أَين الغَـيْرةُ على الأَعراضِ؟
إن من الضروريات الكبرى التي جاء الإسلام بها وحث عليها، هي المحافظة على الأعراض وصيانتها، ومن أجل ذلك حرَّم ربنا تبارك وتعالى الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 33]
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ))(1).
وكيف يصح لعبد أن يدعي محبةَ الله والإيمانَ به، وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت ولا لحقوقه إذا ضيعت، وإذا ترحلت الغيرة(2)من القلب ترحل منه الدين(3).
ولقد اعتبر الشارع مَنْ قُتل في سبيل الدفاع عن عرضه شهيدًا، ففي الحديث أن النبي-صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ))(4).
وإن من الناس من لا يبالي لو فقد نفسه وماله كله في سبيل الدفاع عن عرضه، ولله در حسان بن ثابت -رضي الله عنه- حين قال:
أصونُ عرضي بمالي لا أدنِسهُ لا بَارَكَ اللَّهُ بعدَ العِرْضِ في المالِ(5).
وما نراه اليوم من انتكاس مفهوم الغيرة لدى كثير من الناس، لهو من أكبر
المصائب التي تنبئ بهدم المجتمع بأسره، فالنساء اليوم أصبحن يملأن الشوارع والأسواق يخرجن وهن متبرجاتٍ متهتكاتٍ سافراتٍ عن الوجوه، قد وضعن على وجوههن جميع أنواع المساحيق والزينة-إلا من رحم ربك- والعجيب في ذلك أنك ترى مع المرأة المتبرجة السافرة إما أخاها أو أباها أو زوجها، يمشي معها ويضاحكها على مرأى من الناس، لا يستحي من ربه، ولا يستحي من نفسه، ولا يخجل من مشاهدة الناس له، بل ولا يغار على زوجته أو ابنته أو أخته، وقد خرجت بهذه الهيئة في أبهى زينةٍ قد عصت الله ورسوله، ترمقها كل عين خائنة وكأنه لم يصنع شيئًا بدعوى التقدمية والحرية والتحضر.
فأين غَيرةُ الرجال من غَيرةِ نبينا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضوان الله عليهم؟!.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -رضي الله عنه-، وَهُوَ سَيِّدُ الْأَنْصَارِ: أَهَكَذَا أُنْزِلَتْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا تَلُمْهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، وَاللهِ مَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً قَطُّ إِلَّا بِكْرًا، وَمَا طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ قَطُّ، فَاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ، وَأَنَّهَا مِنَ اللهِ وَلَكِنِّي قَدْ تَعَجَّبْتُ أَنِّي لَوْ وَجَدْتُ لَكَاعًا قَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أَهِيجَهُ وَلَا أُحَرِّكَهُ، حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَوَ اللهِ لَا آتِي بِهِمْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ(6).
وفي رواية الصحيحين: عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -رضي الله عنه-: لَوْ
رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ(7)، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: ((أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي))(8).
وأين حياء النساء من ابنة شيخ مدين لما جاءت إلي موسى -عليه السلام-؟!.
حيث قال الله تعالى عنها: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25]
فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "لم تكن سلفعًا(9) من النساء خرَّاجة ولَّاجَة، قائلة بيدها على وجهها }إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا{"(10).
وعن ابن عباس -رضي الله عنه- في قوله تعالى: { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] قال: "فأحفظته الغيرة أن قال: وما يدريك ما قوته وأمانته؟ قالت: أما قوته، فما رأيت منه حين سقى لنا، لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه؛ وأما أمانته، فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه، ولم ينظر إلي حتى بلغته رسالتك، ثم قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين، فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت "(11).
هكذا كانت غَيرَة الرجال، وهكذا كان حياء النساء!.
ولقد كان العرب في الجاهلية يعُدُّون المرأة ذروة شرفهم وعنوان عرضهم، ولذا تفننوا في المحافظة عليها، حتى يظل شرفهم سليمًا من الدنس، وعرضهم بعيدًا من أن يمس.
حتى إن الواحد منهم لو رأى جارته خارجة غض طرفه عنها خوفًا على عرض جاره لذا قال أحدهم:
وأَغُضُّ طَرفي ما بدَتْ لي جارَتي حتى يُواري جارتي مأْواها
إني امرؤٌ سَمْحُ الخليقةِ ماجدٌ لا أتبعُ النفسَ اللَّجوجَ هواها(12).
فأين هؤلاء اليوم من بعض الشباب الذين يتسكعون في الشوارع والأسواق يتلصصون حول الحرمات لا هم لهم سوى السعي وراء الشهوات؟!.
الغيرة من صفات الله وعباده المؤمنين:
لقد جاءت الأحاديث بإثبات صفة الغيرة لله عز وجل، ونحن نؤمن بأن الله يغار كما أخبر عنه أعرف الخلق به، وهي غيرةٌ تليق بجلال الله تعالى وعظمته، ولا تماثل غيرة أحد من المخلوقين، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى: 11](13).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ المُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ))(14).
وفي لفظ: ((الْمُؤْمِنُ يَغَارُ، وَاللَّهُ أَشَدُّ غَيْرًا))(15).
قال ابن القيم: "الْغَيْرَةُ نَوْعَانِ: غَيْرَةُ الْحَقِّ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، وَغَيْرَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ لَا عَلَيْهِ.
فَأَمَّا غَيْرَةُ الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ: فَهِيَ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ لِلْخَلْقِ عَبْدًا. بَلْ يَتَّخِذُهُ لِنَفْسِهِ عَبْدًا. فَلَا يَجْعَلُ لَهُ فِيهِ شُرَكَاءَ مُتَشَاكِسِينَ. بَلْ يُفْرِدُهُ لِنَفْسِهِ. وَيَضِنُّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذِهِ أَعْلَى الْغَيْرَتَيْنِ"(16).
وأعظم الناس غيرة على الأعراض الأنبياء صلوات الله عليهم ثم الأمثل فالأمثل، وفي الصحيحين من حديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، إِذْ قَالَ: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا القَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: أَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ))(17).
ومن غَيرَة عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه أشار على النبي-صلى الله عليه وسلم- أن يحجب نساءه، وذلك قبل نزول آية الحجاب، قال: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ البَرُّ وَالفَاجِرُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ"(18).
ورَوَى ابن كثير بِسَنَدِهِ: "أَنَّ امْرَأَةً تَقَدَّمَتْ إِلَى قَاضِي الرَّيِّ فَادَّعَتْ على زوجها بصداقها خمسمائة دينار فأنكره فَجَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهَا بِهِ، فَقَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تُسْفِرَ لَنَا عَنْ وَجْهِهَا حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهَا الزَّوْجَةُ أَمْ لَا، فَلَمَّا صَمَّمُوا عَلَى ذَلِكَ قَالَ الزَّوْجُ: لَا تَفْعَلُوا هِيَ صَادِقَةٌ فِيمَا تَدَّعِيهِ، فَأَقَرَّ بِمَا ادَّعَتْ لِيَصُونَ زَوْجَتَهُ عن النظر إلى وجهها. فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه، وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر: هو فِي حِلٍّ مِنْ صَدَاقِي عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة"(19).
وكم في الناس من غيور؟!
ولم تقتصر الغيرة على الرجال فقط، بل كان من النساء من يَغرْنَ على أعراضهن، ويخفن من غَيرَة أزواجهن.
وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ-رضي الله عنها-، قَالَتْ: كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَأْسِي، فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ: ((إِخْ إِخْ))، لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى، فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لِأَرْكَبَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ "(20).
ولقد أحسن من قال في وصف المرأة الحرة العفيفة:
يَعِزُّ عَلَى مَنْ يَطْرُقُ الْبَابَ لَفْظُهَا جَوَابًا فَلا عَقْدًا تَرَاهُ وَلا حَلا
يُطِيلُ وُقُوفًا لا يُجَابُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا كَلامُ الأَجْنَبِيِّ وَإِنْ قَلا
فالذي لا يغار على أهله وعرضه أين يهرب من سؤال الله عن ذلك؟
وقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: ((وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ))(21).
فكيف ينعم إنسان يعلم أنه مسئول أمام الله عز وجل عن أهله، وهو يترك زوجته أو أخته أو بنته تخرج بزي غير شرعي؟!.
وقال محمد بن نصر المروزي: "الْغَيْرَةُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَعَدَمُهَا مِنَ النِّفَاقِ"(22).
وليست الغيرة قاصرةً على الآدميين فقط، بل إنه لمن العجب ما ذُكر عن الحيوانات والطيور وغيرتها، كالمعز والديكة والإبل والقردة، ولله در ابن حزم حين قال: " ولعمري إن الغيرة لتوجد في الحيوان بالخلقة، فكيف وقد أكدتها عندنا الشريعة، وما بعد هذا مُصاب"(23).
ومع هذا لا ندري أين ذهبت الغيرة عند الكثير من المسلمين؟!.
أسباب انعدام الغيرة:
(1)- - الذنوب والمعاصي:
إن للمعصية عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة، ومن عقوبتها "أَنَّهَا تُطْفِئُ مِنَ الْقَلْبِ نَارَ الْغَيْرَةِ الَّتِي هِيَ لِحَيَاتِهِ وَصَلَاحِهِ كَالْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ لِحَيَاةِ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وكُلَّمَا اشْتَدَّتْ مُلَابَسَةُ العبدِ لِلذُّنُوبِ أَخْرَجَتْ مِنْ قَلْبِهِ الْغَيْرَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعُمُومِ النَّاسِ، وَقَدْ تَضْعُفُ فِي الْقَلْبِ جِدًّا حَتَّى لَا يَسْتَقْبِحَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَبِيحَ لَا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَقَدْ دَخَلَ فِي بَابِ الْهَلَاكِ. وَلِذَا كان أَشْرَفُ النَّاسِ وَأَعْلَاهُمْ هِمَّةً أَشَدُّهُمْ غَيْرَةً عَلَى نَفْسِهِ وَخَاصَّتِهِ وَعُمُومِ النَّاسِ، هُو النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَغْيَرَ الْخَلْقِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَشَدُّ غَيْرَةً مِنْه(24).
(2)- الجهل بالعقوبات:
عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ، وَالدَّيُّوثُ، الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ))(25).
قال الطيبي: "الدَّيوث الذي يرى في أهله ما يسوءه ولا يغار عليهم ولا يمنعهم، فيقر في أهله الخبث"(26).
3- سوء التربية:
إن الإنسان بطبعه يتأثر بمن يعاشرهم ويحتك بهم، وإن التربية من أكبر الأسباب التي تؤثر في بناء الإنسان، وإن الشخص إذا نشأ نشأةً غير مستقيمة، وقصَّر الأب أو قصرت الأم في تربية ابنها وابنتها؛ فإن الذي يجني عواقب سوء التربية هو ذلك الابن بعد سنين طالت أم قصرت، وإذا كان الابن ينشأ في بيتٍ مليءٍ بالخصام والسباب، وإذا رأي الابن أباه منشغلًا بمتابعة المباريات والأفلام والمسلسلات وما فيها من المخالفات الشرعية، لا يغار على أهله أن يروا مثل هذه التفاهات، فكيف يكون حال هذا الولد بعد ذلك؟! ثم هل سيكون هذا الولد رجلًا يومًا ما يتحمل المسئولية؟. وإذا رأت البنت أمها منشغلةً بمتابعة أخبار الموضة، وأسعار الملابس والفساتين فهل ستكون البنت أمًا تتحمل مسئولية بيتها يومًا ما؟!
إن للتربية تأثيرًا قويًا في حياة الأبناء، فإذا نشأ الولد وتربى على سماع الحق صار من أهله بإذن الله، وإذا تربى على الباطل صار من أهله إلا من عصمه الله تعالى.
وكم من قتيلٍ بالمعاصي والكبائر والذنوب قُتل قديمًا حينما غفل أبواه عن تربيته؟!
ونسوا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]
ونسوا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))(27).
4- التشبه بغير المسلمين:
ولقد حذر النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمته من التشبه بغير المسلمين فقال: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ"، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى قَالَ: "فَمَنْ"؟ )) (28)
ولقد ظهرت في زماننا طائفةٌ من ضعفاء الإيمان ممن تأثروا بالحضارة الغربية، والتقدم التقني والاقتصادي الغربي، ظنوا أنهم لابد من تقليدهم في اللباس والهيئة والسلوك، حتى يتقدموا ويتحضروا مثلهم؛ لذا تراه يسمح لنسائه بالتبرج، ولبس ثياب غير شرعية كالملابس الضيقة والقصيرة، والخفيفة التي تُظهر ما تحتها، مثل (البنطلون)، وغير ذلك من ملابس التبرج دون أن يغار عليهن ويحميهن.
ومن فضل الله علينا أن في شرعنا ما يكفينا، فلا حاجة لنا في تقليد غيرنا، ولقد نظم الإسلام جميع حياتنا، وحدد كل ما يحتاجه المسلم وما ينفعه من مطعمٍ وملبسٍ وغير ذلك.
فالنفع كل النفع في التمسك بمنهج الله ومنهج رسوله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
ولله در القائل:
مَنْ حَادَ عَنْ خُلُقِ النَّبِيِّ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ الغُرِّ فَهْوَ لَيْسَ بِسَالِمِ
5- الخلوة والاختلاط:
ولقد شدَّد الشارع في النهي عن الخلوة والاختلاط والتحذير منهما، وقد جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِالْمَرْأَةِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا، وَمَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ))(29)، ولا يشك عاقل في أن كثرة الاختلاط بين الرجل والمرأة تفضي إلى الفاحشة وتُذهب الغيرة وتؤدي إلي هتك الأعراض وتدنيس الشرف، وقد قيل: إن كثرة الإمساس تذهب الإحساس(30).
وذُكر أن امرأةً من العرب يقال لها هند بنت الخُسِّ زنت بعبدها وكانت العرب تأنف من الزني بالحرائر فما بالك بالعبيد فقيل لها: لِمَ زَنَيْتِ بِعبدِك وأنتِ سيِّدةُ قومِكِ؟ فقالت: قُربُ الوِساد، وطولُ السِّواد. ومعناه: قُرْبَ وِسَادِ الرَّجُلِ مِنْ وِسَادَتِي، وطول المُساودة، أي المُسارّة، والمُخالَطة، وَالْخُلْوَةُ مِنْ وَرَاءِ الْأَسْتَارِ وَالْأَبْوَابِ(31).
كيف السلامة والنجاة؟
إن من خلى قلبه من الإيمان خلت نفسهُ من الغيرة. وحُرم حلاوة الإيمان ولذتهُ، لأن صاحب الإيمان القوي خير وأحبُ إلى الله من المؤمن الضعيف. ومن خلى ذهنهُ وعقلهُ من الفقه في الدين، فقلبه خالٍ مفلس من الغيرة.
ومن الأسباب التي تنمي الغيرة:
1حسن التربية:
إن تربية الأبناء على القيم والأخلاق من أعظم الأسباب التي تنمي الغيرة في قلوبهم، ولا يمكن أن تؤتي التربية ثمارها إلا إذا كانت قائمةً على ضوء ما ثبت في الكتاب والسنة.
هي الأخلاقُ تنبتُ كالنباتِ إذا سُقيت بماء المَكْرُماتِ
تقومُ إذا تعهدها المُربي على ساقِ الفضيلة مُثمِرات (32).
ومن أفضل طرق التربية، التربية بالقدوة، ولله الحمد لم يخل تاريخنا من الصالحين الذين يُقتدى بهم، وليس أفضل من النبي -صلى الله عليه وسلم- لنا قدوة، وقد قال الله عنه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب: 21]
وليس أحدٌ يقتدى بأمره كله غير النبي-صلى الله عليه وسلم-. ولله در القائل:
هو الرسولُ فكُنْ في الشِّعْر حَسَّانَا وصُغْ مِنَ القلبِ في ذِكراهُ ألحانا
2- قوامة الرجل على أهله:
وليست القوامةُ مغنمًا للزوج، ولا مغرمًا للزوجة؛ فللزوج حقوقٌ وواجبات، وللزوجة حقوقٌ وواجبات، وما من سفينةٍ إلا ولها قائدٌ واحدٌ يديرها بالتشاور والتعاون مع صحبته المرافقين له، وقد ثبتت القوامة للزوج بضوابطها الشرعية، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [النساء: 34]
ولذا فإن الرجل هو المسئول الأول عن أهل بيته، فعليه أن يعلمهم أمور دينهم كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6]، ولا يتساهل الرجل في ترك أبناءه دون توجيهٍ ولا تربية، وليحذر من سؤال الله يوم القيامة.
ومن واجبات الرجل على أهل بيته:
أن يُلزمَ أهله بالحجاب الشرعي أمام الأجانب.
أن يصون الرجل أهله من الاختلاط.
أن يحذر من دخول الأجانب إلى بيته: فخلوة المرأة بالأجانب من أقربائها، هذا الذي يفوت بعض الرجال فيتساهلون فيه إحسانًا للظن، وإعمالاً لعاداتٍ تخالف ما شرعه الله سبحانه. فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجُهني -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ)) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ: ((الحَمْوُ المَوْتُ))(33)، وقوله-صلى الله عليه وسلم-: ((الحَمْوُ المَوْتُ))، فمعناه أن الخوف منه أكثر من غيره، والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي(34). والحمو: هو قريب الزوج، وقد شبهه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالموت، وفي ذلك دلالةٌ بالغة الشدة في التحذير من دخول الأجانب إلى البيت، ولو كان القرين أخا الزوج إذا لم يكن مع الزوجة محرمٌ شرعي.
أن يحفظ أهله من شبهات العصر ومن الفتن: فإن بعض الأزواج تجده أشد في غيرته على أهله، لكنه يناقض غيرته وحياءه، إذ يدخل إلى بيته من أسباب الفتنة العصرية ما يدفع أهله شيئًا فشيئًا إلى الشبهات. وتعد الفضائيات الأجنبية، والأغاني المسموعة والمرئية من الأسباب التي تلوث صفاء العفاف في البنات والزوجات.
3- حسن اختيار الزوجة:
فينبغي على صاحب البيت أن يختار الزوجة الصالحة بالشروط التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاك))(35). وإن كان العقد رغبةً في الدين فهو أوثق العقود حالًا وأدومها ألفًة وأحمدها بدءًا وعاقبًة؛ لأن طالب الدين متبعٌ له ومن اتبع الدين انقاد له، فاستقامت له حاله، وأمِنَ زلَلَه. ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ((فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ))(36).
وإذا كانت المرأة ديِّنَة غرست في أبنائها أعظم الأخلاق والقيم
نسأل الله أن يصلح أحوالنا وأن يستر عوراتنا
---
(1) أخرجه البخاري(4634)، ومسلم(33) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
(2) وانظر روضة المحبين ونزهة المشتاقين لابن القيم (ص: 274).
(3) الوارد في المعاجم القديمة والحديثة "غَيْرَة" بفتح الغين بهذا المعنى، قال في المصباح: غار الرجل على امرأته .. غَيْرة بالفتح، قال ابن السكيت: ولا يقال غِيرَة بالكسر.
(4) أخرجه الترمذي(1421) من حديث سعيد بن زيد، وصححه الألباني في المشكاة(3529).
(5) ديوان حسان بن ثابت (ص: 172).
(6) أخرجه أحمد(2131) بهذا اللفظ. وأصله في البخاري(6846)، ومسلم(17).
(7) وَإِنَّمَا أَرَادَ سعدٌ أَنه لَو وجد رجلًا مَعَ امْرَأَته لضربه بِحَدّ سَيْفه لَا بعرضه وَلم يصبر إِلَى أَن يَأْتِي بأَرْبعَة شُهَدَاء. وانظر غريب الحديث لابن قتيبة (1/ 457).
(8) أخرجه البخاري(6846)، ومسلم(17).
(9) المرأة السلفع: السليطة الجريئة على الرجال الوقحة. وانظر العين (2/ 331)، وغريب الحديث للخطابي (2/ 548)، و النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير(2/ 390).
(10) أخرجه الطبري في التفسير(19/ 559)، والحاكم في المستدرك (3530)، وقال صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
(11) تفسير الطبري(18/ 225).
(12) ديوان عنترة بن شداد.
(13) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية(4/ 181)، (6/235)، ورسالة في شرح قاعدة أهل السنة، لوليد السعيدان (ص: 40).
(14) أخرجه البخاري(4925)، ومسلم(36).
(15) أخرجه مسلم(38).
(16) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن القيم(3/ 45).
(17) أخرجه البخاري(3242)، ومسلم(20).
(18) أخرجه البخاري(402).
(19) البداية والنهاية(11/ 81).
(20) أخرجه البخاري(5224)، ومسلم(34).
(21) أخرجه البخاري(2554)، ومسلم(20). من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-.
(22) تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي (1/ 469).
(23) رسائل ابن حزم (1/ 279).
(24) وانظر الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم (ص: 66-67).
(25) أخرجه النسائي في الكبرى(2354)، وأحمد في المسند(5372) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير(3052).
(26) شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (8/ 2556).
(27) أخرجه البخاري(2554)، ومسلم(20). من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-.
(28) أخرجه البخاري(3456). من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
(29) أخرجه النسائي في الكبرى(9180) من حديث عمر بن الخطاب، وصححه الألباني في المشكاة(6012).
(30) وانظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي (3/ 28).
(31) وانظر: المحاسن والأضداد للجاحظ(ص: 250)، و الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم (ص: 210). والزاهر في معاني كلمات الناس للسيوطي (1/ 243)، وتفسير المنار (12/ 229).
(32) ديوان معروف الرصافي (ص: 71).
(33) أخرجه البخاري(5232)، ومسلم(20).
(34) وانظر شرح النووي على مسلم (14/ 154).
(35) أخرجه البخاري (5090)، ومسلم(3625). من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(36) أدب الدنيا والدين، لابن أبى الدنيا (ص: 156).