خطبة : الحج المبرور - عدد ذو القعدة 1438هـ من سلسلة الواعظ

2017-08-10

اللجنة العلمية

الحج المبرور

معناه والسبيل إليه

الحج المبرور

مقدمة: إن شعيرة الحج من الشعائر التي لها مكانتها في الإسلام، فهو ركن من أركان الدين، وهو أكثر العبادات جهدا ومشقة وكلفة لذلك جعل الله تبارك وتعالى فرضيته على المسلم المكلف مرة في العمر إلا أن يتطوع؛ ورتَّبَ على فعله آثارا عظمية منها مغفرة الذنوب والفوز بالجنة؛ ولكن هذه الآثار وغيرها مشروطة بأن يكون حجا مبرورا؛ فما هو الحج المبرور وما حقيقته وكيف السبيل إليه وما هي علاماته

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ( العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ ). (1)

معنى الحج المبرور وحقيقته

وردت أقوال كثيرة لأهل العلم في معنى الحج المبرور منها ما نقله ابن حجر عن ابن خالويه: المبرور المقبول. وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإثم ورجحه النووي، وقال القرطبي: الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل. (2)

قال ابن رجب: والبر يطلق بمعنيين:

أحدهما: بمعنى الإحسان إلى الناس، وقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْبِرِّ فَقَالَ: ( الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ ). (3) وكان ابْنُ عُمَرَ يقول: الْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ وَجْهٌ طَلِيقٌ وَكَلَامٌ لَيِّنٌ. (4)

وهذا يحتاج إليه في الحج كثيرا أعني معاملة الناس بالإحسان بالقول والفعل، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ( حَجٌّ مَبْرُورٌ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةَ )، قَالَوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا بِرُّ الْحَجُّ؟ قَالَ: ( إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَإِفْشَاءُ السَّلاَمِ ). (5)

المعنى الثاني: مما يراد بالبر: فعل الطاعات كلها وضده الإثم وقد فسر الله تعالى البر بذلك في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] الآية فتضمنت الآية: أن أنواع البر ستة أنواع من استكملها فقد استكمل البر. . . وكلها يحتاج الحاج إليها. (6)

السبل الموصلة إلى الحج المبرور

ليس كلُّ مَنْ حَجَّ قُبِلْ ولا كُل مَنْ صلى وصَلْ؛ قيل لابن عمر ما أكثرَ الحاج؟ قال: ما أقلَّهم ثم قال: الركب كبير والحاج قليل.

وقال شريح القاضي: الحاج قليل والركبان كثير، ما أكثر من يعمل الخير ولكن ما أقل الذين يريدون وجهه.

خليلي قطاع الفيافي إلى الحمى. . . كثير وأما الواصلون قليل(7)

فهذه بعض السبل التي توصلك - بإذن الله إلى الحج المبرور

- السبيل الأول: التهيؤ والاستعداد المناسب للحج

تهيئة العبد نفسه واستعداده للحج من أهم الأمور التي تعينه على أداء النسك على الوجه المشروع، وتجعل حجه مبروراً، ولعل أبرز الجوانب التي ينبغي أن يستعد بها

المرء للحج ما يلي:

1- إصلاح العبد ما بينه وبين الله تعالى بالتوبة النصوح بشروطها المعروفة.

2- طلب العون من الله وطلب توفيقه، وإظهار الافتقار إليه، فما لا يكون بالله لا يكون وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم. (8)

إذا لم يكن عونٌ من الله للفَتَى. . . فأكثر مَا يَجني عَليهِ اجتهادهُ

3- تحلل العبد من الحقوق والودائع التي لديه، وقضاء الديون أو استئذان من عُرِف عنه من أصحابها حرص وشدة طلب.

4- كتابة العبد لوصيته؛ إذ السفر مظنة تعرض الإنسان للخطر.

5- إعداد العبد النفقة الكافية لمن يعول إلى وقت رجوعه، ووصيته لهم خيراً، واستخلاف من يقوم بشؤونهم، وذلك حتى يكون همّه متجهاً لأداء النسك.

6- تحري النفقة الطيبة الحلال، لأن النفقة الحرام من موانع الإجابة، ونحن الآن في زمن تفشت فيه المكاسب الحرام إلا من رحم الله تعالى، وكثرت فيه الأموال المشبوهة، فليتق كلّ عبد ربه، وليتذكر قوله -صلى الله عليه وسلم-: ( إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا ). (9) وقوله -صلى الله عليه وسلم- (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ. . . . ). (10)

مات رجل في طريق مكة فحفروا له فدفنوه ونسوا الفأس في لحده فكشفوا عنه التراب ليأخذوا الفأس فإذا رأسه وعنقه قد جُمعا في حلقة الفأس فردوا عليه التراب ورجعوا إلى

أهله فسألوهم عنه فقالوا: إنه صحب رجلا فأخذ ماله فكان منه يحج ويغزو.

إذا حججت بمال أصله سحت. . . فما حججتَ ولكن حجت العير

لا يقبل الله إلا كل طيبة. . . ما كل من حج بيت الله مبرور(11)

ويستحب للعبد الإكثار من التزود بالنفقة الحلال على وجه يمكنه معه من التوسع في الزاد دون الحاجة إلى الناس، والرفق بالضعفاء.

7- اختيار الرفقة الصالحة التي تعينه إذا ضعف، وتذكره إذا نسي، وتعلمه إذا جهل، وتأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر. وليحذر العبد من صحبة صنفين:

أ- الصحبة الفاسدة التي تقود إلى المعصية، وتعين على الباطل.

ب- صحبة البطالين الذين يقضون أوقاتهم فيما لا يعود عليهم بالنفع في الآخرة.

8- التفقه في أحكام النسك وآدابه، والتعرف على أحكام السفر، من حيث: القصر، والجمع، والتيمم، والمسح على الخفين. . . إلخ. (12)

- السبيل الثاني: الإخلاص والمتابعة

لا صحة ولا قبول للأعمال إلا بهذين الشرطين؛ قال بعض السلف: ما من فَعْلةٍ وإن صغُرت إلا ينشر لها ديوانان: لم؟ وكيف؟ أي لم فعلت؟ وكيف فعلت؟ فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني عن المتابعة، فإن الله سبحانه لا يقبل عملا إلا بهما.

فطريق التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص، وطريق التخلص من السؤال الثاني: بتحقيق المتابعة. (13)

1- اقصد بحجك وجه الله ولا تلتفت إلى غيره، وتأمل حديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ( مَنْ حَجَّ لِلَّــــــــهِ. . . . . ). (14)

فينبغي للحاج أن لا يقصد بحجه رياء ولا سمعة ولا مباهاة ولا فخرا ولا خيلاء ولا يقصد به إلا وجه الله ورضوانه ويتواضع في حجه ويستكين ويخشع لربه، واستمع إلى إمام المخلصين وقدوة الموحدين -صلى الله عليه وسلم- وتعلَّم منه كيف تخلص في حجك، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: حَجَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَحْلٍ، رَثٍّ، وَقَطِيفَةٍ لا تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ: ( اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا، وَلَا سُمْعَةَ ). (15)

كان بعض المتقدمين يحج ماشيا على قدميه كل عام فكان ليلة نائما على فراشه فطلبت منه أمه شربة ماء فصعب على نفسه القيام من فراشه لسقي أمه الماء فتذكر حجه ماشيا كل عام وأنه لا يشق عليه فحاسب نفسه فرأى أنه لا يهونه عليه إلا رؤية الناس له ومدحهم إياه فعلم أنه كان مدخولا. (16)

2- اتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل خطوة تخطوها، فقد بيَّن لك أحسن بيان ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: ( لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ ). (17)

وتعلَّم حقيقة الاتباع من خير الأتْباع، استمع إلى جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- وهو يبين لنا مدى اقتفاء الصحابة آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع يقول: وَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ. (18)

وهذا الفاروق عمر -رضي الله عنه-، يعلنها صريحة عندما ذهب ليقبل الحجر، يقول عَبْد اللهِ بْن سَرْجِسَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ وَيَقُولُ: وَاللهِ، إِنِّي لَأُقَبِّلُكَ، وَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وَأَنَّكَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ. (19)

- السبيل الثالث: استشعار حقيقة الحج وغاياته

إدراك العبد لحقيقة الحج، والحكم والأسرار التي شرعت الشعائر من أجلها يهيئه ليكون حجه مبروراً؛ إذ القيام بذلك بمثابة الخشوع في الصلاة، فمن كان فيها أكثر خشوعاً كانت صلاته أكثر قبولاً، وكذلك الحج: كلما استوعب المرء حقيقة الحج، وروحه، والحكم والغايات التي شرع من أجلها، واتخذ ذلك وسيلة لتصحيح عقيدته وسلوكه. . كلما كان حجه أكثر قبولاً وأعظم أجراً واستفادة، ولن يتمكن أحد من ذلك ما لم يقم بتهيئة نفسه، ويستغرق في التأمل والبحث عن أسرار الحج وحكمه، أما من لم يكن كذلك، فيخشى أن يكون عمله مزيجاً من السياحة والمتاعب لا غير. ولعل من أبرز الحكم والغايات التي ينبغي أن يستشعرها الحاج ما يلي:

1- تحقيق التقوى: فتحقيق التقوى إحدى غايات الحج، ولذا: نجد ارتباط التقوى بالحج في آيات الحج بشكل واضح جلي، قال تعالى: {وَأََتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ. . . . وَاتَّقُوا اللَّهَ. . } [البقرة: 196] {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى. . } [البقرة: 197].

2- تأصيل قضية التوحيد في النفوس وتأكيدها: يرتكز الحج على تجريد النية لله تعالى وإرادته بالعمل دون سواه، قال تعالى {وَأََتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وقال عز وجل في ثنايا آيات الحج: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ. . } [الحج: 30، 31]، وفي التلبية وهي الشعار القولي للحج، تتجلى فيها معالم التوحيد لرب العبيد، قال جابر -رضي الله عنه- فَأَهَلَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بِالتَّوْحِيدِ ( لَبَّيْكَ اللهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ). (20)

3- تعظيم شعائر الله وحرماته: من أبرز غايات الحج وحكمه تربية العبد على استحسان شعائر الله وحرماته، وإجلالها ومحبتها، والتحرج من المساس بها أو هتكها، قال الله تعالى في ثنايا آيات الحج: {ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج: 32]. .

4- التربية على الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة، ومن ذلك:

- العفة: قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ. . } [البقرة: 197] والرفث: هو الجماع ودواعيه من القول والفعل. (21)

- كظم الغيظ وترك الجدال والمخاصمة: قال الله عز وجل: {ولا جِدَالَ فِي الحَجِ} [البقرة: 197]، قال ابْن عَبَّاسٍ "الْجِدَال": الْمِرَاءُ، تُمَارِي صَاحِبَكَ حَتَّى تُغْضِبَهُ. (22)

- التربية على تحمل تبعة الخطأ: ويظهر ذلك جليًّا في الفدية الواجبة على من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام عمداً، وغير ذلك.

- التربية على التواضع: ويظهر ذلك جليّاً في الوحدة بين جميع الحجيج في الشعائر والمشاعر، وإلغاء أثر الفوارق المادية بينهم من لغة ودم ومال. . . إلخ، وقد كان من خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلاَّ بِالتَّقْوَى ). (23)

- التربية على الصبر بأنواعه: حيث يلجم العبد نفسه عن الشهوات بترك محظورات الإحرام، ويمنعها عن بعض المباحات (في غير الإحرام)، ويعرضها للضنك والتعب في سبيل امتثال أوامر الله بأداء النسك وإتمامه؛ فيكون ذلك دافعاً إلى ترك المعاصي،

وامتثال الطاعات، وتحمل الأذى في سبيل ذلك بعد الحج.

- البذل والسخاء: وهذا واضح في تحمل العبد لنفقات الحج.

5- التذكير باليوم الآخر: يُذكّر الحج العبد باليوم الآخر وما فيه من مواقف وأهوال بشكل واضح جلي، ومن ذلك:

أ- خروجه من بلده ومفارقته لأهله: يذكره بمفارقته لهم حال خروجه من الدنيا إلى الآخرة.

ب- التجرد من المخيط والخروج من الزينة: يذكره بالكفن وخروج العباد من قبورهم يوم القيامة حفاة عراة غرلاً.

ت- الترحال والتعب: يذكرانه بالضيق والضنك في عرصات القيامة، حتى إن من العباد من يلجمه العرق يومئذ إلجاماً.

6- التربية على الاستسلام والخضوع لله تعالى:

يتربى العبد في الحج على الاستسلام والانقياد والخضوع والطاعة المطلقة لله رب العالمين، سواء في أعمال الحج نفسها، من: التجرد من المخيط، والخروج من الزينة، والطواف، والسعي، والوقوف، والرمي، والمبيت، والحلق أو التقصير، ونحو ذلك من الأمور التي قد لا تكون جلية المعنى، بل قد تكون إلى الأمر المجرد الذي ليس فيه لنفس العبد حظ ورغبة ظاهرة، أو فيما تحمله تلك الأعمال في طياتها من ذكريات قديمة من عهد إبراهيم (عليه السلام)، وما تلاه من استسلام وخضوع، وإيثار لمحاب الله تعالى، ومرضاته على شهوات النفس وأهوائها.

7- تعميق الأخوة الإيمانية، والوحدة الإسلامية:

يجتمع الحجاج على اختلاف بينهم في اللسان والألوان والأوطان والأعراق في مكان واحد، وزمان واحد، بمظهر واحد، وهتاف واحد، لهدف واحد، هو: الإيمان بالله تعالى، والامتثال لأمره، والاجتناب لمعصيته، فتتعمق بذلك المحبة بينهم، فيكون ذلك دافعاً لهم إلى التعارف، والتعاون، والتفكير، والتناصح، وتبادل الخبرات والتجارب، ومشجعاً لهم للقيام بأمر هذا الدين الذي جمعهم، والعمل على الرفع من شأنه.

8- ربط الحجيج بأسلافهم:

تحمل أعمال الحج في طياتها ذكريات قديمة: من هجرة إبراهيم عليه السلام وزوجه وابنه الرضيع إلى الحجاز، وقصته حين أُمر بذبح ابنه، وبنائه للبيت، وأذانه في الناس بالحج حتى مبعث نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، والتذكير بحجة الوداع معه حيث حج معه ما يربو على مئة ألف صحابي، ثم توالت العصور الإسلامية إلى وقتنا الحاضر حيث تربو أعداد الحجيج على أكثر من ألفي ألف من المسلمين؛ مما يجعل الحاج يتذكر تلك القرون ممن شهد أرض المشاعر قبله.

9- الإكثار من ذكر الله تعالى: المتأمل في شعائر الحج من تلبية وتكبير وتهليل ودعاء. . . إلخ، وفي نصوص الوحيين التي تتحدث عنه، يجد أن الإكثار من ذكر الله تعالى من أبرز حكم الحج وغاياته، ولعل من تلك النصوص قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} [البقرة: 198] وقال تعالى{ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]

10- التعود على النظام والتربية على الانضباط:

في الحج قيود وحدود والتزام وهيئات لا يجوز للحاج الإخلال بها، تعوده حب النظام والمحافظة عليه، وتربيه على الانضباط بامتثال الأمر وترك النهي، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة جلية. (24)

- السبيل الرابع: الحذر من مقارفة المعاصي والوقوع في الأخطاء

قال ابن رجب: مما يكمل برّ الحج اجتناب أفعال الإثم فيه من الرفث والفسوق

والمعاصي قال الله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]. وفي حديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ). (25)

فلا يحصل للعبد بر الحج إلا بمجانبة المعاصي والحذر منها، ومع أن مقارفة الذنوب والمعاصي مَنْهِيّ عنها في كل وقت، إلا أن الله تعالى أمر مَن حج بتركها وذلك لشرف الزمان وعظمة المكان، قال تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] فكيف يكون جزاء من فعل وقارف؟!

والمتأمل في واقع الناس في الحج يجد الكثير من المنكرات والأخطاء الناتجة عن: ضعف الخوف من الله، وعدم مراعاة حرمة الزمان والمكان، الناتجة عن الجهل بالشرع واتباع الأعراف والعوائد، فما أغبن من بذل نفسه وماله وبدل حاله وجماله فيرجع بالمحرمات وغضب الرحمن، قال الشاعر:

يحج لكيما يغفر الله ذنبه ويرجع وقد حطت عليه ذنوب

- السبيل الخامس: الاجتهاد في الطاعة واستغلال الوقت

وردت في ثنايا آيات الحج إشارات تحث العبد على الاستكثار من الطاعات وقت أداء النسك، ومن ذلك قوله عز وجل: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، ولعل من أهم الطاعات التي ينبغي أن يستكثر منها العبد ويشغل بها وقته أثناء النسك:

1- أعمال القلوب: من: إخلاص، ومحبة، وتوكل، وخوف، ورجاء، وتعظيم، وخضوع، وإظهار افتقار، وصدق في الطلب والمسألة، وتوبة، وإنابة، وصبر، ورضا وطمأنينة. . . ونحو

ذلك من أهم ما ينبغي أن ينشغل به العبد في حجه، إذ مدار الإسلام عليها.

قال ابن القيم: ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح. (26)

2- قراءة القرآن والذكر والاستغفار: من أعظم أنواع بر الحج كثرة ذكر الله تعالى فيه وقد أمر الله تعالى بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى، (27) وقال -صلى الله عليه وسلم- حاثًّا على التلبية والذكر: ( مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ قَطُّ إِلَّا بُشِّرَ، وَلَا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ قَطُّ إِلَّا بُشِّرَ ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: ( نَعَمْ ). (28)

3- بذل المعروف: قال ابن رجب(29): ومن أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج: ما وصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا جُرَيّ الهجيمي فقال: ( لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تَنْزِعَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ، وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْطَلِقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوَحْشَانَ فِي الأَرْضِ ). (30)وفي الحديث الآخر: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: ( أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ ). (31)

4- الدعوة إلى الله عز وجل: ينتشر الجهل بين الحجيج، وتنتشر بدع ومنكرات وأخطاء كثيرة في الحج، مما يوجب على العلماء والدعاة القيام بما يجب عليهم من إرشاد، ونصح، وتوجيه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، قَالَ شُجَاعُ بنُ الوَلِيْدِ: كُنْتُ أَحجُّ مَعَ سُفْيَانَ، فَمَا يَكَادُ لِسَانُهُ يَفتُرُ مِنَ الأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، ذَاهِباً وَرَاجِعاً. (32)

5- الدعاء والمسألة: الحج من مواسم المسألة والدعاء العظيمة التي ينبغي استغلالها والتضرع بين يدي الله فيها، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ( خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ ). (33) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ( الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ). (34)

- السبيل السادس والأخير: الاستقامة. . . الاستقامة

قال ابن الجوزي: يا عجبا لمن يقطع المفاوز ليرى البيت فيشاهد آثار الأنبياء كيف لا يقطع نفسه عن هواها ليصل إلى قلبه فيرى آثار ويسَعُني. (35)

فدليل الحج المبرور استقامة المسلم بعد الحج، ولزومه الطاعة وتركه للمعصية، قيل للحسن: الحج المبرور جزاؤه الجنة؟ قال: آية ذلك: أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة وأن يدع سيء ما كان عليه من العمل. (36) ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].

قال بعض السلف: علامة بر الحج أن يزداد بعده خيرًا، ولا يعاود المعاصي بعد رجوعه. (37)

- قال ابن رجب: علامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها، وعلامة ردها أن توصل بمعصية؛ ما أحسن الحسنة بعد الحسنة وأقبح السيئة بعد الحسنة؛ ذنب بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها؛ النكسة أصعب من المرض الأول؛ ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة؛ ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل، وغني قوم بالذنوب افتقر؛ سلوا الله الثبات إلى الممات، وتعوذوا من الحَوْر بعد الكَوْر

كان الإمام أحمد يدعو ويقول: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك.

وكان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم: اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة

ألا إنما التقوى هي العز والكرم. . . وحبك للدنيا هو الذل والسقم

وليس على عبد تقي نقيصة. . . إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم(38)

فلتحذر أخي من أن تهدم ما بنيت، وتشتت ما جمعت، وتبدد ما حَصّلت، فتنتكس بعد الاهتداء، وترتكس بعد النقاء.

وتذكر أن الحج يهدم ما قبله من ذنوب، وأنك بحجك ترجع كيوم ولدتك أمك، فإياك أن تقابل الله بعد هذه النعمة بالمعصية، و افتح صفحة جديدة من حياتك مع الله عز وجل ملؤها الطاعة، وعنوانها الاستقامة. . والله يتولاني وإياك.

من رجع من الحج فليحافظ على ما عاهد الله عليه. . . إذا دعتك نفسك إلى نقض عهد مولاك فقل لها: معاذ الله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]. (39)

---

(1) رواه البخاري (1773) ومسلم (1349)

(2) فتح الباري لابن حجر (3/ 382)

(3) رواه مسلم (2553)

(4) مداراة الناس لابن أبي الدنيا (ص: 96)

(5) رواه أحمد (3/ 334) وحسنه بمجموع طرقه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 262)

(6) رواه البخاري (1521) ومسلم (1350) راجع لطائف المعارف لابن رجب ( 230- 235) باختصار

(7) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 66) و (ص: 236)

(8) مجموع الفتاوى (8/ 329)

(9) رواه مسلم (1015) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-

(10) رواه البخاري (1410) ومسلم (1014) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-

(11) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 236)

(12) مقال لفيصل بن علي البعداني (حتى يكون حجنا مبروراً ) بتصرف

(13) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 8)

(14) رواه البخاري (1521) ومسلم (1350)

(15) رواه ابن ماجه (2890) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 279)

(16) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 236)

(17) رواه مسلم (1297) من حديث جابر -رضي الله عنه-

(18) رواه مسلم (1218)

(19) رواه مسلم (1270)

(20) رواه مسلم (1218)

(21) تفسير ابن كثير (1/ 543) بتصرف

(22) تفسير ابن كثير (1/ 546)

(23) رواه أحمد (5/ 411) وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 135).

(24) مقال لفيصل بن علي البعداني (حتى يكون حجنا مبروراً )

(25) رواه البخاري (1521) ومسلم (1350) راجع لطائف المعارف لابن رجب ( 230- 235) باختصار

(26) بدائع الفوائد (3/ 193)

(27) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 235)

(28) رواه الطبراني في الأوسط (7779) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 976)

(29) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 231)

(30) رواه أحمد (3/ 482) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (7/ 1255)

(31) رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج (ص: 47) عن بعض الصحابة، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 709)

(32) سير أعلام النبلاء (7/ 259)

(33) رواه الترمذي (3585) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (2/ 797)

(34) رواه البزار (1153) من حديث جابر -رضي الله عنه-، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 606)

(35) المدهش (ص: 149)

(36) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 62)

(37) اتحاف السادة المتقين الزبيدي (4/ 464)

(38) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 64)

(39) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 62)

عدد المشاهدات 9847