الصلاة..... أمُّ العبادات
لقد كان حنين الرعيل الأول إلى الصلاة وإيثارهم إياها على كل ما حُبِّبَ إلى النفس البشرية، ومخاطرتهم بأنفسهم وحياتهم في سبيلها، فقد كانت الصلاة أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، وقد عُرف ذلك لا عند المسلمين فحسب؛ لكنه كان معلومًا أيضاً عند المشركين أنفسهم، فعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- ، قَالَ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَوْمًا مِنْ جُهَيْنَةَ فَقَاتَلُونَا قِتَالاً شَدِيدًا فَلَمَّا صَلَّيْنَا الظُّهْرَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ لَوْ مِلْنَا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً لاَقْتَطَعْنَاهُمْ.
فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ - وَقَالُوا –المشركين-"إِنَّهُ سَتَأْتِيهِمْ صَلاَةٌ هي أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الأَوْلاَدِ"(1).
هكذا كان حال الصحابة مع الصلاة وما فُرض عليهم، وعلى طريقتهم سار التابعون فهذا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: "مَا دَخَلَ عَلَيَّ وَقْتُ صَلَاةٍ إِلَّا وَقَدْ أَخَذْتُ أَهُبَّتَهَا وَلَا دَخَلَ عَلَيَّ قَضَاءُ فَرْضٍ إِلَّا وَأَنَا إِلَيْهِ مُشْتَاقٌ"(2).
لو قارنا حال هؤلاء بحال الكثير من المسلمين في زماننا لوجدنا بونًا شديدًا.
نعم لقد غفل الكثير في زماننا عن أعظم فريضة فرضها الله على عباده، ولا ندري ما السبب في تهاون المتهاونين بالصلوات والجماعات؟!
أغاب عنهم عظيم فضلها أم نسي هؤلاء عاقبة تركها والتهاون فيها؟!
الأدلة على عظم فضل الصلاة
لقد كثرت الأدلة في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- التي تدل على عظم الصلاة وفضلها، ومن جملة ذلك:
1-الصلاة فسطاط الإسلام وعموده:
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي الله عنه- ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ"(3).
قال ابن رجب: "فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاطُ ولا يثبتُ إلا به، ولو سقط العمودُ، لسقط الفسطاط، ولم يثبت بدونه"(4).
2-الصلاة أمرُ الله تعالى:
قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]
وقال سبحانه لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ } [إبراهيم: 31]
3- الصلاة قرينة العبادات:
إن أكثر العبادات ذكرًا في القرآن الكريم الصلاة، فتارة تقرن بالصبر قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]
وقال جل جلاله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]
وكثيرًا ما تقرن بالزكاة، كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]
وتارة تقرن بالجهاد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 77، 78]
4-الصلاة قرة العيون:
عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ"(5).
فالصلاة محِل المناجاة والقربة ولا واسطة فيها بين العبد وربه ولا شيء أقر لعين العبد منها، ومن كانت قرة عينه في شيء فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه لأن فيه نعيمه وبه تطيب حياته"(6).
5-الصلاة ميزان عمل العبد المسلم:
عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاَتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ ْ"(7).
قال ابن القيم: "ولو قبل منه شيء من أعمال البر لم يكن من الخائبين الخاسرين "(8).
6-الصلاة سبيل الفلاح والنجاح:
فقد ذكر ربنا تبارك وتعالى من وصف المؤمنين الذين استحقوا الفلاح والنجاح والفوز بالجنة والنجاة من النار فقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}، وقال عنهم: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11]
7-الصلاة تعصم العبد من ارتكاب الفواحش والمنكرات:
قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]
قال السعدي: "ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أن العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة، مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه، تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها. وثَمَّ في الصلاة مقصود أعظم من هذا وأكبر، وهو ما اشتملت عليه من ذكر اللّه، بالقلب واللسان والبدن. وفيها من عبوديات الجوارح كلها، ما ليس في غيرها، ولهذا قال: { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ }"(9).
8-الصلاة مفزع المؤمنين وملجأهم في الكربات:
فقد أمر الله عباده وأوصاهم بالاستعانة بالصلاة في الشدائد فقال سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]
وقال جل جلاله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } [البقرة: 153]
ولما اشتد إيذاء المشركين للنبي -صلى الله عليه وسلم- خاطبه ربه بقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97 - 99]
وهكذا كان هديه -صلى الله عليه وسلم- ففي صلاة الكسوف والخسوف صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالناس ثم قال: " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلاَ لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ يُرِيهِمَا عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلاَةِ"(10).
فالصلاة هي الفريضة الوحيدة التي لا تسقط عن المسلم المكلف بأي حال من الأحوال إلا إذا كان هناك ما يمنع تكليفه كالمجنون الذي فقد عقله، ففي الخوف وشدة البأس ووقت القتال وفي أصعب الأوقات لا تسقط الصلاة بل شرعت صلاة الخوف، والمسلم إن عجز عن القيام في الصلاة، رخص له في القعود فإن عجز فعلى جنب فإن عجز فله أن يومأ بصلاته، فالصلاة جُنة المسلم وسلاحه، والمِفتاح الذي يفتح به كل قفل، ويكشف به كل هم وغم، ولقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم المقصد من تشريع الصلاة ولذا يقول
عَبْدِ اللَّهُ بن مَسعُود: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاَءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّى هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِى بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِى الصَّفِّ"(11).
هكذا كان فهم الصحابة لدين الله عز وجل وما فرضه سبحانه وتعالى، وما نراه اليوم في زماننا من صور التهاون في أعظم الفرائض-الصلاة- والتكاسل عن أدائها في أوقاتها لمن أعظم المصائب التي حلت بأمتنا ولا حول ولا قوة إلا بالله.
صور من تهاون البعض بالصلاة
لقد تعددت صور التهاون بالصلاة في زماننا وتنوعت فمنها:
**من يجلسون على المقاهي ليل نهار لا يرعون حق الله عليهم ولا يعرفون لأي مسجد طريق.
**ومنهم المدعي أن العمل عبادة فينشغل عن أداء الصلاة في سبيل عرض من الدنيا، وإن صلى ما عليه، جمع تلك الفروض في آخر يومه، محتجًا بأنه شغل بسبب طلب الرزق فأي رزق يرجوه من لا يرعى حق الله عليه، وأي عمل يتعبد به من لم يمتثل أمر الله ويحافظ على فرائض خالقه ورازقه ومليكه.
**ومنهم العاكفون على شبكات الإنترنت ليل نهار، والمتابعون للاعبي الكرة والمباريات، ومنهم العاكف على سماع الأفلام والمسلسلات، وأخبار الفنانين والفنانات، والبرامج الساقطة دون خشية حساب من الله عز وجل.
**ومنهم مُدعي الاجتهاد بحجة أني لا أستطيع المحافظة على أداء الصلاة لتعارضها مع أوقات الدروس أو المحاضرات أو المذاكرة، أو النوم لأجل أنه متعب بسبب الدراسة وغير ذلك مما يدعون، فأي تفوق يُرجى بذلك إن عصيت من بيده ملكوت كل شيء.
تلك بعض الصور من تهاون البعض في أداء الصلاة، ولقد توعد ربنا تبارك وتعالى من يتهاون ويتكاسل عن المحافظة على وقت الصلاة فقال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } [الماعون: 4 - 5]
ووصف النبي -صلى الله عليه وسلم- من يؤخر الصلاة عن وقتها فقال -صلى الله عليه وسلم-: "تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافِقِ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَي الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لاَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً "(12).
وهذا وصف المنافقين في كتاب رب العالمين بأنهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]
وسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لا يتم الصلاة سارقًا، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " إِنَّ أَسْوَأَ النَّاسِ سَرِقَةً - قَالَ: - الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَسْرِقُهَا؟ قَالَ: "لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا"(13).
وعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ: فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]
قَالَ: أَضَاعُوا الْمَوَاقِيتَ، وَلَمْ يَتْرُكُوهَا، وَلَوْ تَرَكُوهَا صَارُوا بِتَرْكِهَا كُفَّارًا(14).
وقال البيهقي: "فَذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمَدَحَهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُمْ فَذَمَّهُمْ، قَالَ تَعَالَيْ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}، ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا يُؤَدِّيهِمْ ذَلِكَ إِلَيْهِ مِنْ سَوْءِ الْعَاقِبَةِ، قَالَ {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] يَعْنِي - وَاللهُ أَعْلَمُ - لَا يَرْشُدُ أَمْرُهُمْ مَعَ إِضَاعَةِ الصَّلَاةِ، وَلَكِنَّهُمْ يُغْوُونَ فَلَا يَزَالُونَ يَقَعُونَ فِي فَسَادٍ بَعْدَ فَسَادٍ كَمَنْ يَضِلُّ الطَّرِيقَ، فَلَا يَزَالُ يَقَعُ فِي مَهْلَكَةٍ بَعْدَ مَهْلَكَةٍ إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِ، فَيَفْسَدُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ، وَجَلَالِ مَوَاقِعِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَاللهُ أَعْلَمُ "(15).
وحكى الإمام الذهبي عَن بعض السلف أَنه أَتَى أُخْتًا لَهُ مَاتَت فَسقط كيس مِنْهُ فِيهِ مَال فِي قبرها فَلم يشْعر بِهِ أحد حَتَّى انْصَرف عَن قبرها ثمَّ ذكره فَرجع إِلَى قبرها فنبشه بَعْدَمَا انْصَرف النَّاس فَوجدَ الْقَبْر يشتعل عَلَيْهَا نَارًا فَرد التُّرَاب عَلَيْهَا وَرجع إِلَى أمه باكياً حَزينًا فَقَالَ يَا أُمَّاهُ أَخْبِرِينِي عَن أُخْتِي وَمَا كَانَت تعْمل قَالَت وَمَا سؤالك عَنْهَا قَالَ يَا أُمِّي رَأَيْت قبرها يشتعل عَلَيْهَا نَارا قَالَ فَبَكَتْ وَقَالَت يَا وَلَدي كَانَت أختك تتهاون بِالصَّلَاةِ وتؤخرها عَن وَقتهَا، فَهَذَا حَال من يُؤَخر الصَّلَاة عَن وَقتهَا فَكيف حَال من لَا يُصَلِّي فنسأل الله تَعَالَى إِن يعيننا على الْمُحَافظَة عَلَيْهَا فِي أَوْقَاتهَا إِنَّه جواد كريم(16).
فيا مقصر في أداء الفروض والصلوات، ويامن تؤخر الصلاة عن وقتها أفق من غفلتك قبل حسرتك، وقبل ندمك يوم لا ينفع الندم، فإن الصلاة ميزان عمل العبد المسلم إذا صلحت صلح سائر العمل وإذا فسدت فسد سائر العمل، ولا راحة للعبد في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أمر الله عز وجل وأداء ما افترضه الله على عباده.
فالخاسر كل الخاسر من ضيع الصلاة، وكيف لا وفي المحافظة عليها سبب لدخول الحنة كما في الحديث عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رضي الله عنه- ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: " خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ "(17).
وإذا أردت أن تقيس قوة الأمة وعزَّها فانظر في مساجدها، ولما كان الصحابة رضوان الله عليهم يمتثلون أوامر الله ويحافظون على الصلوات لا يضيعون أوقاتها كان لهم الغلبة والنصرة من الله عز وجل حتى إن الأرض مشارقها ومغاربها صارت في قبضتهم، وصارت لهم المهابة، فانظر حال الأمة اليوم وما آلت إليه إذا أردت أن تعرف سبب الخذلان والانهزام الذي وقعت فيه أمتنا في هذا الزمان فاسأل عن المساجد وفتش بداخلها كم فيها من المصلين وكم فيها من الخاشعين وكم وكم؟! !
فتمسكوا بهدي النبي-صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام وأخلاقهم، تنالوا الفوز والرضوان من رب العالمين ولله در القائل:
من حاد عن خلق النبي وصحبه والتابعين الغر فهو ليس بسالم
---
(1) أخرجه مسلم(1983).
(2) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم(2/ 163).
(3) أخرجه الترمذي(2825)، والنسائي(11330)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5136).
(4) جامع العلوم والحكم لابن رجب (5/ 4).
(5) أخرجه أحمد(12315)، والنسائي(3940) وهذا لفظه.
(6) وانظر فتح الباري لابن حجر(11/ 345).
(7) أخرجه الترمذي(413) وهو لفظه، والنسائي في الكبرى(322)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير(2020).
(8) الصلاة وحكم تاركها لابن القيم(ص: 48).
(9) تفسير السعدي (ص: 632).
(10) أخرجه البخاري(1058).
(11) أخرجه مسلم (1520).
(12) أخرجه مسلم(1443)، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- .
(13) أخرجه أحمد(11549)، وأبو يعلى في مسنده(1311)، والطبراني في الكبير(3207)، والطيالسي(2333)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (988).
(14) أخرجه الآجري في الشريعة (270)، والسنة لأبي بكر بن الخلال (1380)، وتعظيم قدر الصلاة للمروزي(39).
(15) شعب الإيمان للبيهقي(4/ 293).
(16) الكبائر للذهبي (ص: 25).
(17) أخرجه أبو داود(1422)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (5554).