أمراض القلوب وعلاجها
منزلة القلب ومكانته
أسباب فساد القلب
علاج مرض القلب.
إن الناظر في حال مجتمعنا اليوم يجد أمرًا عجيبًا من انتشار كثير من المفاسد كالخيانة، والبغضاء، والحسد، والبغي، وحصول الهجران والقطيعة بين الناس وغير ذلك من الأمراض التي حلت بمجتمعنا، لو سَأَلتَ عن ذلك تجد أن من أعظم أسباب ذلك، فساد القلب، وإذا صلح قلب العبد صَلُحَ سائر الجسد ورُزِقَ صاحبه البشارة بالخير و ذاق حلاوة الإيمان في قلبه.
منزلة القلب ومكانته.
1-ملك الجوارح ومحركها:
فإن استقام قلب العبد استقامت جوارحه وإن اعوج اعوجت، قال ابن القيم: "ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف في الجنود، الذى تصدر كلها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله، قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ))(1). فهو ملكها، وهى المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما كان يأتيها من هديته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده ونيته. وهو المسؤول عنها كلها "لأن كل راع مسؤول عن رعيته" كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون. والنظر في أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون(2). وقال شيخ الإسلام: الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَعْرِفَةٌ وَإِرَادَةٌ سَرَى ذَلِكَ إلَى الْبَدَنِ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْبَدَنُ عَمَّا يُرِيدُهُ الْقَلْبُ(3).
2-محِل التقوى:
القلب له منزلة عظمى تفوق سائر أعضاء الجسد، وهو محِل امتحان تقوى العبد كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3]، وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((التقوى ها هنا، وأشار بيده إلى صدره، ثلاث مراتٍ))(4).
3- محِل نظر الإله:
كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ))(5).
قال المناوي: "فكم من ظريف اللسان جميل المنظر عظيم الشأن هالك غدا في القيامة لسوء عمله وكآبة منقلبه وقبح سيرته وسوء سريرته، فالقلب هو محل نظر الحق فلا عبرة بحسن الظاهر وزخرف اللسان مع خبث الجنان"(6).
4-تتفاوت الدرجات بتفاوت ما في القلوب:
قال ابن القيم: "إِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِصُوَرِهَا وَعَدَدِهَا، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ، فَتَكُونُ صُورَةُ الْعَمَلَيْنِ وَاحِدَةً، وَبَيْنَهُمَا فِي التَّفَاضُلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالرَّجُلَانِ يَكُونُ مَقَامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا، وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"(7).
ومع عِظم منزلة القلب إلا أنه سريع التقلب من حال إلى حال، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ-رضي الله عنه-، قَالَ: مَا آمَنُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ((لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَسْرَعُ تَقَلُّبًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا))(8). ولله در القائل:
مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ فَاحْذَرْ عَلَى القلب من قلبٍ وتحويل
وقال بعض السلف: مثل القلب في سرعة تقلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً لبطن. ويكفى في هذا قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، فأي قرار لمن هذه حاله؟ ومن أحق بالخوف منه؟ بل خوفه لازم له فى كل حال وإن توارى عنه بغلبة حالة أُخرى عليه. وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة الله وعزته وجلاله، وأنه الفعال لما يريد وأنه المحرك للقلب المصرف له المقلب له كيف يشاءُ لا إِلَهَ إلا هو(9). نسأل الله السلامة.
أسباب فساد القلب:
إن الاهتمام بصلاح القلوب، والبحث عن أسباب فسادها أمرٌ في غاية الأهمية، فصلاح القلب يترتب عليه صلاح الأعمال والسلوكيات، وهناك كثير من الأسباب وراء فساد القلب وقسوته وغلظته منها:
1-الغفلة عن ذكر الله وتدبر القرآن، والتأمل في آياته الكونية:
"لقد أخبر ربنا تبارك وتعالى أن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو حي القلب، كما قال سبحانه: {إِنّ في ذلِكَ لَذِكرَى لمنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]. وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اسْتَجيبوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لما يُحيِيكُمْ} [الأنفال: 24]. فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هي بما يدعونا إليه الله والرسول من العلم والإيمان.
وقال ابن القيم: " فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكباً على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل، لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه. فإذا تراكم عليه الصدأ واسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقاً ولا ينكر باطلاً"(10). وقد توعد الله أصحاب هذه القلوب وعيداً شديداً فقال{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22].
2-البعد عن الحق بعد معرفته:
قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، وقال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف: 5]
أي: فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان(11). فعاقبهم سُبْحَانَهُ بإزاغة قُلُوبهم عَن الْحق لما زاغوا عَنهُ ابْتِدَاءً، وَلِهَذَا قيل من عرض عَلَيْهِ حق فَرده فَلم يقبله عُوقِبَ بِفساد قلبه وعقله ورأيه(12).
3-كثرة الذنوب والمعاصي:
ومن أدمن الذنوب واستسهلها بلغ به الحال كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله((وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا))(13). فهذا يموت قلبه، ويَتَلَبَّد إحساسه، فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا(14).
قال المحاسبي: "اعلم أنَّ الذنوب تورث الغفلة، والغفلة تورث القسوة، والقسوة تورث البعد من الله، والبعد من الله يورث النار"(15).
وقال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب | وقد يورث الذُّل إدمانها |
وترك الذنوب حياة القلوب | وخير لنفسك عصيانها |
ومن أعظم الذنوب إفسادًا للقلب النظر لما حرم الله، فالْبَصَرُ هُوَ الْبَابُ الْأَكْبَرُ إِلَى الْقَلْبِ، وَأَعْمَرُ طُرُقِ الْحَوَاسِّ إِلَيْهِ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ كَثُرَ السُّقُوطُ مِنْ جِهَتِهِ. وَوَجَبَ التَّحْذِيرُ مِنْهُ، وَغَضُّهُ وَاجِبٌ عَنْ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكُلِّ مَا يُخْشَى الْفِتْنَةُ مِنْ أَجْلِهِ(16).
(4-الانشغال بالدنيا والانهماك في طلبها والمنافسة عليها:
قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 37 - 39].
قال ابن القيم: "متى رأيت القلب قد ترَحَّلَ عنه حب الله والاستعداد للقائه وحل فيه حبُ المخلوق والرضا بالحياة الدنيا والطمأنينة بها فالعلم أنه قد خُسَفَ به. ومتى أَقحَطَت العين من البكاء من خشية الله تعالى فاعلم أن قحطها من قسوة القلب وأبعد القلوب من الله القلب القاسي"(17).
5-كثرة الأماني وطول الأمل:
قال تعالى: { وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14]
قال قتادة: "في قوله تعالى: (وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ)، أي: كانوا على خدعة من الشيطان، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار. وقوله: (وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) يقول: وخدعكم بالله الشيطان، فأطمعكم بالنجاة من عقوبته، والسلامة من عذابه"(18).
وفي الحديث: " لاَ يَزَالُ قَلْبُ الكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الأَمَلِ"(19).
قال المناوي: "طول الأمل غرور وخداع إذ لا ساعة من ساعات العمر إلا ويمكن فيها انقضاء الأجل فلا معنى لطول الأمل المورث قسوة القلب وتسليط الشيطان وربما جر إلى الطغيان"(20).
6-كثرة الجدال والتعصب للرأي واتباع الهوى:
قال الله تعالى محذرًا نبيه-صلى الله عليه وسلم- وأمته: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف: 28]، وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]
وقال الشافعي: " الْمِرَآءُ فِي الْعِلْمِ يُقَسِّي الْقَلْبَ، وَيُوَرِّثُ الضَّغَائِنَ "(21).
7-التوسع المذموم في المباحات:
كالأكل والشرب والنوم والكلام، فإذا تجاوزت حاجة المرء كان لها تأثيرًا سلبيًا على قلبه، وقد نهى ربنا تبارك وتعالى عن التفريط في المباحات والإسراف فيها فقال سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، قال الغزالي: "في كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجد وبلادة الطبع وقساوة القلب"(22). وقال ابن القيم: "من مفسدات القلب كَثْرَةُ النَّوْمِ، فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيُثَقِّلُ الْبَدَنَ، وَيُضِيعُ الْوَقْتَ، وَيُورِثُ كَثْرَةَ الْغَفْلَةِ وَالْكَسَلِ، وَمِنْهُ الْمَكْرُوهُ جِدًّا، وَمِنْهُ الضَّارُّ غَيْرُ النَّافِعِ لِلْبَدَنِ، وَأَنْفَعُ النَّوْمِ مَا كَانَ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَّةِ"(23).
وقال أبو سُلَيْمَان الدَّارَانِيّ: "إِنَّ النَّفْسَ إِذَا جَاعَتْ وَعَطَشَتْ صَفَا الْقَلْبُ وَرَقَّ، وَإِذَا شَبِعَتْ وَرَوِيَتْ عَمِّي الْقَلْبُ وَبَادَ". وَالشِّبَعُ الْمُفْرِطُ يُثْقِلُ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَمَنْ أَكَلَ كَثِيرًا شَرِبَ كَثِيرًا، فَنَامَ كَثِيرًا، فَخَسِرَ كَثِيرًا(24).
8-كثرة مخالطة الناس في غير مصلحة:
لا شك أن المرء يأخذ من سلوكيات من حوله من الناس ويتأثر بهم، فإن كانوا صالحين أخذ من صلاحهم وإن كانوا غير ذلك تأثر بهم إلا من عصمه الله تعالى، وقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ))(25)، فإن اتخذ صالحاً خليلاً يكون هو صالحاً، وإن اتخذ فاسقاً يكون هو فاسقاً. ولله در القائل:
ولا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى حليماً حين آخاه
وللشيء من الشيء مقاييس وأشباه
يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشاه
وللقلب على القلب دليلٌ حين يلقاه(26).
قال الغزالي: "الطِّبَاعُ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّشَبُّهِ وَالِاقْتِدَاءِ بَلِ الطَّبْعُ يَسْرِقُ مِنَ الطَّبْعِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي صَاحِبُهُ فَمُجَالَسَةُ الْحَرِيصِ عَلَى الدُّنْيَا تُحَرِّكُ الْحِرْصَ وَمُجَالَسَةُ الزَّاهِدِ تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا"(27).
علاج مرض القلب:
لا يمكن أن يستقيم قلب العبد على الإيمان حتى يكون سليمًا من الشبهات والشهوات، لأن سلامة القلب وخلوصه سبب في سعادة الدنيا والآخرة، }يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ{ [الشعراء: 88-89]. بل إن سليم القلب أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه أفضل الناس، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو-رضي الله عنه-، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ". قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ"(28).
ومن الأمور التي تعين على صلاح القلب:
1-قراءة القرآن وتدبره والتفكر فيه:
وقد أمر الله عز وجل الناس بعبادته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ولا يحدث ذلك إلا بتدبر آياته كما أمر بذلك سبحانه في كتابه فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقال سبحانه: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } [المؤمنون: 68]، ولا ريب أن تدبر القرآن من أنفع العلاج لأمراض القلوب وقد أخبر سبحانه بذلك في قوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]
قال السعدي: هذا القرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع وأمراض الشبهات، القادحة في العلم اليقيني، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة. وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده(29).
وقال إبراهيم الخوَّاص: " دَوَاءُ الْقَلْبِ خَمْسَةُ أَشْيَاءٍ، قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُرِ وَخَلاءُ الْبَطْنِ وَقِيَامُ اللَّيْلِ وَالتَّضَرُّعُ عِنْدَ السَّحَرِ وَمُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ"(30).
2-ذكر الله تعالى:
فقد أخبر سبحانه أنه لا اطمئنان لقلب المرء إلا بذكره فقال: { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28]. فبذكره سبحانه دون غيره تسكن القلوب أنسا به، واعتمادا عليه(31).
وقد أمر سبحانه عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: "إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدًا معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله؛ فقال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } [النساء: 103]، بالليل والنهار، في البر والبحر، في السفر والحضر، في الغنى والفقر، في الصحة والسقم، في السر والعلانية وعلى كل حال(32).
وقال مكحول: "ذكر الله تعالى شفاء، وذكر الناس داء"(33).
3- الدعاء والتضرع إلى الله:
فالدعاء من أفضل العبادات، والقلوب بيد الله عز وجل يقلبها كيف يشاء، ويصرفها كيف يشاء، فلابد للمرء أن يسأل الله التثبيت لقلبه، وهذا من هدي النبي-صلى الله عليه وسلم-، حيث يقول: ((يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ))(34). وقال)) اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ))(35). فإذا كان هذا هو حال نبينا-صلى الله عليه وسلم- مع عِظَمِ قدره ومنزلته عند ربه، فنحن أولى بذلك اقتداءً به -صلى الله عليه وسلم-. وقد ذكر ربنا تبارك وتعالى من دعاء المؤمنين في قوله: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [آل عمران: 8].
4- ومن الأمور التي تعين على إصلاح القلب إخفاء العمل والخلوة المشروعة، فلا بد للعبد أن يكون له مجالس يخلو فيها بذكر ربه، وتعداد ذنوبه ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، وطلب المغفرة من ربه. قال شيخ الإسلام: "وَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ أَوْقَاتٍ يَنْفَرِدُ بِهَا بِنَفْسِهِ فِي دُعَائِهِ وَذِكْرِهِ وَصَلَاتِهِ وَتَفَكُّرِهِ وَمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ وَإِصْلَاحِ قَلْبِهِ"(36). وقال أبو الدَّرْدَاءِ-رضي الله عنه-: "نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ، يَحْفَظُ فِيهَا لِسَانَهُ وَبَصَرَهُ"(37).
5- اعتزال أماكن الفتن والشهوات، فهي تدمر القلب تدميرًا:
وقد حذَّرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمتَه الفتن فقال: ((بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا))(38).
قال النووي: "معنى الحديث الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر"(39).
6- تعظيم شعائر الله تعالى:
قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]
فَالْمَقْصُودُ تَقْوَى الْقُلُوبِ لِلَّهِ وَهُوَ عِبَادَتُهَا لَهُ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ. بِغَايَةِ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَالْعُبُودِيَّةُ فِيهَا غَايَةُ الْمَحَبَّةِ وَغَايَةُ الذُّلِّ وَالْإِخْلَاصِ وَهَذِهِ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ عِبَادَةَ الْقُلُوبِ هِيَ الْأَصْلُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: {إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ}(40).
يريد المرء أن تؤتى مُنَاه. . . ويأبى الله إلا ما أراد
يقول المرء فائدتي ومالي. . . وتقوى الله أفضل ما استفاد.
---
(1) أخرجه البخاري(52)، ومسلم(107)، من حديث النعمان بن بشير-رضي الله عنه-.
(2) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 5).
(3) مجموع الفتاوى (7/ 187).
(4) مسلم (2564)
(5) أخرجه مسلم(34)، من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-.
(6) فيض القدير (5/ 50).
(7) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 340).
(8) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة(226)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (5147).
(9) طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (ص: 283).
(10) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 40)، لابن القيم.
(11) تفسير ابن كثير (8/ 109).
(12) مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 99).
(13) أخرجه البخاري (6308)، من حديث عبد الله بن مسعود.
(14) وانظر كتاب ذنوب الخلوات أصل الانتكاسات، لمصطفى دياب ص59.
(15) رسالة المسترشدين (ص: 154)، للحارث المحاسبي.
(16) تفسير القرطبي (12/ 223).
(17) بدائع الفوائد (3/ 224)، لابن القيم.
(18) تفسير الطبري(23/ 185).
(19) أخرجه البخاري (6420).
(20) فيض القدير (5/ 417).
(21) شعب الإيمان للبيهقي (6/ 354).
(22) إحياء علوم الدين (3/ 86).
(23) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 456).
(24) انظر الجوع لابن أبي الدنيا (ص: 188)، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 456).
(25) أخرجه أحمد (8398)، وحسنه الألباني في المشكاة(5019). من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-.
(26) ديوان علي بن أبي طالب (ص: 174).
(27) إحياء علوم الدين (2/ 173).
(28) أخرجه ابن ماجه (4216)، وقال الألباني في الصحيحة(948): إسناده صحيح رجاله ثقات.
(29) تفسير السعدي (ص: 367).
(30) ذم الهوى (ص: 70)، لابن الجوزي.
(31) محاسن التأويل (6/ 282).
(32) تفسير ابن كثير (6/ 433).
(33) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 71)، لابن القيم.
(34) أخرجه الترمذي(2140)، من حديث أنس، وفي بابه أربعة أحاديث عن النواس ، وأم سلمة ، وابن عمرو ، وعائشة وصححه الألباني في المشكاة(102).
(35) أخرجه مسلم(17)، من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-.
(36) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 163).
(37) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (35738).
(38) أخرجه مسلم(228).
(39) شرح النووي على مسلم (2/ 133).
(40) مجموع الفتاوى (17/ 485).