ذو النورين عثمان بن عفان
من هو كيف أسلم مناقبه محنته
إن ﻋﻮدة اﻷﻣﺔ ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ ﻗﻴﺎدﲥﺎ ﻟﻠﺒﺸﺮﻳﺔ ﻣﻨﻮﻃﺔ ﺑﺴﻴﺮﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﻫﺪى اﻟﻨﺒﻲ-صلى الله عليه وسلم- وﺧﻠﻔﺎﺋﻪ اﻟﺮاﺷدﻳﻦ.
وإن النظر في سِيَر الصحابة والتمسك بما كانوا عليه، فيه إفادة في إعداد جيل مسلم يتربى على منهاج النبوة.
لذا يقول الإمام أحمدرحمه الله-: "أصُول السّنة عندنَا التَّمَسُّك بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَاب رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء بهم"(1) .
من هو؟
هو أَبُو عَمْرٍو وَ قِيلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْقُرَشِيُّ، الْأُمَوِيُّ، أمير المؤمنين، ذو النورين، وصاحب الهجرتين، وَزَوْجُ الِابْنَتَيْنِ، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ، وَهُوَ أَحَدُ العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشُّورَى، وَأَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خَلَصَتْ لَهُمُ الْخِلَافَةُ مِنَ السِّتَّةِ، ثُمَّ تَعَيَّنَتْ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكَانَ ثَالِثَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، الْمَأْمُورِ بِاتِّبَاعِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ(2) .
كيف أسلم؟
أَسْلَمَ عُثْمَانُ -رضي الله عنه- قَدِيمًا عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ-رضي الله عنه-، قَالَ عُثْمَانُ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عُثْمَانُ إِنَّكَ لَرَجُلٌ حَازِمٌ، مَا يَخْفَى عَلَيْكَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي يَعْبُدُهَا قَوْمُنَا؟ أَلَيْسَتْ مِنْ حِجَارَةٍ صُمٍّ لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ؟ قَالَ: قُلْتُ بَلَى! وَاللَّهِ إِنَّهَا لَكَذَلِكَ، قال: فاجتمعنا برسول الله-صلى الله عليه وسلم- فقال: يا عثمان أجب الله إلى حقه، فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ وَإِلَى خَلْقِهِ قَالَ: فو الله ما تمالكت نفسي مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريك له(3) . لا شك أن في قول عثمان-رضي الله عنه-، أثرًا إيجابيًا على النفوس إذ أنه -رضي الله عنه- لم يتكاسل ولم يتلعثم ولم يتلكأ في استجابته لأمر الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم- فحق له أن يكون من السابقين الأوليين الذين قال الله عنهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 100]
مناقب عثمان -رضي الله عنه-:
نشأ عثمان -رضي الله عنه- على الأخلاق الفاضلة الكريمة، والسيرة الحسنة الحميدة، وكان حيياً، شديد الحياء، عفيف النفس، واللسان، أديب الطبع، ولحسن خلقه، ومعاملته؛ أحبته قريش حتى ضربت العرب المثل بحبها له. وفي ذلك يقول الشعبي: "كان عثمان في قريش محبباً يُوصُون إليه، ويعظمونه، وإن كانت المرأة من العرب تُرقِّص صبيها وهي تقول:
أُحِبُّك والرحمــــــــــن حبَّ قريش لعثمان (4) .
(أ)عبادته -رضي الله عنه-:
كان لعثمان-رضي الله عنه- قلبًا عامرًا بالإيمان بالله مراقبًا لله مخبتًا وجِلًا، عن السائب بن يزيد أن عثمان قرأ القرآن ليلة في ركعة(5) .
قَالَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: قَالَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ حِينَ أَطَافُوا بِهِ يُرِيدُونَ قَتَلَهُ: (إِنْ تَقْتُلُوهُ أَوْ تَتْرُكُوهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي رَكْعَةٍ يَجْمَعُ فِيهَا الْقُرْآنَ)(6) .
(ب)حـــياءه-رضي الله عنه-:
لقد اشتهر عثمان -رضي الله عنه- بحيائه بين الصحابة، فحري بنا أن نقتدي بهذا الحيي الكريم عثمان بن عفان-رضي الله عنه-، فإن الحياء صفة طيبة، وخلق كريم من أخلاقيات الإسلام، ولله در القائل:
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه……فلا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياؤك فاحفظه عليك فإنما……يدل على وجه الكريم حياؤه
فالحياء يبعث على ترك الأمور القبيحة، ويحول بين الإنسان وارتكاب المعاصي، والرجل ذو الحياء لا يمكن أن ينتهك حرمات الله. كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم- ((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ))(7) .
وعن حياء عثمان قالت عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: إن رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ (8) .
عن عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ، أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَسَوَّى ثِيَابَهُ - قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَا أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ - فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ: ((أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ))(9) .
وَذَكَرَ الْحَسَنُ عُثْمَان وَشِدَّةَ حَيَائِهِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ لَيَكُونُ فِى الْبَيْتِ، وَالْبَابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ، فَمَا يَضَعُ عَنْهُ الثَّوْبَ لِيُفِيضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، يَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ أَنْ يُقِيمَ صُلْبَهُ(10) .
(ج)جــــــــــوده -رضي الله عنه-:
إن عثمان -رضي الله عنه- لم يترك بابا من أبواب الخير إلا سلكه فكان مثالًا حقيقيًا لمعنى الجود، ومن أمثلة ذلك:
حفره بئر رومة:
لم تكن المياه العذبة متوفرة في المدينة، وكان أحسن بئر في المدينة به ماء عذب بئر رومة، وكان لرجل يهودي وكان يتحكم في بيع الماء، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلَ دَلْوَهُ مَعَ دِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟ ))(11) ، فذهب عثمان-رضي الله عنه-، وساومه على البئر فأبى، فاحتال له عثمان وقال: بعني نصفه بقيمته، فوافق. فكان يوماً لـعثمان ويوماً لليهودي، فقام عثمان ونادى في المدينة، اليوم الذي لي أبيحه للجميع يأخذونه في سبيل الله، فكان الناس يأخذون الماء مجاناًً في يوم عثمان، وفي يوم رومة يبيعه لهم، فصاروا يأخذون في يوم عثمان ما يكفيهم ليومين، ثم ساوم اليهودي عثمان على أن يشتري النصف الآخر ولو بربع الباقي، فاشتراه عثمان وصار بئر عثمان. فلما عُلِق عليها العُلَق مر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأل عنها، فأُخبر أن عثمان اشتراها وتصدق بها، فقال: "اللهم أوجب له الجنة"، ودعا بدلو من مائها فشرب منه(12) .
تجهيزه جيش العسرة:
في سنة تسع من الهجرة أصاب الناس عُسْرَة، وَشِدَّةٍ مِنْ الْحَرِّ، وَجَدْبٍ مِنْ الْبِلَادِ: وَحِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ، وَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ، فَأَمَرَ النبي-صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ بِالْجِهَازِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّومَ، وقال: "مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ"؟ (13) ، فتسابق الخيرون في هذا المضمار فكان أسبقهم عثمان-رضي الله عنه-، قيل إنه حمل على ألف بعير ومائة فرس وجهزها أتم جهاز حتى لم يفقدوا عقالاً وخطاماً-رضي الله عنه-(14) . قال عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ-رضي الله عنه-: جَاءَ عُثْمَانُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِأَلْفِ دِينَارٍ فَنَثَرَهَا فِي حِجْرِهِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَلِّبُهَا فِي حِجْرِهِ وَيَقُولُ: "مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ مَرَّتَيْنِ"(15) .
(دـ)تبشير النبي-صلى الله عليه وسلم- له بالشهادة والجنة:
عن سعيد بن زيد-رضي الله عنه- أنه قال: أشهدُ على رسولِ الله-صلى الله عليه وسلم- أني سمعتُه وهو يقول: "أبو بكر في الجنة، وعُمَرُ في الجنة، وعثمانُ في الجنة"(16) . وعن أَنَسِ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَعِدَ أُحُدًا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَالَ: "اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ"(17) .
وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فِي حَائِطٍ مِنْ حَائِطِ الْمَدِينَةِ، فذكر الحديث وفيه "ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ، قَالَ فَجَلَسَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: افْتَحْ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تَكُونُ، قَالَ: فَذَهَبْتُ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، قَالَ: فَفَتَحْتُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، قَالَ: وَقُلْتُ الَّذِي قَالَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَبْرًا، أَوِ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ"(18) .
محنة عثمان-رضي الله عنه-:
أخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في حياته عثمانَ -رضي الله عنه- أنه ستصيبه بلوى، وأنه سيموت فيها شهيداً، وعهد إليه بالصبر على تلك البلوى، فأطاع عثمان -رضي الله عنه- نبيَّه، ولم يخالف أمره، ولم ينقض عهده. عَنْ عَائِشَةَ-رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: " ادْعُوا لِي بَعضَ أَصْحَابِي. . . ، وفيه: "فَجَعَلَ يُسَارُّهُ، وَلَوْنُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الدَّارِ وَحُصِرَ فِيهَا، قُلْنَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا تُقَاتِلُ؟ قَالَ: " لَا، إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا، وَإِنِّي صَابِرٌ نَفْسِي عَلَيْهِ(19) . وكل ما أخبر به النبي-صلى الله عليه وسلم- من أمر الفتنة قد وقع، فقد ظهر مجموعة من الأوباش ينقمون على الخليفة الراشد عثمان بعض الأمور، ويفترون عليه الكذب، من هذه الأمور:
(أ) عدم شهوده غزوة بدر: قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ"(20) . فلما كان غائبًا في حاجة الله ورسوله جعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كمن حضرها(21) .
(ب) توليه يوم أحد عن المعركة:
لما خالف الرماة في غزوة أحد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت الكَرَّةُ عليهم، وفقد المسلمون مواقعهم، وأخذوا يقاتلون دون تخطيط، فلم يستطيعوا تمييز بعضهم من بعض وأسقط في أيديهم، ففر كثيرون منهم من ميدان القتال، وانتحى بعضهم جانباً دون قتال، في حين آثر آخرون الموت على الحياة فقاتلوا حتى الموت وقد ذكر الله جل وعلا خبر الفرار، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155].
قال الطبريرحمه الله-: تولى أناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد عن القتال وعن نبيّ الله يومئذ، وكان ذلك من أمر الشيطان وتخويفه، فأنزل الله عز وجل: أنه قد تجاوز لهم عن ذلك وعفا عنهم(22) .
(ج)تخلفه عن بيعة الرضوان: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عُثْمَانَ إِلَى مَكَّةَ فَاسْتَقْبَلَهُ أَهْلُهُ وَرَهْطُهُ وَرَكَّبُوهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَجَارُوهُ مِنْ تَعَرُّضِ أَحَدٍ لَهُ وَقَالُوا: طُفْ بِالْبَيْتِ لِعُمْرَتِكَ، فَقَالَ: حَاشَا أَنِّي أَطُوفُ فِي غَيْبَتِهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَمَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، أَيْ وَشَاعَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ تَعَرَّضُوا لِحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَعَدَّ الْمُسْلِمُونَ لِلْقِتَالِ، وَبَايَعَهُمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَلَى أَنْ لَا يُغَرُّوا، وَقِيلَ بَلْ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ.
فَبَايَعَ -صلى الله عليه وسلم-النَّاسَ، ثم قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَةِ اللهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ. فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى، فَكَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِعُثْمَانَ خَيْرًا مِنْ أَيْدِيهِمْ لأَنْفُسِهِمْ(23) .
(د) جمع القرآن وحرق المصاحف: عن أَنَسِ بْنَ مَالِكٍ-رضي الله عنه- أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ-رضي الله عنه-، قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ-رضي الله عنه- وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ، وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ العِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي القِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ، قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلاَفَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: "أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ"، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ العَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي المَصَاحِفِ "، وَأَرْسَلَ عثمان إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ القُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ، أَنْ يُحْرَقَ(24) .
فعاب الخارجين على عثمان-رضي الله عنه- جمعه للمصحف، فقال عَلِيُّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَغْلُوا فِي عُثْمَانَ وَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا فِي الْمَصَاحِفِ وَإِحْرَاقِ الْمَصَاحِفِ،
فَوَاللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنَّا جَمِيعًا(25) .
وقال أبو مِجْلَزٍرحمه الله-: عَابُوا عَلَى عُثْمَانَ تَمْزِيقَ الْمَصَاحِفِ وَآمَنُوا بِمَا كُتِبَ لَهُمْ(26) .
وقال ابن العربيرحمه الله-: "وأما جمع القرآن، فتلك حسنته العظمى، وخصلته الكبرى، فإنه حسم مادة الخلاف فيها، وكان نفوذ وعد الله بحفظ القرآن على يديه"(27) .
(هــ) نَفْيُ أَبِي ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ: قال زَيْدُ بْنِ وَهْبٍ: مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه-، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا؟ قَالَ: " كُنْتُ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ } [التوبة: 34]، قَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الكِتَابِ، فَقُلْتُ: " نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ-رضي الله عنه- يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ: أَنِ اقْدَمِ المَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ، فَقَالَ لِي: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا، فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا المَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ(28) .
وفي هذا دليل على بطلان دعوى الخارجين بأن عثمان طرد أبا ذر إلى الربذة، وإنما كان أبو ذر رجلًا زاهدًا.
(و) ردُّ عُثْمَانَ الْحَكَمَ، وَقَدْ نَفَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: زعم البغاة أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- طَرَدَ الْحَكَمَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ عَمَّ عُثْمَانَ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ ابْنُهُ مَرْوَانُ، فَلَمْ يَزَلْ هُوَ وَابْنُهُ طَرِيدَيْنِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ آوَاهُ وَرَدَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. قال ابن تيميةرحمه الله-: وَقَدْ طَعَنَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي نَفْيِهِ، وَقَالُوا: هُوَ ذَهَبَ بِاخْتِيَارِهِ. وَقِصَّةُ نَفْيِ الْحَكَمِ لَيْسَتْ فِي الصِّحَاحِ، وَلَا لَهَا إِسْنَادٌ يُعْرَفُ بِهِ أَمْرُهَا(29) .
لما أثيرت هذه الأمور حوصر عثمان في داره فجاء الصحابة ليدافعوا عنه فأبى -رضي الله عنه- وقَالَ: أَعْزِمُ عَلَى مَنْ كَانَ لَنَا عَلَيْهِ سَمْعٌ وَطَاعَةٌ لَمَا كَفَّ يَدَهُ وَسِلَاحَهُ، فَإِنَّ أَعْظَمَكُمْ عِنْدِي غَنَاءً الْيَوْمَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ وَسِلَاحَهُ(30) .
قَالَ كَعْبُ بْنُ مُرَّةَ الْبَهْزِيُّ-رضي الله عنه-: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، إِذْ مَرَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مُرَجِّلًا قَالَ: ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: " لَتَخْرُجَنَّ فِتْنَةٌ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْ، أَوْ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْ هَذَا، يَوْمَئِذٍ وَمَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى الْهُدَى "(31) .
ليجتمع عليه الناس ويقتلوه ليلقى الله شهيدا بعد خلافة راشدة فتح الله بها على يديه البلاد وعم فيه الخير ، فرضي الله عن عثمان وعن سائر الصحابة أجمعين.
والحمد لله رب العالمين
---
(1) أصول السنة لأحمد بن حنبل (ص: 14).
(2) البداية والنهاية (7/ 198)، لابن كثير، الكامل في التاريخ لعز الدين بن الأثير (2/ 552)،.
(3) تاريخ دمشق لابن عساكر (39/ 25).
(4) تاريخ دمشق لابن عساكر (39/ 251).
(5) فتح الباري لابن حجر (2/ 482)، تحفة الأحوذي (2/ 457).
(6) حلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 57)، السنة لأبي بكر بن الخلال (2/ 332).
(7) أخرجه البخاري (5769).
(8) أخرجه مسلم(2402).
(9) صحيح مسلم (4/ 1866) (2401)
(10) غاية المقصد في زوائد المسند (3/ 356).
(11) أخرجه الترمذي (3703)، وحسنه الألباني في الإرواء (1594).
(12) الطبقات الكبرى، لابن سعد(1/ 505).
(13) أخرجه البخاري (2778).
(14) انظر سيرة ابن هشام (2/ 516)، الفصول في السيرة (ص: 210)لابن كثير.
(15) أخرجه الترمذي(3701)، وحسنه الألباني في المشكاة(6073).
(16) أخرجه أبو داوود(4649)، وصححه الألباني في المشكاة(6118).
(17) أخرجه البخاري (3675).
(18) أخرجه مسلم(2403).
(19) أخرجه أحمد (24253)، وصححه الألباني في المشكاة(6079).
(20) أخرجه البخاري(3130).
(21) انظر شرح صحيح البخاري لابن بطال (5/ 294).
(22) تفسير الطبري (7/ 328).
(23) انظر صحيح البخاري(3698)، وسنن الترمذي(3702)، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (9/ 3927).
(24) أخرجه البخاري (4987).
(25) المصاحف لابن أبي داود (ص: 97).
(26) المصنف لابن أبي شيبة (37678).
(27) العواصم من القواصم (ص: 80).
(28) أخرجه البخاري (1406).
(29) منهاج السنة النبوية (6/ 265).
(30) تاريخ المدينة لابن شبة (4/ 1208).
(31) أخرجه أحمد (18067)، وصححه الألباني في الصحيحة(3119).