رجـب شهر الغـرس
مقدمة:
إن الله عز وجل خلق الموت والحياة بلاءً للعباد ليعلم من منهم يحسن العمل، وجعل الأيام دول بين الناس، فالسَنةُ اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم كما ذكر ربنا تبارك وتعالى في كتابه بقوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [التوبة: 36]
وخَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ بِالذِّكْرِ، وَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ فِيهَا تَشْرِيفًا لَهَا وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي كُلِّ الزَّمَانِ(1).
والْأَشْهُرَ الْحُرُمَ مِنْهَا: ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: "ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ، مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى، وَشَعْبَانَ "(2).
وقد خصت هذه الأشهر ببعض الفضائل، قال ابن رجب: " شهر رجب مفتاح أشهر الخير والبركة، وقال أبو بكر الوراق البلخي: شهر رجب شهر للزرع وشعبان شهر السقي للزرع ورمضان شهر حصاد الزرع، وعنه قال: مثل شهر رجب مثل الريح ومثل شعبان مثل الغيم ومثل رمضان مثل القطر وقال بعضهم: السنة مثل الشجرة وشهر رجب أيام توريقها وشعبان أيام تفريعها ورمضان أيام قطفها والمؤمنون قطافها جدير بمن سود صحيفته بالذنوب أن يبيضها بالتوبة في هذا الشهر وبمن ضيع عمره في البطالة أن يغتنم فيه ما بقي من العمر، فانتهاز الفرصة بالعمل في هذا الشهر غنيمة واغتنام أوقاته بالطاعات له فضيلة عظيمة"(3).
ومن أراد ثمار رمضان لابد من الاستعداد، والبذر الجيد لها، ولو أرادوا رمضان لأعدوا له عدة.
قوافل المستعـدين(4):
1-قافلة التلاوة:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29، 30]
فقراءة القرآن من أفضل الذكر، وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ"(5).
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه-، أنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} تَعْدِلُ رُبُعَ القُرْآنِ"(6).
وفي الحديث الآخر عن ابْنَ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ"(7).
وهذا دليل على عظم قراءة القرآن والله يضاعف لمن يشاء، وكل إنسان وهمتَه في هذا الباب، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]
2- قافلة الذاكرين:
قال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 35]
وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [الأحزاب: 41، 42]
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: "لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ"(8).
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ"؟ ، قَالُوا: بَلَى. قَالَ: "ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى"، قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: "مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ"(9).
قال ابن القيم: " ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، وصدأ القلب بأمرين بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين بالاستغفار والذكر.
فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكباً على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل، فإذا تراكم عليه الصدأ واسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقاً ولا ينكر باطلاً."(10).
3-قافلة المتصدقين:
فقد أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن يوم القيامة وأهواله، فذكر أنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ يَوْمَ القِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ البَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنْهُمْ فَيَبْلُغُ النَّاسُ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ.
وقال أبو موسى -رضي الله عنه-: " الشَّمسُ فوق رؤوسِ النَّاس يومَ القيامة، فأعمالهم تُظِلُّهم، أَوْ تُضَحِيِّهُمْ "(11).
فلا ظل هنالك ولا ظليل إلا ظل عرش الملك الجليل، وقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- عن الأعمال الموجبة للاستظلال بظل عرش الرحمن منها التصدق، فعَن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ-فذكر منها-" وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ"(12).
وقال سبحانه: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]
وعَن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ قَالَ: حَتَّى يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ". وقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: فَكَانَ
أَبُو الخَيْرِ اليَزَنِيُّ المِصْرِيُّ لَا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ لَا يَتَصَدَّقُ مِنْهُ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَعْكَةً وَلَوْ بَصَلَةً(13).
فلا تحرم نفسك من ثواب الصدقة ولو بالقليل، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَالُوا: وَكَيْفَ؟ ، قَالَ كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا"(14).
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى، وَاليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ"(15).
ومن عجز عن التصدق بماله، لن يضيع منه الفضل والثواب، عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، أَنَّهُ قَالَ: "يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلاَمَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى"(16).
وقال ابن القيم: " وفى الصدقة فوائد ومنافع لا يحصيها الا الله فمنها انها تقى مصارع السوء وتدفع البلاء حتى إنها لتدفع عن المظلوم، قال إبراهيم النخعي: "وكانوا يرون أن الصدقة تدفع عن الرجل المظلوم وتطفئ الخطيئة وتحفظ المال وتجلب الرزق وتفرح القلب وتوجب الثقة بالله وحسن الظن به كما أن البخل سوء الظن بالله، وترغم الشيطان -يعنى الصدقة- وتزكى النفس وتنميها وتحبب العبد الى الله وإلى خلقه وتستر عليه كل عيب كما أن البخل يغطى عليه كل حسنة وتزيد فى العمر وتستجلب أدعية الناس ومحبتهم وتدفع عن صاحبها عذاب القبر وتكون عليه ظلا يوم القيامة وتشفع له عند الله وتهون عليه شدائد الدنيا والآخرة وتدعوه الى سائر أعمال البر فلا تستعصى عليه وفوائدها ومنافعها أضعاف ذلك، ولو لم يكن فى النفع والاحسان الا أنه صفة الله وهو سبحانه يحب من اتصف بموجب صفاته وآثارها فيحب العليم والجواد والحيي والستير والمؤمن القوى أحب اليه من المؤمن الضعيف ويحب العدل والعفو والرحيم والشكور والبر والكريم فصفته الغنى والجود ويحب الغنى الجواد"(17).
4-قافلة المدلجين في ظلام الليل:
البعض يستثقل صلاة التراويح في رمضان، وسبب ذلك أنه لم يكن متعودًا على قيام الليل قبل ذلك فيصاب بالفتور فيحرم الثواب، ولقد ذكر الله عز وجل صفات المتقين الذين وجبت لهم الجنات والعيون بأنهم، (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)، قال ابن عباس: "لم يكن يمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئاً"(18).
هذا حال المتقين لا ينعمون بنوم خوفاً من عقاب ربهم، وطمعًا في رضوانه كما وصفهم سبحانه بقوله: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون} [السجدة: 16]
أي: تتنحَّى جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله، الذين وصفت صفتهم، وترتفع من مضاجعهم التي يضطجعون لمنامهم، ولا ينامون {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} في عفوه عنهم، وتفضُّله عليهم برحمته ومغفرته {ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} في سبيل الله، ويؤدّون منه حقوق الله التي أوجبها عليهم فيه(19).
عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا"، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِمَنْ أَطَابَ الكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ"(20).
وإن الليل موطن تَنَزلُ الرحمات، ونزول رب الأرض والسماوات، فعليك باغتنامه بالطاعات، والإكثار من القربات، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهِ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ "(21).
وعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً لاَ يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ(22).
وفي الحديث تنبيه على أن آخر الليل للصلاة والدعاء والاستغفار وغيرها من الطاعات أفضل من أوله(23).
ومن يغفل عن مثل هذه الساعة، فقد حُرم الخير الكثير، عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الفَجْرِ"(24).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطَرِينَ"(25).
ومن تأمل حال السلف مع قيام الليل يرى العجب، ويشعر بالخجل والتقصير، فعن عَنْ قَمِيرٍ، امْرَأَةِ مَسْرُوقٍ، قَالَتْ: " مَا كَانَ مَسْرُوقٌ يُوجَدُ إِلَّا وَسَاقَاهُ قَدِ انْتَفَخَتَا مِنْ طُولِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ، قَالَتْ: وَاللهِ، إِنْ كُنْتُ لِأَجْلِسُ خَلْفَهُ، فَأَبْكِي رَحْمَةً لَهُ "(26).
وقال أَبُو الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه-: " لَوْلَا ثَلَاثٌ مَا أَحْبَبْتُ أَنْ أَعِيشَ يَوْمًا وَاحِدًا: الظَّمَأُ لِلَّهِ بِالْهَوَاجِرِ، وَالسُّجُودُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَمُجَالَسَةُ قَوْمٍ يَنْتَقُونَ مِنْ خِيَارِ الْكَلَامِ، كَمَا يُنْتَقَى أَطَائِبُ التَّمْر"(27).
5-قافلة ظمأ الهواجر:
جاءت السنة بذكر كثير من فضائل الصيام وفوائده، فمنها أن الله يجبر به تقصير العبد في الفرائض، ثم إن صيام التطوع زيادة قربة وامتثال وطاعة لله عز وجل، فتزيد من محبة الله للعبد كما في الحديث الصحيح: ((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ))(28).
فالتقرب بالنوافل يزيد من حسنات العبد ويرفع من درجته، ويوجب محبة الله للعبد، وبقدر حرص الإنسان على فعل النوافل والطاعات يكون أقرب لمحبة الله، فأولى الناس بمحبة الله من حافظ على النوافل وأكثر منها.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ "(29).
وعَنْ سَهْلٍ بن سَعْدٍ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: " إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ "(30).
ومن عِظم فضل الصيام إضافته لله تعالى تشريفاً لقدره وتعريفاً بعظيم فخره، عن أبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " قَالَ اللَّهُ: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ"(31).
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا"(32).
فالصوم من العبادات الجليلة، اختصه الله لنفسه ووعد عليه بالأجر العظيم، وهو وقاية من المعاصي ووقاية من النار، وسبب للبعد عنها يوم القيامة، فحري بالمؤمن المبادرة إلى هذا العمل العظيم وتحمل ما فيه من المشقة اليسيرة التي يعقبها الفرح العظيم عند الفطر وعند لقاء الله عز وجل يوم القيامة(33).
فاغتنم أيامك بالخير وسارع وبادر حتى تكون على أفضل حال ، نسأل الله أن يكتب لنا وإياكم الخير.
---
(1)تفسير القرطبي (8/ 135).
(2)أخرجه البخاري(4662)، ومسلم(29).
(3)لطائف المعارف لابن رجب (ص: 121).
(4)لم يرد في شرعنا تخصيص لشهر رجب بصلاة مخصوصة، أو بصيام مخصوص، أو بعبادة مخصوصة، ولكن ما نورده هو من باب التذكير ووضع برنامج جيد للاستعداد لشهر رمضان. هذا ضابط لابد من التنبيه عليه ليعلم.
(5)أخرجه البخاري(5013).
(6)أخرجه الترمذي(2894)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير(4405).
(7)أخرجه الترمذي(2910)، وصححه الألباني في المشكاة(2137).
(8)أخرجه الترمذي(3375)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2812).
(9)أخرجه الترمذي(3377)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (5644).
(10)الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم(ص: 40).
(11)انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب(3/ 1008). و ابن أبي شيبة في مصنفه (35961).
(12)أخرجه البخاري(1423)، ومسلم(91).
(13)أخرجه ابن خزيمة في صحيحه(2431)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير(4510).
(14)أخرجه النسائي في الكبرى(2526)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3606).
(15)أخرجه البخاري(5355)، ومسلم(95).
(16)أخرجه مسلم(84).
(17)عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم(ص: 254).
(18)تفسير الطبري (22/ 407).
(19)تفسير الطبري(20/ 178).
(20)أخرجه الترمذي(2527)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح(1232).
(21)أخرجه النسائي في الكبرى(10248)، صحيح الجامع الصغير (3243).
(22)أخرجه مسلم (166).
(23)شرح النووي على مسلم (6/ 37).
(24)أخرجه البخاري(1140)، ومسلم(124).
(25)أخرجه أبو داود(1400)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2189).
(26)أخرجه النسائي في الكبرى(11868)، الزهد والرقائق لابن المبارك (95).
(27)الزهد والرقائق لابن المبارك (277).
(28)أخرجه البخاري(6502)، من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-.
(29)أخرجه أحمد(9225)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3879).
(30)أخرجه البخاري(1896)، ومسلم(166).
(31)أخرجه البخاري(1904)، ومسلم(163).
(32)أخرجه البخاري(2840)، ومسلم(168).
(33)انظر الدروس اليومية من السنن والأحكام الشرعية(ص: 25)، للشيخ/ د. راشد بن حسين العبد الكريم.