مصعب بن عُمير أول سفير في الإسلام - خطبة عدد رجب 1439هـ من سلسلة الواعظ

2018-03-19

اللجنة العلمية

مصعب بن عُمير أول سفير في الإسلام

مصعب بن عُمير أول سفير في الإسلام

إن الصحابة رضي الله عنهم أعلامُ الهُدى، ومصابيحُ الدُّجَى، وهمُ الذين ورِثُوا عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- هديَه، وسمْتَه، وخُلُقَه، فالنظر في سيرهم، والاطلاع على أحوالهم - يبعث على التأسي بهم، والاقتداء بهديهم { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]

وهذا عَلَمٌ مِن الأعلام ونجمٌ من النجوم الذين هم أهلٌ أن يُقتدَى بهم، إنه مصعب بن عمير -رضي الله عنه-، ذلكم الشاب التقي الداعية المجاهد الذي نوَّر اللهُ قلبه، فأسلم طائعا وهاجر معلما وداعيا، ومات مجاهدا شهيدًا.

نسبُه: هو مصعب بْن عمير بْن هاشم بْن عبد مناف بْن عبد الدار بْن قصي القرشي.

كنيته: أبو عبد الله، وكان يُلَقَّب (مصعب الخير).

كَانَ ( مصعب) من فضلاء الصحابة وخيارهم، ومن السابقين إِلَى الإسلام

مصعب الفتى المُدَلّل

كان في صغره وقبل إسلامه شابا غنيا جميلا مُدللا مُنَعَّما، حسنَ الوجه يَلبسُ أحسنَ الثياب وأغلاها، يعرفُه أهلُ مكةَ بعِطْره الذي يَفوحُ منه دائما، وأبواه كانا مِن أغنى أغنياء مكة، ويُحبانه حُبا عظيما، ولا يَرُدا له طلبا، بل رغباتُه وطلباتُه كلها مستجابة ومُنفَّذة.

لقد كانتْ أمه تُحِبُّه حُبا شديدًا، حتى أنها كانتْ تَضعُ أطايبَ الطعام عند رأسه وهو نائم، فإذا استيقظ أكل منه؛ فهل بعد ذلك رفاهية ونعيم دنيوي؟

قال محمد بن ثابت بن شُرَحْبيل القرشي: كان مصعبُ بن عمير أعظمَ فتيان مكة شبابا وجمالا، وكان أبواه يُحبَّانِه، وكانت أُمُّه تَكسُوه أحسنَ ما يكونُ مِن الثيابِ وأَرَقَّهُ، وكان أعْطرَ أهلِ مكةَ، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكُره ويقول: ( ما رأيتُ بمكةَ أحسنَ لِمَّــةً (شعرٌ جميل)، ولا أَرَقَّ حُلَّة ( الثياب الناعمة)، ولا أنْعَمَ نِعْمَة مِن مصعب بن عمير. (1)

إسلامُ مصعبٍ

يسمع مصعب بن عمير داعيا يدعو إلى الله، ومناديا ينادي للإيمان { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأحقاف: 31]

فيسرع مصعب -رضي الله عنه-،نحو الداعي مستجيبا لنداء الإيمان ولسان حاله يقول {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ } [آل عمران: 193]

- مصعب بن عمير-رضي الله عنه- لم يمنعه ذلك النعيم مِن أن يدخل في دين الله، فآثر ما عند الله، آثر الآخرة ليحظى بنعيمها، ودخل في دين الله طاعة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل كما يقول بعض المترفين اليوم من شبابنا: إن هذا الدين كَبْتٌ وحبسٌ للمشاعر وحرمانٌ من اللذات؟!

- مصعب بن عمير-رضي الله عنه- لم يَدفعْه جمالُه ولا منصبُه أن يجمع حولَه الشبابَ الضائع المائع المتكسر البعيد عن الرجولة لينشغل بمغازلة النساء ومعاكستهن، بل سمع دعوة الحق، فاستجاب لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- في وقتٍ كان المسلمون يعانون مِن أذى المشركين وتسلطهم، فأسرع للقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهناك أعلن إسلامه، لينضم إلى قائمة السابقين الأولين وهم أعظم الأمة شرفا وقدْراً وأجراً.

مصعب مثالٌ للثبات على الدين مع كثرة الفتن والمغريات

أسلمَ مصعب بن عُمير، فعلمتْ به أُمُّه وكانت تُحبه حباً شديداً، فحاولتْ أن تُثنِيَه عن الإسلام بعدة طرق في غاية القسوة، فلقد تعرَّض مصعب لجميع أنواع الأذى، ومع ذلك ضرب لنا المثال الرائع في الثبات على الدين والتمسك به مع كثرة الفتن وتنوُّعِها، ومن أنواع الأذى التي تعرَّض لها:

1 - الأذى النفسي: فلما علمتْ أُمُّه بإسلامه خرجت ناشرةً شَعْرَها، وقالت: لا ألبسُ خِماراً، ولا أستظلُّ، ولا أدَّهنُ ولا آكلُ طعاماً، ولا أشرب شراباً حتى تدعَ ما أنتَ عليه؟ فلم يعبأْ بذلك، فقال أخوه  أبو عَزيز بنُ عُمير: يا أُمَّه دَعيني وإياه فإنه غلام صغير مُرَفَّه، ولو أصابه بعضُ الجوع لترك ما هو عليه، ثم أخذه وحبسه.(2)

2 - الأذى المادي: إذ قُطعت عنه جميع الموارد المالية التي كان يحصل عليها لاسيما مِن قِبَلِ أُمّه، حتى أصبح لا يجد ما يَلبس إلا فروة لا تكاد تواريه. فقد قال علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-  إنا لجلوسٌ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد إذ طلع علينا مصعب بنُ عُمير -رضي الله عنه- وما عليه إلا بردةٌ له مَرْقُوعةٌ بفرْوٍ، فلما رآه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بكى للذي كان فيه مِن النعمة، والذي هو فيه اليوم. (3)

وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ-رضي الله عنه-، قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ مُقْبِلًا، وَعَلَيْهِ إِهَابُ كَبْشٍ قَدْ تَنَطَّقَ بِهِ ( يعني يَلبس فروةً من جلد)، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ( انْظُرُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قَدْ نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَيْنَ أَبَوَيْنِ يُغَذِّوَانَهُ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَدَعَاهُ حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى مَا تَرَوْنَ). (4) لكنَّ مصعبا كان يعلم أنَّ ما حُرم منه في هذه الدنيا فما عند الله خير وأبقى، لذلك لم يتنازل أمام حرمان أمه، ولم يزدَدْ إلا ثباتا ورسوخا ولسانُ حاله يقول: { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الشورى: 36]

2 - الأذى الجسدي: فقد ذَبُلَ جسمُه وتغيّر لونُه وأصابه مِن الجوع ما لا يستطيع الوقوف ولا المشي معه.

لمّا حاصرَ المشركون النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين معه في شِعْبِ أبي طالب، أُجْهِدَ مصعب -رضي الله عنه- فلم يَعُدْ يَقدر على المشي مع ما أصاب جسده مِن ضعف بعد ما كان مرفهاً مدللاً؛ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه-: كَانَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَتْرَفَ غُلَامٍ بِمَكَّةَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ، فَلَمَّا أَصَابَهُ مَا أَصَابَنَا لَمْ يَقْوَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّ جِلْدَهُ لَيَتَطَايَرُ عَنْهُ تَطَايُرَ جِلْدِ الْحَيَّةِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَسقُطُ فَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْشِيَ، فنَحْمِلُهُ عَلَى عَوَاتِقَنَا. (5)

وهذا كلُّه يبين بجلاء نجاحَ التربية النبوية في غرس المبادئ والثبات عليها في نفوس الصحابة -رضي الله عنهم-، وهو ما نحتاجه اليوم في تربيتنا للأجيال على مبادئ الكتاب والسنة والصبر على ما يواجهونه من مصاعب في سبيل ذلك. (6)

ولما اشتد الإيذاء بالمسلمين، هاجر إلى أرض الحبشة، ثم عاد منها إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة، لماذا يا تُرى؟ ولماذا المدينة بالذات؟

أول سفير للإسلام

 لقد اختاره النبي -صلى الله عليه وسلم- أولَ وخيرَ سفيرٍ في الإسلامِ إلي يثرب (المدينة المنورة)، ليُعلِّم الناس القرآن ويُصلي بهم. . . إنه الشرف العظيم، والمكانة الرفيعة لهذا الشاب المؤمن

- قَدَّر مصعبٌ -رضي الله عنه- المسؤوليةَ التي أُنيطت به، وحَمَل لواء الدعوة إلى الله عقيدة وسلوكا وجهادا، ليصل إلى يثرب ( المدينة المنورة) ليُمهِّدها لتكون دارَ الهجرة ودولة الإسلام. .

- وصل مصعب المدينة ونزل على ( أسعد بن زرارة) وأخذ يدعو الناس إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان يتنقل في يثرب من دار إلى دار، يتلو عليهم القرآن ويذكر لهم ما يحفظ من أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- ضاربا المثلَ الطيب في العبادة والتقوى.

ولم يكن يمَّر يوم دون أن يُسلم الرجل أو الرجلان، ولم يترك بيتا إلا ترك فيه أثرًا طيبًا.

وقد أسلم على يديه في يوم واحد (سعد بن معاذ) و(أسيد بن حضير) من كبار زعماء يثرب، وأسلم بإسلامها خلق كثير.

قال ابن الأثير: أسلم عَلَى يدي مصعب، أسيدُ بْن حُضير، وسعدُ بْن معاذ، وكفى بذلك فخرا وأثرا فِي الإسلام. (7)

نعم، فلقد أسلمَ بإسلام سعد بن معاذ -رضي الله عنه- خلقٌ كثير من قومه، فإنه لما أسلم  ذهب إلى قومه في المكان الذي يجتمعون فيه،ووقف عليهم ثم قال: يا بني عبد الأشهل (قبيلته) كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدُنا وأفضلُنا رأيا، قال: فإن كلامَ رجالِكم ونسائِكم عليَّ حرامٌ حتى تؤمنوا بالله وبرسوله. يقول الراوي: فو اللهِ ما أَمسى في دارِ بني عبدِ الأشهلِ رَجُلٌ ولا امْرَأةٌ إلا مُسلما ومُسلِمة. (8)

مكث مصعب بن عمير-رضي الله عنه- سنة كاملة يدعو أهلَ المدينة ويعلمهم حتى أسلمَ على يديه خلقٌ كثير، ثم خرج مِن المدينة حتى قدمَ مكة فنزل أولَ ما نزل على منزلِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يذهب إلى منزل أُمِّه، فجعلَ يخبرُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن الأنصار وسرعتِهم إلى الإسلام، وشوقهم إلى قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم مهاجرا، فسُرَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بكلِّ ما أخبره.

وبَلَغَ أُمَّه أنه قد قَدِمَ فأرسلتْ إليه: يا عاقُّ أَتَقْدَمُ بلدًا أنا فيه لا تَبدَأُ بِي؟ فقال: ما

 كنتُ لأبدأَ بأحدٍ قبْلَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فلما سَلَّم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بما أخبره ذهبَ إلى أُمِّه فقالت: ما تزالُ على ما أنتَ عليه مِن الصَّبْأَةِ!(9) قال: أنا على دينِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الإسلام الذي رضيه اللهُ لنفسه ولرسوله. فجعلتْ أُمُّه تبكي. فقال مصعب: يا أُمَّه إني لكِ ناصح وشفيقٌ عليكِ، فاشهدي أنه لا إله إلا الله وأنَّ محمدا عبدُه ورسوله. قالت: والثَّوَاقبِ(10) لا أدخل في دِينِكَ فيُزْرَى برَأْيِي ويُضَعَّف عَقْلِي ولكنِّي أَدَعُكَ وما أنتَ عليه وأَقيمُ على دِينِي. (11)

وفي هذا يظهر حرص مصعب -رضي الله عنه- على هداية أُمِّه ودعوتها للإسلام بأسلوب كلِّه شفقة ورحمة، ولكنَّ الهداية بيد لله، حيث قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]

وإن دعوة الإنسان والديه للإسلام مِن أعظم البر الذي يقدم لهما.

كما يظهر ثبات مصعب -رضي الله عنه- على دينه وعدم تنازله عنه رغم التهديدات والصعوبات التي واجهته.

مصعب يُعلِّمُنا درسا في معنى الأُخوة الحقيقية

بعد غزوة بدر كان من بين الأسرى الذين أسرهم المسلمون " أبو عزيز بن عمير، أَسَرَه رجلٌ من الأنصار، وأبو عَزيز هذا أخوه مصعب بن عمير -رضي الله عنه- لأُمِّه وأبيه. فقال مصعب للأنصاري: اُشدُدْ يديك به، فإن له أُمّاً بمكة كثيرةَ المال. فقال له أبو عزيز: هذه وصاتُك بي يا أخي؟ فقال مصعب -رضي الله عنه- إنَّ الأنصاري أخي دونك!. فعلمتْ أُمه فسألتْ عن أغلى ما

فُدِي به قرشي، فقيل لها: أربعةُ آلاف دِرهم. فبعثت بأربعة آلاف درهم ففدته بها.(12)

مصعب الشهيد

وتمضي الأيام والأعوام، وفي غزوة أحد، اختار الرسول -صلى الله عليه وسلم- مُصعبا ليحمل لواءَ المسلمين، وتقعُ المعركة ويشتدّ القتال، وكان النصرُ بداية للمسلمين، ولكن سرعان ما تحوَّل النصرُ إلى هزيمة لمَّا خالفَ الرماةُ أمرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزلوا مِن فوق الجبل يجمعون الغنائم، فأخذ المشركون يقتلون المسلمين الذين بدأت صفوفُهم تتمزق، فرَكَّزَ الأعداءُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذوا يتعقبونه ليقتلوه، فأدركَ مصعبٌ هذا الخطر، ومضى يقاتل، وهمُّه أن يُلفِتَ أنظارَ الأعداءِ إليه ليشغلهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتجمَّع الأعداءُ حول مصعب، فضربَ أحدُهم يدَه اليمنى فقطعها، فحمل اللواء بيده اليسرى فقطعها عدو الله، فضمَّ اللواء إلى صدره بعضديه، وهو يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144]  فضربه ضربة ثالثة فقتله فمات شهيدا -رضي الله عنه-.(13)

فلما انتهت المعركة وقف عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعا له وقرأ: {  مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } [الأحزاب: 23].

وسام شرف وتزكية من سيد البشر -صلى الله عليه وسلم- لهذا البطل الذي ثبت على دينه وعقيدته، ثبات الجبال إلى آخر لحظة من حياته.

كانت خاتمة مصعب الشهادة في سبيل الله. . . ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه.

قال تعالى: { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169، 170]

- مصعب بن عمير-رضي الله عنه-  الشاب الذي كانت تنظرُ إليه العيون إكبارا وإعجابا لحُسْنِه وغناه ومكانته، ينسلخ من ذلك الترف والنعيم كلِّه مبتغيا وجهَ الله تعالى، وما أعدَّه لعباده المؤمنين، يُقتل شهيدا في سبيل الله، فلا يجد المسلمون عند موته كفنا يكفنوه فيه إلا ثوبا قصيرا، إذا غطوا به رأسه بَدَتْ رجلاه، وإذا غطوا به رجليه بدا رأسه، فغطوا رأسه بالكفن ووضعوا على رجليه شجر الإذخر. (14) عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ-رضي الله عنه- قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى ولَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ، شَيْئًا مِنْ إِذْخِرٍ.(15)

- مصعب بن عمير -رضي الله عنه- باع الدنيا، ففاز بالآخرة، قدم الرخيص، فظفر بالغالي، يأتي يوم القيامة وفي ميزان حسناته كلُّ الذين أسلموا على يديه، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-:(فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ). (16)

- ويأتي يوم القيامة أقوام من أمة النبي -صلى الله عليه وسلم- يحملون أوزارهم على ظهورهم وأوزاراً أخرى أمثال الجبال، لما ضلوا وأضلوا من الخلق عن الحق وصدوا عن سبيل الله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا). (17)

- وأنتَ أيها الشاب: كم مِن الشباب اهتدى على يديك؟ كم شاب كان لا يصلي فأخذتَ بيده إلى الصلاة؟ كم شاب كان على معصية فخَّوفتَه من عقاب الله ورغَّبته في ثواب التائبين فتاب على يديك؟

إياك أن تقول: أنا ما زلتُ صغيرا؟ فأنت كبير بما تحمله في صدرك من همِّ الدين

إياك أن تقول: الدعوة ليست مسؤوليتي، ويكفيني أن أنجو بنفسي؟

قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).(18)

- رحل مصعب الشاب كما سيرحل جميع الناس، ولكنه رحلَ عزيزا وكبيرا، لأنه عاش لدينه وعقيدته، ومن عاش لدينه وعقيدته عاش كبيرا ومات كبيرا، ومَن عاش لنفسه وهواه وشهواته عاش ذليلا مَهينا ومات حقيرا  صغيرا.

- رحل مصعب ولم ترحل ذكراه ولا ذكرى بطولاته ولا ذكرى تضحياته من قلوب المؤمنين الأتقياء في كل زمان ومكان.

- رحل مصعب ليقول للتائهين والحائرين في البحث عن السعادة: مَن كان يظن أن السعادة في المال أو الجاه فقد أخطأ.

من كان يظن أن السعادة في النسب أو الشرف فقد أخطأ. .

من كان يظن أن السعادة في المنصب أو السلطة فقد أخطأ. .

- رحل مصعب ليقول لكل فردٍ مِن هذه الأمة، من كان يريد الرفعة والعزة والسعادة فليطلبها في طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقون: 8].

هذه بعض الإضاءات من سيرة الصحابي الجليل مصعب بن عمير، فهل لشبابنا أن يتخذوه قدوة لهم ويكونوا مثلَه على الأقل في مجال الدعوة إلى الله والعبادة والعمل الصالح؟

- مصعب الذي باع الدنيا بالآخرة وآثر النعيم المقيم على النعيم الزائل، ينبغي أن يكون قدوة لكل شاب مترف يتقلب في نعمة الله تعالى وأراد الرجوع إلى الله.

جَزى اللهُ ( مُصعبا) خيراً عن الإسلام والمسلمين، ورضي اللهُ عنه وعن الصحابة أجمعين، وحشرنا معهم في جنات النعيم، بجوار نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

فتشبّهوا إنْ لم تكونوا مثلَهم. . . إنّ التشبّهَ بالكِرامِ فَلاحُ

من الدروس المستفادة مما سبق:

1- أن مقياس الرجولة والرقى ليس الغنى وجمال المظهر فقط، وإنما مقياس الرجولة الثبات على الحق مهما كَثُرتْ المغريات واشتدت الصعوبات

2- أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

3- أن المؤمنين أخوة، وأنَّ رَحِمَ الإسلام أعزُّ رَحم.

4- تحمُّلُ مسؤولية الدين والقيام بها على أكمل وجه

5- أن المسلمين الأُول بذلوا الكثير، وتحملوا الشدائد والأهوال في سبيل الله.

6- أن المسلم الصادق داعية للإسلام، ناشر لنوره، مجاهد في سبيله.

7- السعادة الحقيقية في طاعة الله وفي العمل لدينه

8- صبر ساعة ( والدنيا ساعة) يورثُ الإنسان نعيما أبديا ( جَنَّة الخُلْد)

9- أنه يجب أن نتأسى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الأبرار، رضى الله عنهم أجمعين.

---

(1) رواه الحاكم  في المستدرك (3/ 200)

(2) أنساب الأشراف للبلاذري (9/ 406)

(3) رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده (1/ 387) وضعفه الألباني ضعيف الترغيب والترهيب (2/ 333)

(4) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 108) والبيهقي في شعب الإيمان (8/ 256) وضعفه الألباني في الضعيفة(11/ 316) وحسنه العراقي في المغني عن حمل الأسفار (ص: 1657)

(5) سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 659)

(6) سيرة الصحابي الجليل مصعب بن عمير / لعدنان الجابري (ص: 27)

(7) أسد الغابة (5/ 175)

(8) سيرة ابن هشام (1/ 437)

(9) كان المشركون يسمون كلَّ من ترك الشرك ودخل الإسلام ( صابئ )

(10) تُقسِمُ بالنجوم، أما المسلم فلا يحلف إلا بالله

(11) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 88)

(12) راجع سيرة ابن هشام (1/ 646) 

(13) راجع الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 89)

(14) رواه البخاري (1276) ومسلم (940) من حديث خباب بن الأرت -رضي الله عنه-

(15) رواه البخاري (3897) ومعنى (نمرة) كساء ملون مخطط.

(16) رواه البخاري (3009) ومسلم (4206) من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه-

(17) رواه مسلم (2674)

(18) رواه البخاري (13) ومسلم (45) من حديث أنس -رضي الله عنه-

عدد المشاهدات 9882