خطورة التشبه
معنى التشبه وضوابطه
نهى الإسلام عن التشبه
أسباب الوقوع في التشبه
صور التشبه
المخرج من الفتنة
مقدمة
لقد بين الله عز وجل لعباده منهاجًا واضحًا من أمر دينهم يَشْرَعُ بهم إلى الحق، فأوصى سبحانه نبيه-صلى الله عليه وسلم- بقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]، أي: اتَّبع ما يُوحى إليك مِنْ ربِّك وهو شريعتك الحقَّة الثَّابتة بالدلائل والحُجَج، ولا تتَّبع ما لا دليل عليه مِنْ آراء الجهال في دينهم الباطل المبنيِّ على البدع والأَهواء. لذا فليس شيء من أمور الكفار، في دينهم ودنياهم، إلا وهو: إما فاسد وإما ناقص في عاقبته، حتى ما هم عليه من إتقان أمور دنياهم، قد يكون اتباعنا لهم فيه مُضِرًّا: إما بدنيانا وآخرتنا، أو أحدهما، وإن لم ندرك ذلك.
وأخبر النبي-صلى الله عليه وسلم- أن ولاية المؤمنين مع بعضهم لا تكون إلا بالدين وللدين وأنهم أولياء بعض وإن تباعدت أنسابهم، فقال-صلى الله عليه وسلم-: (( إنَّمَا وَليِّىَ اللهُ وَصَالِحُ الْمُؤمِنِينَ))(1).
فأوجب -صلى الله عليه وسلم- الولاية بالدين ونفاها عن أهل رحمه إذا لم يكونوا على دينه(2).
معنى التشبه وضوابطه:
معنى التشبه: التشبه مأخوذ من المشابهة وهي المماثلة والمحاكاة والتقليد. يقال: شبَّهتُ الشيءَ بالشيءِ أقمته مقامه لصفة جامعة بينهما. وتشبَّه بفلان: تمثَّل به، اقتدى به، حاكاه، وتشبَّه بالنِّساء: ماثَلَهنّ في حركاته وسلوكه، و تشبّه بالكرام: صنع صنيعَهم(3).
وعرفه الغزي-رحمه الله-: بأنه عبارة عن محاولة الإنسان أن يكون شبه المتشبه به، وعلى هيئته وحليته ونعته وصفته، أو هو عبارة عن تكلف ذلك وتقصده وتعلمه(4).
ضوابطه: إن مخالفة المشركين في عامة أمورهم أصلح لنا- نحن المسلمين- في دنيانا وآخرتنا، وإن كان التشبه بهم في الأمور الدينية، فقد وردت النصوص بالنهي عن ذلك مطلقًا، وأما التشبه في الأمور العادية فهي على قسمين:
الأول: لا يجوز أن نتشبه بهم فيه، وهي الأمور التي هي بمثابة الشعار لهم، أو التي يفعلونها دون غيرهم، وهي من خصائصهم في العادات والأزياء، وما إلى ذلك، فهذا أمر يحرم محاكاتهم فيه.
والثاني: أمور العادات الأخرى فالأصل فيها الإباحة، ويجوز للناس أن يفعلوها، لكن بشرط أن لا يكون ذلك بقصد محاكاة الكافر، وعلى أن يكون ذلك فيما ليست من خصائصهم، وضابط كون الشيء من خصائص الكفار، هو أن يكون مما يفعلونه دون غيرهم، أو أن يكون ذلك شعاراً لهم بحيث يُظن بمن فعله أنه منهم، وإن وجد من يفعله من بعض الأفراد الذين قد يحسبون على المسلمين، فإن ذلك يبقى من خصائصهم، وفعل هؤلاء الأفراد ممن تقحموا هذا الفعل وأقدموا عليه لا يغير من حقيقة الحكم شيئاً(5).
لكن متى يباح التشبه بغير المسلمين؟
يكون التشبه بهم على حسب تقدير المصالح، ودفع المضار، ورفع الحرج عن المسلم، فأخذ العلوم والفنون وأصول الصنائع عنهم لا محذور وراءه، ولا محظور أمامه، ومن هي في أيديهم الآن من أهل المغرب أخذوها منا فهذبوا ونقحوا واستنبطوا، لكن لا نيأس من روح الله، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] (6).
نهى الإسلام عن التشبه:
لقد بيَّنَ الله عز وجل القدوة المثالية التي يجب أن يتأسى بها كل مسلم ومسلمة فقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: 21]. وفي الآية دلالة على فضل الاقتداء بالنبي-صلى الله عليه وسلم- وأنه الأسوة الحسنة لا محال، وجعل متعلَق الائتساء ذات الرسول -صلى الله عليه وسلم- دون وصف خاص ليشمل الائتساء به في أقواله بامتثال أوامره واجتناب ما ينهى عنه، والائتساء بأفعاله من الصبر والشجاعة والثبات(7).
ولقد أمر الله عز وجل نبيه-صلى الله عليه وسلم- أن يهجر الشرك وأهله، لأنه لا يمكن أن يجتمع الشرك مع الإيمان، فإذا وقع هذا رفع ذاك، وإذا وقع ذاك رفع هذا، كما أنّ الليل والنهار لا يجتمعان فكذلك الشرك والإيمان. ولقد جاء دين الإسلام آمرًا أتباعه بالبعد عن كل ما فيه تقريب من الشرك وأهله، وجاء بالنهي عن كل ما فيه مشابهة للمشركين أو مماثلة لهم. فكان من أول ما نزل من القرءان، قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5].
قال الطبري: الرجز: آلهتهم التي كانوا يعبدون؛ أمره أن يهجرها، فلا يأتيها، ولا يقربها(8).
وقال السعدي-رحمه الله-: ويحتمل أن المراد بالرجز أعمال الشر كلها وأقواله، فيكون أمرًا له بترك الذنوب، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها، فيدخل في ذلك الشرك وما دونه(9).
أسباب الوقوع في التشبه:
1-مكائد الكفار للإسلام والمسلمين: إن أعداء الدين منذ ظهور الإسلام حريصون كل الحرص ولازالوا يسعون بكل الطرق لهدم الإسلام وإيذاء المسلمين، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ }[البقرة: 120].
وقال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}[البقرة: 109] وقال: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[آل عمران: 149].
والمتأمل لواقع المسلمين الآن -بل واقع العالم كله- يدرك تكالب الكفار على الأمة المسلمة اليوم بمحاولة فرض كل أمور الكافرين عليهم من عقائد، ومن عادات، ومن أنظمة، ومن سياسات، ومن أخلاق. . وغيرها، وصدق رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: (( يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ. فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ))(10).
2-الجهل بأحكام الدين:
إنَّ الْمُحَرَّمَاتِ جَمِيعَهَا مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ إنَّمَا يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ لِجَهْلِهِ، وأَصْلُ وُقُوعِ السَّيِّئَاتِ مِنْهُ عَدَمُ الْعِلْمِ(11). ومن شؤم الجهل قد استعاذ منه الأنبياء كما حدث مع موسى-عليه السلام- في قصة البقرة قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [البقرة: 67]. واستعاذ من الجهل نبينا-صلى الله عليه وسلم-، فعن أُمِّ سلمةَ، قالت: ما خرَجَ النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن بيتي قطُّ إلا رفعَ طَرْفهُ إلى السماءِ فقال: "اللَّهُم اني أعوذُ بِكَ أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَزلَّ أو أُزَلَّ، أو أَظْلِمَ أو أُظلَمَ، أو أجهَل أو يُجْهَل عَلىَّ "(12). فالبعض من الناس إلا من رحم ربك، يقعون في التشبه من حيث علموا أم لم يعلموا، بل وبعضهم يستسهل الأمر، والبعض ينبهر بالتقدم المادي مع جهله بحقيقة الحضارة الغربية، فظاهرها بريق ولمعان، وباطنها دمار للأخلاق والقيم، ومن عاش هناك ولو يسيرًا عرف ذلك وأَيقَنه.
3-كثرة النفاق والمنافقين:
إن النفاق أمرُّ وأمضى من السيف على رقاب الأمم، وإذا نظرت إلى هلاك أية أمة تجد أن النفاق لعب دوراً كبيراً في هلاكها، وما نراه اليوم في زماننا من ظهور طائفة من المنافقين يسعون لنشر الشبهات والأباطيل حول القرءان والسنة والصحابة، عبر بعض (شاشات التلفاز)، فباتت تلك الطائفة تكيد بالإسلام والمسلمين وسعوا لإبراز الباطل وأهله والحط من شأن الحق وأهله، وصدق الله إذ يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [المنافقون: 4]. فذكر أن هؤلاء المنافقين خُشُب مسنَّدة لا خير عندهم ولا فقه لهم ولا علم، وإنما هم صور بلا أحلام، وأشباح بلا عقول، ومع ذلك انخدع الكثير من شباب وشابات المسلمين بأقوالهم وأفعالهم، واقتبسوا منهم كل ردئٍ، ولقد توعَّد اللهُ الذين يسعون بالفساد بالعذاب الأليم فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النور: 19].
صور التــشـــبــه:
إن التشبه بغير المسلمين فيه استعباد وتبعية مهينة، ولقد بيَّن الله تعالى لنا الطريق وحذرنا من التفريق فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، قال الطبري-رحمه الله-: [فَاتَّبِعُوهُ] أي: فاعملوا به، واجعلوه لأنفسكم منهاجًا تسلكونه، [وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ] ولا تسلكوا طريقًا سواه، ولا تركبوا منهجًا غيره، ولا تبغوا دينًا خلافه(13). ومن صور التشبه بغير المسلمين:
(أ)التشبه في الأمور العقائدية: وهذه من أخطر مظاهر التشبه، ولقد جاءت السنة بإلحاق من تشبه بغير المسلمين أنه منهم، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى"(14).
وقال المناوي-رحمه الله- في قوله-صلى الله عليه وسلم-: "من تشبه بقوم فهو منهم" أَي حكمه حكمهم لِأَن كل مَعْصِيّة مِيرَاث من أمة من الْأُمَم الَّتِي أهلكها الله تَعَالَى فَكل من لابس مِنْهَا شَيْئا فَهُوَ مِنْهُم(15).
وقَالَ الطِّيبِيُّ-رحمه الله-: هَذَا عَامٌّ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ وَالشِّعَارِ. ولقد حرص الإسلام كل الحرص في تكوين شخصية مستقلة للفرد المسلم وللمجتمع الإسلامي مستوحاة من الكتاب والسنة لإبراز ذاتيته، بحيث لا يكون المسلم إمعة يقلد بدون وعي، أو إدراك، لذا جاء النهي عن مشابهة الكفار ومشاكلتهم لما في ذلك من تأثير على العقيدة؛ لأن التشبه بالكفار في الظاهر يورث المودة والمحبة، ويكون تابعاً لهم، وهذا ينافي الإيمان،
والله سبحانه وتعالى يريد العزة والكرامة للمسلم، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8](16).
ومن أمثلة التشبه بالكفار في العقائد، صرف العبادة لغير الله كما يفعله القبوريون في أوليائهم وهو أشبه بمشركي العرب قديمًا، ومنها الغلو في الدين، والاختلاف فيه والرهبانية، وتعطيل الحدود، واتخاذ القبور مساجد، والمغالاة في الأنبياء والصالحين، وبعض الشركيات الأخرى؛ ، ونتيجة لذلك انحرف الكثير من أبناء هذه الأمة عن دينهم وظهر فيهم الكفر والزندقة والإلحاد.
(ب)التشبه في الأعياد:
والنهي عن التشبه بالكفار يعم كل ما هو من سماتهم؛ ومما نهي عنه التشبه بالكفار في أعيادهم، فالله سبحانه وتعالى لم يشرع للمسلمين سوى عيدين كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم- لأهل المدينة: " قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَلَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ يَوْمَيْنِ خَيْرًا مِنْهُمَا، يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ"(17).
قال ابن حجر-رحمه الله-: واستُنبط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم وبالغ الشيخ أبو حفص الكبير النسفي من الحنفية فقال من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيمًا لليوم فقد كفر بالله تعالى(18).
وقال تعالى: { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } [الفرقان: 72]. أي: إذا مرّوا بما كان المشركون فيه من الباطل مرّوا منكرين له(19). ويحتمل النهي عن حضور كل موضع يجري فيه ما لا ينبغي ويدخل فيه أعياد المشركين ومجامع الفساق(20).
ومن أمثلة التشبه بغير المسلمين في الأعياد ما يسمونه بالأعياد الوطنية والقومية، وكعيد الميلاد، وعيد الأم، وعيد الحب. . . وغيرها مما لا أصل في شرعنا والله المستعان.
(ج)التشبه في العادات والأخلاق والسلوك:
لقد حذر النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمته من مثل ذلك فقال: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ"، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى قَالَ: "فَمَنْ؟ ))(21).
قال محمد بن الحسين الآجري-رحمه الله-: من تصفح أمر هذه الأمة، علم أن أكثرهم العام منهم يجري أمورهم على سنن أهل الكتابين، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى سنن كسرى وقيصر وعلى سنن أهل الجاهلية، وذلك مثل أمر المصائب والأفراح والمساكن واللباس والحلية، والأكل والشرب والولائم، والبيع والشراء، والمكاسب، وأشباه لما ذكرت يطول شرحها تجري بينهم على خلاف السنة والكتاب، وإنما تجري بينهم على سنن من قبلنا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، ما أقل من يتخلص من البلاء الذي قد عم الناس، ولن يميز هذا إلا عاقل عالم قد أدبه العلم، والله الموفق لكل رشاد، والمعين عليه(22). ذلك وصف الآجري لحال الأمة في زمانه(360هــ) فكيف لو أدرك زماننا؟! !. ومما شاع في زماننا من مظاهر التشبه بغير المسلمين في العادات والأخلاق والسلوك: كحلق اللحى، ولبس ما هو من شعار الكفار كالملابس التي عليها الصلبان، وكتبرج النساء، واختلاط الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وتشبه الرجال بالنساء والعكس، وكوصل الشعر عند النساء والقَزَع عند الرجال، وإسبال الثياب عند الرجال، ومنها الاعتماد في المواقيت على الأشهر الإفرنجية متابعة للغرب، ورغبةً عما كان عليه المسلمون من الاعتماد في ذلك على الأشهر العربية، ومنها التحدث باللغات الأجنبية لغير الحاجة. . . وغيرها، وكل هذه الأمور في الشرع دليل على تحريمها إما من الكتاب أو السنة.
المخرج من الفتنة:
لا شك أن آفة التشبه بغير المسلمين، في أزيائهم وعاداتهم وأحكامهم وسياساتهم واقتصادهم قد جرى في كثير من أوساط المسلمين جريان الدم في العروق، وسرى سريان النار في يابس الحطب، بل نجد في زماننا أن الذي يتمسك بتقاليد الغرب وعاداتهم ينعتونه بالمتحضر، ومواكب العصر وأشباه ذلك من ألقابهم والله المستعان، ولا مخرج من هذه الفتن إلا بالتضرع لله عز وجل وصدق الدعاء، والتمسك بهدي النبي-صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]، أي: فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته، وقال الشهاب: الأمر بالفرار من العقاب، المراد به الأمر بالإيمان والطاعة، لأنه لأمنه من العقاب بالطاعة، كأنه فَرَ لمأمنه. فهو استعارة تمثيلية(23). ولنعلم أن التشبه بالكفار والمشركين فيه مفاسد كبيرة كالشك في عقائد الدين، والطعن في القرءان والسنة، وتضييع الفرائض واستحلال المحرمات والتجاهر بالمنكرات كأكل الربا وشرب الخمر والتبرج والسفور وغيرها من المنكرات.
لكن ليس كل تشبه مذموم فهناك تشبه ممدوح أُمرنا به كالتشبه والتأسي بالأنبياء والصحابة والتابعين والعلماء الربانيين، ولله در القائل:
فتشبّهوا إنْ لم تكونوا مثلَهم إنّ التشبّهَ بالكِرامِ فَلاحُ
ولا شك أن الاقتداء بهؤلاء فيه النجاة في الدنيا والآخرة، وقد بين الحافظ ابن رجب-رحمه الله- الغاية الأساسية من صحبة الأخيار والاقتداء بهم فقال: "فإنما يراد من صحبة الأخيار صلاح الأعمال والأحوال والاقتداء بهم في ذلك، والانتقال من الغفلة إِلَى اليقظة، ومن البطالة إِلَى العمل، ومن التخليط إِلَى التكسب، ومن القول والفعل إِلَى الورع، ومعرفة عيوب النفس وآفاتها واحتقارها، فأما من صحبهم وافتخر بصحبتهم وادعى بذلك الدعاوى العريضة وهو مُصرٌ عَلَى غفلته وكسله وبطالته، فهو منقطع عن الله من حيث ظن الوصول إِلَيْهِ، كذلك المبالغة في تعظيمِ الشيوخ وتنزيلهم منزلة الأنبياء هو مما نهي عنه"(24).
---
(1) أخرجه البخاري(5990)، ومسلم(215).
(2) شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 206)، التفسير الوسيط - مجمع البحوث (9/ 883).
(3) انظر مختار الصحاح (ص: 161)، المصباح المنير (1/ 303)، ومعجم اللغة العربية (2/ 1161)، مقاييس اللغة (3/ 243).
(4) انظر كتاب حسن التنبه لما ورد في التشبه(1/15).
(5) قال شيخ الإسلام: قد ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار، ما دل على أن التشبه بهم في الجملة منهي عنه، وأن مخالفتهم في هديهم مشروع، إما إيجابا، وإما استحبابا بحسب المواضع. وقد تقدم بيان: أن ما أمر به من مخالفتهم: مشروع، سواء كان ذلك الفعل مما قصد فاعله التشبه بهم، أو لم يقصد، وكذلك ما نهي عنه من مشابهتهم: يعم ما إذا قصدت مشابهتهم، أو لم تقصد؛ فإن عامة هذه الأعمال لم يكن المسلمون يقصدون المشابهة فيها، وفيها ما لا يتصور قصد المشابهة فيه، كبياض الشعر، وطول الشارب، ونحو ذلك. ثم اعلم أن أعمالهم ثلاثة أقسام:
- قسم مشروع في ديننا، مع كونه كان مشروعا لهم، أو لا يعلم أنه كان مشروعا لهم لكنهم يفعلونه الآن.
- وقسم كان مشروعا ثم نسخه شرع القرآن.
- وقسم لم يكن مشروعا بحال، وإنما هم أحدثوه. وهذه الأقسام الثلاثة: إما أن تكون في العبادات المحضة، وإما أن تكون في العادات المحضة، وهي الآداب، وإما أن تجمع العبادات والعادات. انظر كتاب"اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية (1/3 47)، ومحاضرة بعنوان "قواعد وضوابط في مسألة التشبه بالكفار" للشيخ خالد عثمان.
(6) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 471)، وانظر مقال بعنوان"التشبه والاقتداء" للشيخ محمد رشيد رضا مجلة المنار (1/ 551).
(7) التحرير والتنوير (21/ 303).
(8) تفسير الطبري (23/ 13).
(9) تفسير السعدي (ص: 895).
(10) أخرجه داود(4299)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3257).
(11) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (14/ 22) مختصرًا.
(12) أخرجه أبوداود (5094)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (2442).
(13) تفسير الطبري (12/ 228).
(14) أخرجه الترمذي (2695)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (5434).
(15) التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 434).
(16) الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين، لحمود التويجري (ص: 254).
(17) أخرجه أحمد (12827)، وصححه الألباني في الصحيحة (2021).
(18) فتح الباري لابن حجر (2/ 442).
(19) تفسير الطبري (19/ 315).
(20) انظر مفاتيح الغيب للرازي (24/ 485)، والدر المنثور للسيوطي (6/ 282).
(21) أخرجه البخاري(3456).
(22) الشريعة للآجري (1/ 323).
(23) انظر تفسير الطبري (22/ 440)، و محاسن التأويل للقاسمي (9/ 45).
(24) مجموع رسائل ابن رجب (1/ 251).