الإقصائيون
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وبعد،
فإن خير الناس للناس أهل الإسلام وأرحم الناس بالناس أهل السنة في المسلمين، فإنهم أوسع الناس صدرًا إن استُغضبوا، وأرأف الخلق بالخلق إن عوتبوا، وأعدل الناس إن ملكوا، وأصبر الناس إن ظُلموا، فهم نقاوة الناس والقدوة لكل من ساس.
لم يعرف أهل الإسلام قط ظاهرة الإقصاء بكل معانيه وأنواعه من إقصاء جسدي أو معنوي، فلم يفرض أهل الإسلام على أحد اعتناقه، أو يحيفوا على غيرهم ويأتوا على دينهم بإقلاعه.
فعاش المعاهدون والمستأمنون بين المسلمين في خير جوار، وأمنوا على أنفسهم وأموالهم في الأقطار، فكانوا في صوامعهم وكنائسهم يتعبدون، وفي تجارتهم مع المسلمين يربحون، ومن عدوان الظالمين عليهم ينتصرون، وبالقضاء العادل لا يُخذلون، ومرت قرون وتتابعت الدهور وهم بين المسلمين يتعايشون،
فلما كان المسلمون تحت قبضتهم وفي ظل سلطانهم إذا هم يفجرون، وبالعداوة يصارحون، وبالإقصاء والظلم يتعاملون، فمظهر الدين ممنوع! حتى التعبد في الخلوة غير مسموح! ؛ فهدمت المساجد، ومنعت المآذن، وحُظر الحجاب، وصدرت القوانين بطرد المنكوبين والمبتلين من المسلمين، فإلى الله المشتكى، ثم بعد ذلك يُتهم المسلمون بما ليس فيهم!
وحقيقة الأمر كما قالوا: رمتني بدائها وانسلت.فحالهم اليوم كحالهم مع أبي بكر الصديق في مكة، لم يسمحوا له بتلاوة القرآن فضلا عن النداء بالأذان، فاعتكف في بيته وآثر الاجتنان، فاشتد غيظهم وقالوا سيفتن نساءنا وأبناءنا ويصدهم عن دين الآباء والأجداد؛ فنكثوا العهود وغيروا الأيمان، ولم يعايشوا رجلًا يعبد ربه في قعر بيته أو بالفناء
عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- طَرَفَيِ النَّهَارِ، بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ المُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ القَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ، فَأَعْبُدَ رَبِّي، قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ، فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ، فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ، وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ، وَلاَ القِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً، لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ القُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَأْتِهِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلاَنَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ العَرَبُ، أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ. (1)
إن رجلًا على هذا الوصف إنه لثروة لأي أمة راشدة، إنه كما نقول اليوم بمثابة مؤسسة خيرية تعمل لنفع الناس وإسعاد العباد، لكن العقول المتحجرة لا تقبل إلا من كان على شاكلتها، فلا تعلم قواعد الائتلاف ولا أسس التعايش بلا إسفاف.
وترى في المقابل تعاملًا نبويا عظيمًا لا تعرفه أمم في عصرنا تدعي العدل والتسامح
لما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فاتحًا بعد سنوات من القهر والإقصاء، ثلاثة عشر عامًا ولا يرفع نداء الحق في البيت الحرام، ولا يسمح بالصلاة فيه علنًا خلف إمام، ولا يجوز لأحد من المسلمين أن يطوف ويصلي خلف المقام ليس لشيء إلا لأنهم وحدوا الواحد ولم يشركوا به في عمل أو يعبدوا الأوثان.
فلم يعاملهم صلوات الله وسلامه عليه بما كانوا به عاملين ومجترئين، أو يكافئهم على قدر ظلمهم وإقصائهم المؤمنين، بل منَّ عليهم وعلمهم كيف يكون التعايش بين المختلفين حتى في الدين " فجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله، أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم، قال أبو سفيان: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. (2)
إن التاريخ يعيد نفسه والأحداث تترى متشابهة، وملة الكفر واحدة، والأسس التي يتعاملون بها معنا خالدة، ولن تزول أو تتغير حتى تقع الواقعة
فلنتفكر مليًّا ونعمل معًا لتجتمع قلوب المؤمنين، فما تسلط علينا عدونا إلا لما تفرق جمعنا، ودب الشقاق بيننا، ووقعت العصبية والطائفية حتى اقتتل بعضنا
فاللهم احفظ عبادك المؤمنين
وأذهب عنهم كيد الكائدين ومكر الماكرين.
كتبه
أحمد بن سليمان
---
(1) صحيح البخاري (2175)
(2) صحيح مسلم (4647)