افتتاحية العدد : أدعو إلى الله على بصيرة (سلسلة الواعظ عدد المحرم 1438هـ)

2016-10-04

محمد حسني

أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ

أدعو إلى الله على بصيرة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، وبعد:

عند اشتداد الخطوب وتكالب الكروب وتمييع العقائد واهتزاز الثوابت تشتد الحاجة إلى الدعاة المخلصين والأمناء الناصحين الذين يحملون همَّ الدين والدعوة إليه من دون أن يحركهم حظُ نفس ولا بريقُ شهرة، وإذا كان الواقع يشير إلى دخول أعداد غفيرة في مجال الدعوة بكافة صورها القديمة والحديثة، فإن هذا الأمر ليس إيجابيا من شتى الوجوه فقد تصدى للأمر من لا يحسنه وتسَوَّر على العلم من لا يتقنه وتجرأ على الفتوى غيرُ أهلها.

والدعوة إلى الله ليست عاطفة محضة ولا حرفة مجردة؛ فشأنها عظيم إن كانت على بصيرة وعلم، وخطرها جسيم إن كانت عن جهل وهوى، وهي سبيل صفوة البشر من الأنبياء والرسل ومن سار على نهجهم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]

فالآية دليل على أن من أراد أن يدعو إلى الله فيلزمه أن تكون دعوته على بصيرة؛

قال الرازي في تفسير الآية السابقة: وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسُنُ ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول وعلى هدى ويقين، فإن لم يكن كذلك فهو محض الغرور. (1)

ومن لم يدع إلى الله علي بصيرة فليس من أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-؛

قال ابن القيم -رحمه الله-: فدلت الْآيَة أَيْضا على أَن من لم يكن على بَصِيرَة فَلَيْسَ من أَتبَاع الرَّسُول وَأَن أَتْبَاعه هم أولو البصائر وَلِهَذَا قَالَ {أَنا وَمن اتبعني}. (2)

والبصيرة المصاحبة للدعوة لها معان ينبغي أن تكون واضحة؛ قال البغوي: البصيرة هِيَ الْمَعْرِفَةُ التي يميز بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. (3)، وقال القرطبي: (على بصيرة) أي على يقين وحق. (4)، وجاء في تفسير الجلالين: {عَلَى بَصِيرَة} حُجَّة وَاضِحَة. (5)

والبصيرة هي أعلى درجات العلم كما قال ابن القيم: أعلى درجات العلم. وهي البصيرة التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر. (6)

والبصيرة في الدعوة لا تختص بالعلم الشرعي فقط، بل تشمل: العلم بالشرع، والعلم بحال المدعو، والعلم بالسبيل الموصل إلى المقصود، وهو الحكمة، فيكون بصيرا بحكم الشرع، وبصيرا بحال المدعو، وبصيرا بالطريق الموصلة لتحقيق الدعوة. (7)

فعلى كل من تصدى للدعوة بكافة صورها أن يعلم أن البصيرة والعلم أساس في الدعوة إلى الله وبدونهما فإنه يقع فيما حرم الله ويتسبب في الإفساد والإضلال لا في الهدى والرشاد

قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]

وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ

عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا )). (8)

وقد سار بعض المنتسبين إلى الدعوة في دعوتهم على غير بصيرة ولا علم وكان من نتيجة ذلك أنهم لم يميزوا بين سقيم الحديث وصحيحه فنقلوا الموضوعات والمكذوبات ونسبوها للنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: (( وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ )). (9)

قال الذهبي: وتعمد الكذب عليه من أكبر الكبائر بل عده بعضهم من الكفر وتعمد الكذب على الله ورسوله في تحريم حلال أو عكسه كفر محض. (10)

وقد تجرأ فريق من المنتسبين إلى الدعوة على الفتوى بغير علم وصرنا نسمع فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان لا تقوم على ساق الدليل؛ والله يقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]

وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]

قال ابن عثيمين رحمه الله: من أفتى بغير علم فقد وضع نفسه شريكًا مع الله عز وجل في تشريع الأحكام. (11)

ولسنا في معرض تعداد الأخطاء الدعوية، ولكنها إشارات وتأكيدات على كل من تصدى لتبليغ هذا الدين والدعوة إليه أن يكون على بصيرة من أمر دينه فهما وتعلما وتحقيقا وتوثيقا وأداء وتبليغا.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

كتبه

محمد حسني سلامة

----

(1) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (18/ 520)

(2) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص: 23)

(3) مختصر تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل (4/ 467)

(4) تفسير القرطبي (9/ 274)

(5) تفسير الجلالين (ص: 319)

(6) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 451)

(7) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (9/ 119)

(8) أخرجه البخاري (100) واللفظ له، ومسلم (2673)

(9) أخرجه البخاري (110)، ومسلم (3)

(10) فيض القدير للمناوي (2/ 476)

(11) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (26/ 410)

عدد المشاهدات 9147