ويستمر المسـير إلـى اللــَّـه
لقد حلَّ بنا شهر رمضان شهرًا كريمًا وضيفًا عزيزًا، فأودعناه ما شاء الله من الأعمال، ثم ما لبث إلا أن فارقنا سريعًا فمضى وانقضى إما شاهدًا لنا أو علينا، والناس بعد رمضان على صنفين:
منهم من فرح بانقضائه وفراقه، لأنهم تخلصوا من عِبئ الصيام والعبادات التي كانت ثقيلة عليهم.
ومنهم من فرح بتمامه لأنهم وفقوا للعمل الصالح فيه، فصاموه وقاموه إيمانًا واحتسابًا، وطلبًا لعفو الله ومغفرته، فاستحقوا المغفرة والرضوان من الله، وصدق فيهم قول النبي-صلى الله عليه وسلم- " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(1).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(2).
الاغترار بالطاعات سبيل الشيطان:
من أصول معتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد يستخف الشيطان بالبعض فيدفعهم إلى الاغترار ببعض الطاعات التي عملوها، فيسوقه من حيث لا يدري إلي التهاون: بدايةً في الواجبات إلي أن يتركها بالكلية، ويجعله يستهين ببعض الصغائر إلى أن يسوقه إلى فعل الكبائر، وهذا هو سبيل الشيطان وكيده
بابن آدم كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ "(3).
وقد حذرنا ربنا تبارك وتعالى من كيد الشيطان وخطواته فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [البقرة: 208]
ووصف ربنا حال المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60، 61]
فوصفهم ربنا تبارك وتعالى بهذا الوصف مع حرصهم الشديد على العمل، ومع ذلك فهم يعيشون في حالة حذر وترقب مخافةَ ألا يقبل منهم ذلك العمل.
وصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا"(4).
وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: "الْمُحَقَّرَاتُ إِذَا كَثُرَتْ صَارَتْ كِبَارًا مَعَ الْإِصْرَارِ وَقَدْ أَخْرَجَ أَسَدُ بْنُ مُوسَى فِي الزُّهْدِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَثِقُ بِهَا وَيَنْسَى الْمُحَقَّرَاتِ فَيَلْقَى اللَّهَ وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَلَا يَزَالُ مِنْهَا مُشْفِقًا حَتَّى يلقى الله آمنًا"(5).
والأعمال بالخواتيم كما أخبر سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-، ولا يدري أحدٌ بم يختم له في آخر حياته أعلى الطاعة أم على المعصية.
وقد حذرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- من الاغترار بحسن العمل لأن قبول الأعمال بيد الله سبحانه، عن عَبْدِ اللهِ-رضي الله عنه-، قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ"(6).
وفي حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي الله عنه-، في قصة الرجل الذي كان يجاهد معهم فاغتر بعض الصحابة بفعله، فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ ذَلِكَ: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهْوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"(7).
ومن الناس من حسَّن له الشيطانُ أعماله السيئة من معاصي الله والكفر به، وعبادة ما دونه من الآلهة والأوثان، فرآه حسنًا فحسِب سيئ ذلك حسنًا، وظن أن قبحه جميل، لتزيين الشيطان ذلك له، كما قال سبحانه: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8] (8).
زمان العمل لا ينقضي ولا ينقطع:
إن مواسم الطاعات والخيرات لا تنقضي ما دام في العمر بقية، والمؤمن الصادق في إيمانه بالله عز وجل يتقلب في الطاعات من طاعة إلى طاعة، فلا ينعم المؤمن في دار الدنيا ولا يرتاح، حتى يطأ بقدمه الجنة.
وقد أمرنا ربنا تبارك وتعالى بمواصلة العبادة، والاجتهاد في الطاعات حتى الممات فقال عزَّ من قائل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]
أي: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْمَوْتُ، الَّذِي هُوَ مُوقَنٌ بِهِ(9).
ولئن انقضى شهر رمضان، فزمان العمل لم ينقض، ولئن انقضى شهر الصيام فزمن الصيام لم ينقض، ولا يزال الصيام مشروعًا، ولله الفضل والمنة، فهناك أحاديث كثيرة حثَّ فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- ورغبَّ أمته في التطوع بالصيام، فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ"(10).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ، فَقِيلَ: يا رسول الله، إِنَّكَ تَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ! فَقَالَ: "إِنَّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ يَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِمَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا مهتجرين، يَقُولُ: دَعْهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا"(11).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، -رضي الله عنه-، قَالَ أَوْصَانِي خَلِيلِي -صلى الله عليه وسلم- بِثَلاَثٍ صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ(12).
فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ بِمَنْزِلَةِ صِيَامِ الدَّهْرِ، إِذِ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ صَامَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا حَرَامٌ قَطْعًا، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُصُولُ هَذَا الثَّوَابِ عَلَى تَقْدِيرِ مَشْرُوعِيَّةِ صِيَامِ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا(13).
وقد وعد الله عز وجل الصائمين بالمغفرة والثواب العظيم فقال سبحانه: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]
ويقال لهم يوم القيامة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]
قال مجاهد و غيره: نزلت في الصوم، ومن ترك لله طعامه و شرابه و شهواته عوضه الله خيرًا من ذلك طعامًا و شرابًا لا ينفذ و أزواجًا لا تموت(14).
-ولئن انقضى شهر التراويح والقيام، فإن القيام لايزال مشروعًا طوال العام، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " أَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ "(15).
وحث أمته ورغبها في الأخذ بالسنن، فقال -صلى الله عليه وسلم-: " مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّى لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلاَّ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ أَوْ إِلاَّ بُنِىَ لَهُ بَيْتٌ فِى الْجَنَّةِ ".
قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ -رضي الله عنها- "فَمَا بَرِحْتُ أُصَلِّيهِنَّ بَعْدُ"(16).
وعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حُرِّمَ عَلَى جَهَنَّمَ"(17).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ-رضي الله عنه- عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا "(18).
وأقل الوتر ركعة، وأكثره ثلاث عشرة ركعة.
-ولئن مضى شهر القرآن، فلا يزال كتاب ربنا فينا باقيًا، وثواب تلاوته لا ينقطع، عن عَبْدِ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ-رضي الله عنه-، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ الْم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ"(19).
ومن أراد الهدى فبالقرآن، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].
ومن أراد الغنى فبالقرآن، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَفَلاَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمَ أَوْ يَقْرَأَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلاَثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاَثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ"(20).
ومن أراد الشفاعة فبالقرآن، عن النَّوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ الْكِلاَبِي -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- "يَقُولُ يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَان، وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ: -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ قَالَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا "(21).
ومن أراد الشفاء ففي القرآن، قال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت: 44]
وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]
وبالجملة من أراد الخير كله ففي التمسك والعمل بالقرآن، ومن أراد الشر كله فبالإعراض عنه، قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [طه: 123-127].
-وأما باب الصدقات والإنفاق في سبيل الله بعد رمضان فلم يغلق، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ دَعَتْهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ أَيْ فُلُ-أي فلان- هَلُمَّ(22)
قوله-صلى الله عليه وسلم-"من أنفق زوجين"، الزَّوْج فِي اللُّغَة: كل شَيْء كَانَ لَهُ قرين من جنسه، فَهُوَ اسْم يَقع على كل وَاحِد من المقترنين، أي صنفين من المال، "في سبيل الله" تعالى أي في طاعته من كل بر(23).
ولقد ضرب الله مثلًا للمنفقين والمتصدقين فقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 261]
قال ابن كثير: "هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فقال: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. . . الآية} وهذا المثل أبلغ في النفوس، من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل، لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة، وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف"(24).
وباب الصدقات ولله الحمد من أوسع الأبواب التي تجلب الخير والثواب، ففي كل ما ينفق المرء من شيء له فيه أجرٌ ما دام أنفقه ابتغاء وجه الله حتى النفقة على الزوجة والأولاد، والأقارب وذوي الأرحام، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ له: "إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ"(25).
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلْوَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ أَعْظَمَ "(26).
وقال ابن القيم: " وفى الصدقة فوائد ومنافع لا يحصيها الا الله، فمنها أنها تقى مصارع السوء وتدفع البلاء حتى إنها لتدفع عن المظلوم(27).
-وأما الاعتكاف: فهو المكوث في المسجد بقصد التعبد، ولئن ظن البعض أن زمانه مضى بانقضاء رمضان، فثواب انتظار الصلوات لم ينقض، كما أخبر بذلك الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ". قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ "(28).
وَقَوْله -صلى الله عليه وسلم-: "فَذَلِكُمْ الرِّبَاط"، أَيْ الرِّبَاط الْمُرَغَّب فِيهِ، وَأَصْل الرِّبَاط الْحَبْس عَلَى الشَّيْء كَأَنَّهُ حَبَسَ نَفْسه عَلَى هَذِهِ الطَّاعَة، وقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّهُ أَفْضَل الرِّبَاط كَمَا قِيلَ الْجِهَاد جِهَاد النَّفْس، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ الرِّبَاط الْمُتَيَسِّر الْمُمْكِن أَيْ أَنَّهُ مِنْ أَنْوَاع الرِّبَاط(29).
وعَنْ أَنَسٍ بن مَالِك-رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى الغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ"(30).
لا يزال باب التوبة مفتوحًا:
لقد فتح الله عز وجل لعباده باب التوبة، وشرع لهم من الأعمال الصالحات التي تمحو ذنوبهم وتكفر عنهم سيئاتهم، وأخبرهم بأنه وحده الذي يقبل التوبة منهم، بل إنه جلَّ شأنه أفرح بتوبة عباده من فرحهم أنفسهم، قال سبحانه: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } [النساء: 27]
وقَدَّمَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ. . . }، لِيَدُلَّ عَلَى التَّخْصِيصِ الْإِضَافِيِّ. أَيِ: أن اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، أَيْ يُحَرِّضَكُمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، فَيُرِيدُونَ انْصِرَافَكُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَمَيْلَكُمْ عَنْهُ إِلَى الْمَعَاصِي(31).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا إِنَّ الَّذِى تَقُولُ وَتَدْعُو لَحَسَنٌ وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَ {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}، وَنَزَلَ { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ }(32).
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ"(33).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، كحديث عثمان-رضي الله عنه- في الوضوء، وغيرها من الأحاديث الثابتة الصحيحة، قال النووي مُعلقًا على جملة من هذه الأحاديث: " قَوْله: (مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه وَكَانَتْ صَلَاته وَمَشْيه إِلَى الْمَسْجِد نَافِلَة)، وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: (الصَّلَوَات الْخَمْس كَفَّارَة لِمَا بَيْنهنَّ). وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: (الصَّلَوَات الْخَمْس وَالْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة وَرَمَضَان إِلَى رَمَضَان. مُكَفِّرَات مَا بَيْنهنَّ إِذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِر): فَهَذِهِ الْأَلْفَاظ كُلّهَا ذَكَرَهَا مُسْلِم فِي هَذَا الْبَاب، وَقَدْ يُقَال: إِذَا كَفَّرَ الْوُضُوء فَمَاذَا تُكَفِّر الصَّلَاة؟ وَإِذَا كَفَّرَتْ الصَّلَاة فَمَاذَا تُكَفِّر الْجُمُعَات وَرَمَضَان، وَكَذَلِكَ صَوْم يَوْم عَرَفَة كَفَّارَة سَنَتَيْنِ وَيَوْم عَاشُورَاء كَفَّارَة سَنَة؟ وَإِذَا وَافَقَ تَأْمِينه تَأْمِين الْمَلَائِكَة غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه؟ وَالْجَوَاب مَا أَجَابَهُ الْعُلَمَاء أَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَات صَالِح لِلتَّكْفِيرِ فَإِنْ وَجَدَ مَا يُكَفِّرهُ مِنْ الصَّغَائِر كَفَّرَهُ وَإِنْ لَمْ يُصَادِف صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة كُتِبَتْ بِهِ حَسَنَات وَرُفِعَتْ بِهِ دَرَجَات، وَإِنْ صَادَفَتْ كَبِيرَة أَوْ كَبَائِر وَلَمْ يُصَادِف صَغِيرَة رَجَوْنَا أَنْ يُخَفِّفَ مِنْ الْكَبَائِر وَاَللَّه أَعْلَم".
---
(1) أخرجه البخاري(38)، ومسلم(1817). من حديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه البخاري(37)، ومسلم(1815). من حديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-.
(3) أخرجه البخاري(2038)، ومسلم(5807)، عَنْ أَنَسٍ بن مَالِك-رضي الله عنه-.
(4) أخرجه البخاري(6308)، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.
(5) ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 330).
(6) أخرجه البخاري(3208)، ومسلم(6893).
(7) أخرجه البخاري(2898)، ومسلم(320).
(8) وانظر تفسير الطبري(20/ 441).
(9) تفسير الطبري(14/ 154).
(10) أخرجه مسلم(2815).
(11) أخرجه ابن ماجة بهذا اللفظ(1740)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (4042).
(12) أخرجه البخاري(1981)، ومسلم(1705).
(13) وانظر زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم(2/ 77).
(14) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 36).
(15) أخرجه مسلم(2812)، عن أبي هريرة-رضي الله عنه-.
(16) أخرجه مسلم(1729)عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ -رضي الله عنها-.
(17) أخرجه أبو داود(1269). وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1167).
(18) أخرجه البخاري(988)، ومسلم(1791).
(19) أخرجه الترمذي(2910)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (11415).
(20) أخرجه مسلم (1909)، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ-رضي الله عنه-.
(21) أخرجه مسلم (1912).
(22) أخرجه البخاري(3216)، ومسلم(2420).
(23) وانظر كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي(3/ 390)، والكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (12/ 106).
(24) تفسير ابن كثير(1/ 691).
(25) أخرجه البخاري(1295)، ومسلم(4296).
(26) أخرجه البخاري(1410)، ومسلم(2389).
(27) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم(ص: 254).
(28) أخرجه مسلم(610).
(29) شرح النووي على مسلم(1/ 406).
(30) أخرجه الترمذي(586)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير(6346).
(31) التحرير والتنوير لابن عاشور(5/ 21).
(32) أخرجه مسلم (337).
(33) أخرجه مسلم(574).