَدْلٍ، لا وَكْسَ- أي نقص- ولا شَطَطَ -أي الظلم- وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يُفعل. (57)
عاشرا وأخيرا: تذكر الموت
فذكر الموت يهون على العبد كل مصيبة وبلاء، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ، فَمَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ قَطُّ وَهُوَ فِي ضِيقٍ إِلَّا وَسَعَهُ عَلَيْهِ، وَلَا ذَكَرُهُ وَهُوَ فِي سَعَةٍ إِلَّا ضَيِّقَهُ عَلَيْهِ). (58)
قال بشر بن الحارث: إذا اهتممتَ لغلاء السعر فاذكر الموت فإنه يذهب عنك هم الغلاء. (59)
ويقول الإمام النووي: فإنها - أي الدنيا - دَارُ نَفَادٍ لاَ مَحَلُّ إخْلاَدٍ، وَمَرْكَبُ عُبُورٍ لاَ مَنْزِلُ حُبُورٍ، ومَشْرَعُ انْفصَامٍ لاَ مَوْطِنُ دَوَامٍ، فلهذا كان الأيقاظ من أهلها هم العبَّاد، وأعقل الناس فيها هم الزُّهاد.(60)
---
(1) راجع فتح الباري لابن حجر (13/ 278) وذخيرة العقبى في شرح المجتبى للأثيوبي (28/ 43) .
(2) رواه أبو داود (3451) والترمذي (1314) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (2/ 875)
(3) حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 20)
(4) البداية والنهاية (15/ 170)
(5) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (16/ 5)
(6) البداية والنهاية (16/ 22)
(7) البداية والنهاية (16/ 693)
(8) البداية والنهاية (17/ 676)
(9) تاريخ الخلفاء (ص: 322)
(10) حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة (2/ 297)
(11) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 389)
(12) تفسير القرطبي (14/ 41)
(13) رواه ابن ماجه (4019) والحاكم (4/ 582) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1321)
(14) المسائل والأجوبة (ص: 118)
(15) تفسير ابن كثير (7/ 207)
(16) تفسير السعدي (ص: 759)
(17) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 271)
(18) رواه البخاري (3158) ومسلم (2961)
(19) رواه ابن حبان (694) وأبو نعيم في الحلية (2/ 102) والبيهقي في الشعب (12/ 514) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 447)
(20) رواه أحمد (4/ 160) والترمذي (2336) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 430)
(21) رواه مسلم ( 1605)
(22) شرح النووي على مسلم (11/ 43)
(23) رواه الترمذي (1210) وابن ماجه (2146) وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 343)
(24) رواه الترمذي (1209) وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 342)
(25) رواه البخاري (1465) ومسلم (1052)
(26) الداء والدواء (ص: 74)
(27) تفسير القرطبي (18/ 302)
(28) رواه الترمذي (2139) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1271)
(29) رواه أحمد (1/ 153) و الترمذي (3563) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 532)
(30) رواه مسلم (2739)
(31) رواه البخاري (6345) ومسلم (2730)
(32) رواه النسائي (10416) وصححه الألباني في صحيح الجامع(1/ 508)
(33) رواه البخاري (3129)
(34) الفوائد لابن القيم (ص: 84)
(35) رواه أبو داود (1645) والترمذي (2326) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 507)
(36) رواه أحمد (1/ 30) وصححه الألباني في تخريج مشكلة الفقر (ص: 24)
(37) رواه أحمد (3/ 491) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 323)
(38) فتح الباري لابن حجر (13/ 385)
(39) حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا (ص: 96)
(40) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 239)
(41) تفسير عبد الرزاق (3/ 438)
(42) رواه البخاري (3194) ومسلم (2751)
(43) تاريخ بغداد (21/ 65)
(44) ربيع الأبرار ونصوص الأخيار للزمخشري (5/ 341)
(45) رواه البخاري (6446) ومسلم (1051)
(46) رواه الترمذي (2305) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 82)
(47) رواه البخاري معلقا (7/ 141) وأحمد (2/ 181) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 830)
(48) صحيح البخاري (7/ 140)
(49) الزهد لوكيع (ص: 784)
(50) الزهد لوكيع (ص: 782)
(51) التاريخ الكبير للبخاري (3/ 325)
(52) حلية الأولياء (8/ 32)
(53) رواه مسلم (2699)
(54) رواه البخاري (5352) ومسلم (993)
(55) رواه البخاري (1442) ومسلم (1010)
(56) مجموع الفتاوى (28/ 76)
(57) الطرق الحكمية (ص: 222)
(58) رواه ابن حبان (2993) والطبراني في الأوسط (8560) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 303)
(59) حلية الأولياء (8/ 347)
(60) رياض الصالحين (ص3)