الخطب :فتح المنان في تدبر معاني وأسرار الأذان (سلسلة الواعظ عدد المحرم 1438هـ)
2016-10-05
فتح المنان في تدبر معاني وأسرار الأذان
مقدمة
فإن من الشعائر العظيمة لديننا الحنيف شعيرة الأذان، وهي اعتراف للعظيم بعظمته وتوحيده، وإعلان هذه العظمة ليسمعها كل موجود، ويرددها المسلمون لتتأكد في أذهانهم معانيها العميقة، ويشاركوا المؤذن فضلها حين يسمعون هذا النداء الذي تهفو لإجابته القلوب السليمة، وتنفر منه القلوب السقيمة وعلى رأسها الشيطان، ثم يذكرون علم الهدى بعد الفراغ منه بالدعاء له. (1)
تعريف الأذان لغة واصطلاحاً
الأذان في اللغة: الإعلام، ومنه قولهم: آذنه، إذا أعلمه، قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، والمراد بذلك أعلِمهم به، فأصل الأذان: الإعلام. (2)
وأما في الاصطلاح: فهو الإعلام بدخول وقت الصلاة بلفظٍ مخصوص. (3)
حكم الأذان: والأذان مشروعٌ بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، شرعه الله في كتابه بقوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 58]، أي: أذَّنتم بها وأعلنتم بها.
وهو فرض كفاية على الراجح من كلام أهل العلم على الرجال دون النساء وعَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا". (4)
ووجه الدلالة في قوله: (فأذِّنا)؛ حيث دل على مشروعية الأذان بالسنة القولية. (5)
فضل الأذان وقصة رؤيته
عن عبد الله بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، قال: كَانَ المُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا المَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاَةَ لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ بُوقًا مِثْلَ قَرْنِ اليَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلاَ تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلاَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا بِلاَلُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاَةِ". (6)
عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: اهْتَمَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا، فَقِيلَ لَهُ: انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، قَالَ: فَذُكِرَ لَهُ الْقُنْعُ - يَعْنِي الشَّبُّورَ وَقَالَ زِيَادٌ: شَبُّورُ الْيَهُودِ - فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: "هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ" قَالَ: فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ، فَقَالَ: "هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى" فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأُرِيَ الْأَذَانَ فِي مَنَامِهِ، قَالَ: فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَبَيْنَ نَائِمٍ وَيَقْظَانَ، إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأَرَانِي الْأَذَانَ، قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-، قَدْ رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَتَمَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا، قَالَ: ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنِي؟ "، فَقَالَ: سَبَقَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا بِلَالُ، قُمْ فَانْظُرْ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، فَافْعَلْهُ" قَالَ: فَأَذَّنَ بِلَالٌ. (7)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا
إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا". (8)
وعَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ-رضي الله عنهما-، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ يَدْعُوهُ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". (9)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ المَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ-رضي الله عنه-، قَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ وَالبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ، أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ: "لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ، جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ"، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-(10)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ-رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: " يَعْجَبُ رَبُّكُمْ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ شَظِيَّةٍ بِجَبَلٍ، يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ، وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ، وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ، يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ ". (11)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا
لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى ". (12)
وعن أَنَسٍ -رضي الله عنه-، يَقُولُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبِحُ، فَنَزَلْنَا خَيْبَرَ لَيْلًا". (13)
الحكمة من مشروعية الأذان
1- تنبيه الناس وإعلامهم بفريضة الله عز وجل، ويكون بعد دخول الوقت، ولا يصح الأذان قبل دخول الوقت إلا أذان الصبح الذي يكون في السدس الأخير من الليل، فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّ بِلاَلًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى، لاَ يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ. (14)
وجه الدلالة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيّن أن أذان بلال بالسحر، وهو الأذان الأول: لأن الإنسان إذا كان في قيام الليل قد لا ينتبه لدخول الفجر، فربما استمر في صلاته بالليل حتى يفاجأ بأذان الفجر ولم يوتر، ولذلك شرع الله عز وجل هذا الأذان. (15)
2- فيه إعلاءً لذكر الله عز وجل، ولذلك قال بعض السلف في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، قال: المراد بهذا المؤذن، فإنه يدعو إلى الله، ويعمل صالحاً بدعوته إلى الصلاة، ويقول: إنه من المسلمين؛ لأنه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويقول: أشهد أن محمداً رسول الله، فهذا خيرٌ كثير للقائل، وخيرٌ للناس لما فيه من إعلاء كلمة الله عز وجل. (16)
3 - إعلان التوحيد، وتذكير الناس به ليلاً ونهاراً.
4- إظهار الشعائر، والتعريف بأن الدار دار إسلام.
5 - الدعاء للصلاة التي هي الفلاح، وتنبيه الغافلين حتى لا يفوتهم هذا الفلاح.
6- الدعاء إلى صلاة الجماعة التي فيها خير كثير. (17)
صفات المؤذن
1- أن يكون صيتاً أي قوي الصوت لأن المقصود من الأذان الإعلام.
والشخص يكون ذا صوت على أحوال، فأعلاها وأسماها وأسناها رفعة الصوت مع النداوة والطراوة، وهو الذي يسمونه ندي الصوت؛ فإنه قد يكون صوته عالياً لكنه مؤذٍ، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، فإن كان صيتاً، مؤذياً بصوته فيُعدل عنه إلى من هو أندى صوتاً.
والسبب في هذا أن المؤذن يؤذِّن والناس في ضجعتهم وفي نومهم وفي راحتهم، فإن كان مزعج الصوت آذاهم بهذا الأذان، وربما أزعج الضعفاء من الأطفال والصبية، فحينما يكون ندي الصوت يكون ذلك أدعى لذهاب هذه المفسدة، ويدل على هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن زيد "إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ، فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ، وَيُؤَذِّنُ بِهِ ". (18)
2- أن يكون أميناً أي من الأمانة وهي الحفظ
والدليل على اشتراط أن يكون المؤذن أميناً ما ثبت في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ". (19)
أ- قال العلماء: وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤذن بكونه أميناً لأمور، منها: أنه يؤتمن على ركن من أركان الإسلام وهو الصلاة، وهو أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فإن المؤذن مؤتمن على دخول الوقت، فينبغي أن يكون أميناً حتى لا يغش ولا يكذب في أذانه، فإذا كان متساهلاً أو فاسقاً غير عدلٍ فإنك لا تأمن منه أن يبتدر بالأذان قبل الوقت فيفوت على الناس صلاتهم.
ب- كذلك المؤذن مؤتمن على ركنٍ ثانٍ وهو الصوم؛ لأن تأذينه في الفجر إعلامٌ بدخول وقت الإمساك، وتأذينه في المغرب إعلام بانتهاء الصيام. (20)
3- أن يكون عالماً بالوقت
لأن الأذان إعلاماً بالوقت فوجَب أن يكون المؤذن عالماً بالوقت، فيعرف وقت الزوال، ويعرف دلائل غروب الشمس، ويعرف متى يصير ظل كل شيء مثله، ومتى يصير ظل كل شيءٍ مثليه، وكيف يضبط ذلك، ويعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، حتى يكون ضابطاً لوقت الفجر، وقس على هذا بقية أوقات الصلاة. (21)
في بعض أسرار الأذان وبدائعه ومعانيه
الأذان كلمة جامعة لعقيدة الإيمان مشتملة على توحيد الله بأسمائه وصفاته، فأوّله إثبات الذات، وما يستحقه من الكمال والتنزيه عن أضدادها، وذلك بقوله: "الله أكبر"، وهذه اللفظة مع اختصارها دالة على ما ذكرناه.
ثم صرّح بإثبات الوحدانية ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد المقدّمة على كل وظائف الدين.
ثم صرّح بإثبات النبوة والشهادة بالرسالة لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية، وموضعها بعد التوحيد وبعد هذه القواعد كملت العقائد فيما يجب ويستحيل ويجوز في حقه سبحانه وتعالى.
ثم دعاهم إلى ما دعاهم الله إليه من العبادات، فدعاهم إلى الصلاة، وعقّبها بعد إثبات النبوّة لأن معرفة وجوبها من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثم دعا إلى الفلاح، وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء، وهي آخر تراجم عقائد الإسلام. (22)
قال الإمام الحافظ برهان الدين البقاعي -رحمه الله- في جزءٍ لطيف في أسرار الأذان سمّاه "الإيذان بفتح أسرار التشهّد والأذان" والأذان هو الإعلام بأوقات الصلاة تنبيها على أن الدين قد ظهر، وانتشر علم لوائه في الخافقين واشتهر، وسار في الآفاق على الرؤوس فبهر، وأذلّ الجبابرة وقهر وأعلم أنه لما كان الدين المحمدي دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا غيره، قد علا على كل دين، وقد كان الشّرك منذ أزمان في غاية الظهور، والباطل هو المعمول به والمشهور، فناسب أن يصرّح بأذانه، ولما كانوا يشركون به سبحانه، ويتعبّدون بسواه، فبدأ بالتنبيه على تفرّده بالكبرياء، وتوحّده بالعلاء، فقال بادئا بالاسم الأعظم، الدّالّ على الذّات، المستجمع لجميع الكمالات: (الله) أي الملك الذي لا كفء له ولا سمّي، ولا ضدّ ولا نظير، وأتى بالخبر نكرة ليدلّ على إسناده إليه على الإطلاق، وأنه لا خفاء في انفراده بذلك، فقال: (أكبر)، وهذا يشعرك بعظمة الله، وأنه أكبر من كل كبير، ما قال: الله كبير، بل أكبر -أفعل التفضيل- كل ما كبر في نظرك أو في اعتقادك أو في حسبانك فالله أكبر من ذلك.
ولما تمّ تقرير ذلك في الأذهان، وعلم أن التوحيد قد علا، وقهر جميع الأديان، ارتقب كلّ سامع ما يقال بعده، فقال مبتدئا دورا جديدا من هذا الإعلام لمزيد التقرير عند جميع الأنام: (الله أكبر ).
فلما علم أن ذلك إلى غير نهاية، ولا حدّ تقف عنده كلّ غاية، قال مترجما لما أنتجه، ملقّنا لكل سامع ما وجب عليه من الجواب، مسرّا بذلك بعض الأسرار، إعلاما بما كان من حال هذا الدّين في أول الأمر، برهانا على حسن هذا التأكيد: (أشهد) أي أعلم علما قطعيّا أنّي في مريد بصري كالناظر إلى محسوس هو في غاية الجلاء: (ألّا إله إلا الله). ولما كان المقام كما مضى شديد الاقتضاء للتأكيد قال ثانيا: (أشهد ألّا إله إلا الله).
فلما أخذ المقام حظّه من التأكيد، ولم يحتج إلى مزيد، فتلقّى ذلك بالقبول العبيد، فثبتت رسالة الذي أتى بهذا الدّين، وجاهد به الجاحدين، حتى قهرهم وحده صاغرين أجمعين، قال على طريق النتائج المسلّمة: (أشهد أن محمدا) - ذاكرا أشهر أسمائه وأطيبها وأظهرها- (رسول الله)، مخصّصا وصف الرّسالة الذي هو بين الحقّ والخلق، لأن المقام داع إليه، ومقصور عليه، ثم أتبع ذلك ما اقتضاه الحال من تأكيده في تعظيمه وتمجيده فقال: (أشهد أن محمدا رسول الله). فلما أخذ المقام حظّه من التأكيد للإعلام، بما كان فيه للإسلام من الشدائد والآلام، أتبعه ما اقتضاه الحال، من رفع الصّوت بهذا المقال مشيرا مع ذلك إلى أن باطن الدّين وظاهره سواء.
فلما استقرّ في الأذهان سرّ هذا الإعلان، أتبعه ما اقتضى الحال من الشهادة فقال (حيّ على) - أي هلمّوا أقبلوا جهارا غير خائفين من أحد- إلى (الصلاة)، بادئا بما هو نهاية الدّين، الجامع لشمله، المميّز لأهله.
فلما تقرّر ذلك كان كأنه قيل: هل من عمل غيرها؟ فقال: (حي على الفلاح)، فكان ذلك، مع أنه دعاء إلى كل عمل يوجب الفوز والظّفر بكل مراد مؤكدا للدّعاء إلى الصلاة على أبلغ وجه.
ولا شك أنه أحسن مما ورد في بعض الآثار الموقوفة في الموطّأ، رواية محمد بن الحسن، وجاء مع عبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله عنهما، وصرّح الحفّاظ بأنه لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قوله: (حيّ على خير العمل)، لأنه مع كونه لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد صار شعار الرّوافض لا يشمل جميع الأعمال الصالحة، وكان الوارد في الصحيح أبلغ من وجهين: من جهة أنه شامل لكل خير، ومن جهة التعبير عن ذلك باللازم الذي هو الغاية المترتبة على العمل تحبيبا فيه، وتشويقا إليه، وفيه إشارة إلى أن الأمر خطير، والطريق صعب، فلا بد من التّأهّب له بأعظم الزّاد، لتحصل الراحة في المآل والمعاد.
ولما كان المدعو قد يكون نائما، وكان النوم قد يكون خيرا، إما بأن يكون القصد به راحة البدن للتّقوي على الطاعة، أو أن يكون للتّخلّي عن المعصية، وكان أكثر ما يكون ذلك في آخر الليل، كان التثويب خاصّا بأذان الصبح، فقال فيه: (الصلاة) - التي هي أعظم الفلاح، ومن أعظم مقاصد هذا الأذان الإعلام بوقتها والدّعاء إليها- (خير من النوم). ولما كان من يغلبه النوم محتاجا إلى الإزعاج، أكّد ذلك بالتكرير، فقال: (الصلاة خير من النوم).
ولما تمّ الدّين بجملته، وكمل أصلا وفرعا، قولا ونية وعملا، برمّته، علّل الدّعاء إليه مرغّبا مرهّبا، بقوله، مذكّرا بما بدأ الأمر به، لاستحضار عظمته التي أظهر بها الدّين، وأذلّ بها المعتدين، بعد أن كانوا على ثقة من أنه لا غالب لهم، (الله أكبر)، ثم أكّد بمسيس الحاجة إلى ذلك في الترغيب والترهيب، فقال: (الله أكبر). فلما تمّ الأمر، وجلا التشويق والزّجر، لم تدع حاجة إلى تربيع التكبير هنا كما كان في الأول، فختم بما بدأ به من التوحيد إعلاما بأنه لا يقبل شيء من الدّين إلا به مقارنا له من ابتدائه إلى انتهائه، فقال: (لا إله إلا الله). (23)
استحباب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وسؤال الوسيلة بعد الأذان
فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ-رضي الله عنهما-، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ". (24)
قال بعض العلماء: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالصلاة عليه بعد الأذان لذكره في الأذان، ومنهم من قال: إنه أمر بالصلاة عليه لوجود الدعوة؛ لأنه يُسن أن يُبتدئ الدعاء بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمن فضائله -كما في أحاديث الترغيب- أن يكون في الدعاء الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ ". (25)
ويقول بعد انتهائه من الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم رب هذه الدعوة التامة. . )، فهي دعوة تامة كاملة؛ لأنها اشتملت على أمرين: أحدهما تعظيم الله، وثانيهما توحيده، ولذلك وصف الله صاحبها بأنه أحسن الناس قولاً، فقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]؛ لأن المؤذن يصلي، وعمل صالحاً بدعوة الناس إلى الصلاة، فلذلك قالوا: هي دعوةٌ تامة، دعا إلى توحيد الله عز وجل بشهادته ثم دعا إلى إقام الصلاة التي هي من تعظيم الله عز وجل.
(والصلاة القائمة) أي: التي ستقام، فيوصف الشيء باعتبار ما يؤول إليه، والوسيلة هي كما فسَّرها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (درجةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، قال: وأرجوا أن أكون أنا هو)، ومن سأل للنبي -صلى الله عليه وسلم- الوسيلة حلّت له الشفاعة يوم القيامة، فنسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يبلغه الوسيلة، وأن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
ثم ختمها بقوله -صلى الله عليه وسلم- (والفضيلة، والمقام المحمود الذي وعدته)، والفضيلة: من الفضل، والفضل: الزيادة، أي: الفضائل، وهي أعلى الدرجات، وإذا تفضَّل الله على العبد فقد بلَّغه أعالي المراتب وأكملها، كما قال تعالى في الخير: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54]، فالفضل: الخير العظيم، وقال تعالى: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، ومعنى (وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته) هو المقام الذي يحمِده عليه الأولون والآخرون، وهو مقام الشفاعة، قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وعسى في القرآن للحقيقة، وهو مقام الشفاعة.(26)
والحمد لله رب العالمين
---
(1) شرح رياض الصالحين (97/ 1).
(2) تاج العروس (34/ 161).
(3) شرح زاد المستقنع للشنقيطي (28/ 3).
(4) صحيح البخاري (1/ 132) رقم 658، صحيح مسلم (1/ 466) رقم 293(674).
(5) شرح زاد المستقنع للشنقيطي (28/ 3).
(6) صحيح البخاري (1/ 124) رقم 604، صحيح مسلم (1/ 285) رقم 1(377).
(7) صحيح أخرجه أبو داود في سننه (1/ 134) رقم 498وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/ 404) رقم 511.
(8) صحيح البخاري (1/ 126) رقم 615، صحيح مسلم (1/ 325) رقم 129(437).
(9) صحيح مسلم (1/ 290) رقم 14(387).
(10) صحيح البخاري (1/ 125) رقم 609.
(11) صحيح أخرجه أبو داود في سننه (2/ 4) رقم 1203، والنسائي في سننه (2/ 20) رقم 666، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1/ 230) رقم 214، وفي السلسلة الصحيحة (1/ 102) رقم 41.
(12) صحيح البخاري (1/ 125) رقم 608، صحيح مسلم (1/ 291) رقم 16 (389).
(13) صحيح البخاري (4/ 47) رقم 2943.
(14) صحيح البخاري (1/ 127) 617، صحيح مسلم (2/ 768) رقم(1092)
(15) شرح زاد المستقنع للشنقيطي (28/ 4).
(16) المرجع السابق.
(17) موسوعة الفقه الإسلامي (2/ 387).
(18) حسن أخرجه أبو داود (1/ 135) رقم 499، وابن ماجه (1/ 232) رقم 706، وجماعة من حديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- وانظر إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (1/ 264) رقم 246للألباني.
(19) صحيح أخرجه أحمد في مسنده (12/ 89) رقم 7169، ومن طريقه أبي داود (1/ 143) رقم 517 وجماعة غيرهما وانظر صحيح أبي داود (3/ 3) رقم 530 للألباني.
(20) شرح زاد المستقنع للشنقيطي (29/ 1).
(21) شرح زاد المستقنع للشنقيطي (29/ 1).
(22) شرح النووي على مسلم (4/ 89) نقلاً عن القاضي عياض.
(23) قلت: قد ألّف الإمام الحافظ برهان الدين البقاعي -رحمه الله- جزءا لطيفا في أسرار الأذان سمّاه "الإيذان بفتح أسرار التشهّد والأذان" وهذا الذي ذكرته نقلاً عن سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (3/ 354) بتصرف.
(24) صحيح مسلم (1/ 288) رقم 11(384)، صحيح البخاري (1/ 126) رقم 611 مختصرا.
(25) صحيح البخاري (6/ 86) رقم 4719.
(26) شرح زاد المستقنع للشنقيطي (29/ 1).