ملف العدد: مهلاً يا رافعي اللواء
ذهبت طائفة من أهل العلم المعاصرين إلى تنزيل مذاهب أهل العلم منزلة الشريعة، فينظرون في المذاهب الفقهية، نظرهم للمذهب الواحد، و يبحثون فيها عما يكون أصلح للناس، و أقرب لروح العصر، و أوفى للحالة الزمانية و المكانية، و أقرب عاقبة زعموا، فيتخيرون من كل مذهب ما يناسب فتواهم، و الترجيح بين هذه المذاهب عندهم ترجيح بين أقوال أصحابها، بحسب ما يلائم الواقع من وجهة نظرهم، وتبعًا لضغط العامة، وليس اعتمادًا على الدليل الراجح في المسألة، أو مُدرك الحكم، وقد عرف هذا الاتجاه باتجاه الفقه المقارن _ ليس كل من انتسب إلى الفقه المقارن ينتمي إلى هذه المدرسة، على أن هذه التسمية نفسها معترض عليها _ بل بلغ الشطط ببعضهم أنه ادعى وجوب عرض المفتي مذاهب أهل العلم على المستفتي و تركه يتخير من مذاهبهم ما يروق لحاله أو قل: يتتبع رخص العلماء.
ورحم الله الإمام ابن عبد البر فقد نقل عن سليمان التيمي في جامع بيان العلم وفضله ( 2 / 927 ) أنه قال: (( لَوْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا إِجْمَاعٌ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. ))
وقال ( 2 /922 ): ((وَقَالَ أَشْهَبُ، سَمِعْتُ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: "مَا الْحَقُّ إِلَّا وَاحِدٌ، قَوْلَانِ مُخْتَلِفَانِ لَا يَكُونَانِ صَوَابًا جَمِيعًا، مَا الْحَقُّ وَالصَّوَابُ إِلَّا وَاحِدٌ"
قَالَ أَشْهَبُ: وَبِهِ يَقُولُ اللَّيْثُ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: " الِاخْتِلَافُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْتُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَنْ لَا بَصَرَ لَهُ وَلَا مَعْرِفَةَ عِنْدَهُ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ.
قَالَ الْمُزَنِيُّ: " يُقَالُ لِمَنْ جَوَّزَ الِاخْتِلَافَ وَزَعَمَ أَنَّ الْعَالِمَيْنِ إِذَا اجْتَهَدَا فِي الْحَادِثَةِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: حَلَالٌ وَقَالَ الْآخَرُ حَرَامٌ فَقَدْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَهْدَهُ وَمَا كُلِّفَ، وَهُوَ فِي اجْتِهَادُهُ مُصِيبٌ الْحَقَّ، أَبِأَصْلٍ قُلْتَ هَذَا أَمْ بِقِيَاسٍ؟
فَإِنْ قَالَ: بِأَصْلٍ، قِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَكُونُ أَصْلًا وَالْكِتَابُ أَصْلٌ يَنْفِي الْخِلَافَ.
وَإِنْ قَالَ بِقِيَاسٍ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ الْأُصُولُ تَنْفِي الْخِلَافَ، وَيَجُوزُ لَكَ أَنْ تَقِيسَ عَلَيْهَا جَوَازَ الْخِلَافِ؟
هَذَا مَا لَا يُجَوِّزُهُ عَاقِلٌ فَضْلًا عَنْ عَالِمٍ.
وَيُقَالُ لَهُ: أَلَيْسَ إِذَا ثَبَتَ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَعْنًى وَاحِدٍ فَأَحَلَّهُ أَحَدُهُمَا وَحَرَّمَهُ الْآخَرُ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا وَنَفْيِ الْآخَرِ أَلَيْسَ يَثْبُتُ الَّذِي يُثْبِتُهُ الدَّلِيلُ وَيُبْطِلُ الْآخَرَ وَيُبْطِلُ الْحُكْمَ بِهِ، فَإِنْ خَفِيَ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَأُشْكِلَ الْأَمْرُ فِيهِمَا وَجَبَ الْوُقُوفُ فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ وَلَا بُدَّ مِنْ نَعَمْ، وَإِلَّا خَالَفَ جَمَاعَةَ الْعُلَمَاءِ.
قِيلَ لَهُ: فَلِمَ لَا تَصْنَعْ هَذَا بِرَأْيِ الْعَالِمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ؟
فَتُثْبِتُ مِنْهُمَا مَا أَثْبَتَهُ الدَّلِيلُ وَتُبْطِلُ مَا أَبْطَلَهُ الدَّلِيلُ؟
قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَا أَلْزَمَهُ الْمُزَنِيُّ عِنْدِي لَازِمٌ؛ فَلِذَلِكَ ذَكَرْتُهُ وَأَضَفْتُهُ إِلَى قَائِلِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ مِنْ بَرَكَةِ الْعِلْمِ أَنْ تُضِيَفَ الشَّيْءَ إِلَى قَائِلِهِ.
وَهَذَا بَابٌ يَتَّسِعُ فِيهِ الْقَوْلُ وَقَدْ جَمَعَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِي هَذَا وَطَوَّلُوا وَفِيمَا لَوَّحْنَا مَقْنَعٌ وَنِصَابٌ كَافٍّ لِمَنْ فَهِمَهُ وَأَنْصَفَ نَفْسَهُ وَلَمْ يُخَادِعْهَا بِتَقْلِيدِ الرِّجَالِ. ))
وقال الأوزاعي: " من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام "(1)
وقال الإمام أحمد: لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع و أهل مكة في المتعة كان فاسقًا. (2)
وقال الشاطبي : " فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها هواه فقد خلع ربقة التقوى وتمادى في متابعة الهوى ونقض ما أبرمه الشارع وأخر ما قدمه ".(3)
---
(1)سنن البيهقي الكبرى ( 10 / 211 / 20707 )
(2) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأبي بكر بن الخلال (رقم 171).
(3) الموافقات ( 2 / 386– 387 ):