تنظيم الإسلام لمناحي الحياة
لقد خلق الله الكون وجعل له نظامًا دقيقًا بديعًا يسيرُ وفق أمر الله تعالى وإرادته، لا يتقدم شيء على شيء ولا يتأخر شيء عن شيء، ليحصل من جرائه النفع، ويرتفع الضرر وفق تقدير العليم الحكيم، قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [الفرقان: 2]. وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [القمر: 49]. وقال: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]. وقال: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس: 40]. وقال: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) } [الملك: 3 - 5]. بل إن الله عز وجل خلق الإنسان في نظام محكم وأطوار متتابعة، لا يمكن أن يسبق طور طورًا آخر، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12 - 16]. فبين سبحانه في هذه الآيات كيف أنه نظم مراحل تكوين الإنسان تنظيمًا محكمًا بداية من الخلق إلي البعث. ولقد عُني الإسلام في جملة ما عُني به من تشريعات بتنظيم جميع مناحي الحياة، ومن جملة ذلك:
1-تنظيم علاقة العبد بربه وبشرعه على سبيل المثال:
(أ) في العقائد: قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فبين سبحانه الغاية التي من أجلها خلق عباده، ودعاهم لتوحيده وأخبرهم أن عبادته وحده ثبات وعبادة ما دونه شتات، كما قال سبحانه على لسان نبيّه يوسف عليه السلام: { يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [يوسف: 39، 40]. قال أبو العالية-رحمه الله-: في قوله تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا أياه)، قال: أسَّسَ الدين على الإخلاص لله وحده لا شريك له(1).
(ب)في العبادات: لقد شرع الله عز وجل العبادة للناس لكي يكونوا على صلة وثيقة بخالقهم، ومن ذلك الصلاة فهي صلة بين العبد وربه، وهي التي تجمع بين الناس وتسوي بينهم، وتحول بينهم وبين ما نهى الله عنه كما قال تعالى{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، ولقد نظم الإسلام الصلاة تنظيمًا دقيقًا من ذلك:
تنظيمًا زمانيًا: فرتبها على أوقات خمس متفاوتة ليلًا ونهارًا حتى يظل العبد على علاقة وثيقة بخالقه، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } [النساء: 103].
ونظمها تنظيمًا مكانيًا: فرق بين أداء الصلاة في السفر والحضر ووضع لكلٍ أحكامها، كما فرق بين صلاة المرء في جماعة وصلاته منفردًا.
وكذلك الزكاة: نظمت تنظيمًا زمانيًا فاشتُرط مرور حول عليها، كما حدد الشرع نصابها، والأصناف الثمانية التي تجب الزكاة فيها، كما حددت مصارفها الشرعية. والصيام: حدد فرضه في شهر معين في السنة، وجعل له شروطًا وأركانًا. وأما الحج: فقد بين الإسلام مواقيته ومناسكه وأحكامه، فنظمه تنظيمًا مكانيًا فحدد المواقيت، كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (يُهِلُّ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّأْمِ مِنَ الجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ)(2). ونظمه تنظيمًا زمانيًا بأشهر معينة، قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَشْهُرُ الحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو القَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الحَجَّةِ "(3).
2-تنظيم الإسلام لعلاقة العبد بنبيه -صلى الله عليه وسلم-:
نظم الإسلام هذه العلاقة:
(أ) اتباعًا: كما قال تعالى: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) }[آل عمران: 132]. فجعل الله عز وجل طاعة نبيه سبيلًا للهداية والرحمة، بل إن الله تعالى جعل اتباع نبيه علامة على محبته كما قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
(ب) تعظيمًا وتوقيرًا:
قال الْحَلِيمِيُّ-رحمه الله-: " فَمَعْلُومٌ أَنَّ حُقُوقَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَكْرَمُ وَأَلْزَمُ لَنَا وَأَوْجَبُ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْقَذَنَا بِهِ مِنَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَعَصَمَ بِهِ لَنَا أَرْوَاحَنَا وَأَبْدَانَنَا وَأَعْرَاضَنَا وَأَمْوَالَنَا وَأَهْلِينَا، فَأَيَّةُ نِعْمَةٍ تُوَازِي هَذِهِ النَّعَمَ، فَحَقَّ عَلَيْنَا إِذًا أَنْ نَحِبَّهُ وَنُجِلَّهُ وَنُعْظِمَّهُ وَنُهِيبَهُ أَكْثَرَ مِنْ إِجْلَالِ كُلِّ عَبْدٍ سَيِّدَهُ، وَكُلِّ وَلَدٍ وَالِدَهُ، وَبِمْثِلِ هَذَا نَطَقَ الْكِتَابُ، وَوَرَدَتْ أُوَامِرُ اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف: 157]. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْفَلَاحَ إِنَّمَا يَكُونُ جَمَعَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ تَعْزِيرَهُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّعْزِيرَ هَاهُنَا التَّعْظِيمُ، وَقَالَ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) [الفتح: 8، 9](4).
3-تنظيم سلوكيات العباد: فقد نظمت الشريعة الإسلامية حياة العباد أفرادًا وجماعات فوضعت تنظيمًا لسلوك كلًا من:
(أ) الرجل في نفسه: لقد خصت الشريعة الإسلامية الرجل المسلم بخصوصيات لا يشترك فيها غيره، ومن ذلك:
وصف ثيابه: منها ما ورد نصٌّ بتحريمه كالحرير والذهب للذكور، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذَ حريراً فجعلَه في يمينه، وأخذ ذهباً فجعله في شِمَالِه، ثم قال: "إنَّ هذينِ حَرَامٌ على ذُكُورِ أُمَّتي"(5). ومن أوصاف ثياب الرجل المسلم، لا يكون مسبلًا، فعن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ)(6). لا يشبه ثياب الكفار، قال عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَأَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: (إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا)(7)، لا يشبه ثياب النساء (لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لَعَنَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ)(8). يستحب أن يكون من البياض، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ )(9).
خصَّ بالقوامة: قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [النساء: 34].
خصَّ برعاية البيت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).
قال الخطابي-رحمه الله-: معنى الراعي ههنا الحافظ المؤتمن على ما يليه يأمرهم بالنصيحة فيما يلونه ويحذرهم أن يخونوا فيما وكل إليهم منه أو يضيعوا وأخبر أنهم مسؤولون عنه ومؤاخذون به(10).
(ب)المرأة في نفسها: ولقد بلغ من تكريم الإسلام للمرأة أن خصص لها سورة من القرآن سماها سورة النساء ولم يخصص للرجال سورة لهم، فدل ذلك على اهتمام الإسلام بالمرأة والحفاظ عليها، ومن جملة الاهتمامات أن فرض عليها الحجاب ووضع له شروطًا منها: أن يكون الحجاب ساترًا لجميع البدن، ثخينا لا يشفّ عما تحته، فضفاضا غير ضيّق، ألا يكون مزينا يستدعي أنظار الرجال، ألا يكون مطيّبا، ألا يكون لباس شهرة، ألا يُشبه لباس الرجال، ألا يشبه لباس الكافرات، ألا يكون فيه تصاليب ولا تصاوير لذوات الأرواح. ولما كان للمرأة مواصفات خلقية خاصة شرعت لها أحكامًا فقهية خاصة كالحيض والنفاس.
(ج) علاقة الزوج مع الزوجة والزوجة مع الزوج: فقد بين الإسلام حق كل من الرجل والمرأة على الآخر، فوضع للزوجة حقوق على زوجها منها: حقوق مالية، وحقوق غير مالية.
فأما الحقوق المالية فمنها:
1-المهر(الصداق): هو المال الذي تستحقه الزوجة على زوجها بالعقد عليها أو بالدخول بها، وهو حق واجب للمرأة على الرجل، قال تعالى {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }[النساء: 4].
2-النفقة: لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-((وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ))(11).
3- السكنى: لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } [الطلاق: 6].
وأما حقوق غير مالية فمنها:
1-التسوية بينها وبين غيرها من زوجاته، إن كان له زوجات، في المبيت والنفقة والكسوة.
2- حسن العشرة لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
ومن حقوق الرجل على زوجته:
1-وجوب طاعة الزوج فيما يرضي الله عز وجل، قال تعالى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].
2- ألا تدخل بيته أحدًا يكرهه: لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ((لاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلاَ تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ))(12).
3- معاشرة الزوجة لزوجها بالمعروف: لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة: 228]. أَيْ لَهُنَّ مِنْ حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن(13).
(د) العلاقة بين الناس: فدعاهم إلى مكارم الأخلاق وحسن التعامل فيما بينهم ففي الحديث القدسي عن ربِّ العِزَة تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا)(14). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا)(15). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا)(16). كما جعل ضوابط عند الزيارات، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27]. كما نظم علاقة الجار بجاره سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، قال مُجَاهِدٌ: كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنه- - وَغُلَامُهُ يَسْلُخُ شَاةً - فَقَالَ: يَا غُلَامُ، إِذَا فَرَغْتَ فَابْدَأْ بِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: الْيَهُودِيُّ أَصْلَحَكَ اللَّهُ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُوصِي بِالْجَارِ، حَتَّى خَشِينَا أَوْ رُئِينَا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ))(17). ونظم علاقة الوالد بولده والولد بأبيه، فأوصي الآباء بحسن التربية والعدل بين الأبناء فقال تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } [النساء: 11]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- (اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ)(18). وأوصى الأبناء بحسن البر بالوالدين وقرنه بعبادته قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } [الإسراء: 23].
كما نظمت الشريعة البيوع والعقود: فأقامت البيوع على التسامح لتكون عاملًا من عوامل التضامن والتحابب. عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى)(19). كما دعت إلى تحري الحلال الطيب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ "(20). بل حثت الشريعة الإسلامية على الكسب الحلال ونبذت كل طرق الكسب المحرمة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء: 29]. قال قتادة: التجارةُ رزقٌ من رزق الله، وحلالٌ من حلال الله، لمن طلبها بصدقها وبرِّها. كما نظمت الشريعة العقود على مبدئ الوفاء قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة: 1].
4-اهتمام الإسلام بتنظيم الدعوة: لم يترك الإسلام شأن الدعوة أصولها وفروعها للأفراد لكي ينظموها بل جعل هناك قواعد ونظم يسير عليها الراغب في الدعوة، وترك بعض المسائل الفرعية للداعية يقدرها حسب المصلحة، فعن ابن عباس -رضي الله عنه-قال: لما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-معاذاً -رضي الله عنه-إلى اليمن قال له: ((ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ))(21).
كيف نحقق النظام في حياتنا؟
1-مراعاة الجانب التعبدي: لقد خلقنا الله عز وجل في هذه الدنيا لنقضيَ فيها وقتاً محدوداً، نسعى خلاله نحو تحقيق منهج الله في الأرض وعمارتها، فلو تأمل المرء في ما حوله من مخلوقات لعلم أن الله تعالى وضع نظامًا دقيقًا محكمًا لهذا الكون، وحينها يستشعر كل إنسان أن تنظيم الحياة أمر تعبدي يطالب به كل مخلوق، عَنْ عَمْرو بْنِ مَيْمُونٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: " اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ"(22).
2-تحديد الأولويات: العبادات والتي تمثل العلاقة مع ربه، تحديد الأولويات العائلية، والمهنية، والاجتماعية، والدراسية، يقوم المرء بتنظيم هذه الأولويات في إطار زمني بحيث. يقلل من تداخل المسؤوليات والأعمال مع بعضها، فيجعل لكل عمل وقته المحدد
3-الانضباط في الأوقات: كل الناس يشتركون في الوقت نفسه (24ساعة يوميًا) لكن يختلف كل فرد عن غيره في اغتنام وقته، فإن استطاع الإنسان تنظيم وقته لا شك بأنه سيكون له ثمرة وعائد عليه في حياته، فكم من مخدوع بوقته كما قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ "(23).
4- تحديد الأهداف والغايات: كل فرد لا بد أن يسأل نفسه ما الذي يود إنجازه؟ وما الذي يود تحصيله؟ بذلك يستطيع ضبط أوقاته على حسب أهدافه وغاياته
5- الاعتدال في التصرفات: كالاعتدال في المأكل والمشر ب والملبس قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. وكذلك الاعتدال في النفقات فهو من صفات عباد الرحمن، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
ثمرات تحقيق النظام على الفرد والمجتمع المسلم
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم-يهتم بالنظام والتنظيم حتى في كلامه كما تصفه لنا أم مَعبَد -رضي الله عنها-في حديثها الذي وصفت فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث قالت: ((كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَتَحَدَّرْنَ))(24).
فمن ثمرات النظام:
1- الحياة الطيبة: قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[النحل: 97]. فالعبادة تجعل المرء يحيا حياة طيبة، متكاملة في جوانبها الإنسانية، وليس هناك شيء في الحياة "كالعبادة" يرفع عن الإنسان هموم الدنيا، ويزيل كرباتها ويخفف من ضيق الصدور عندما تشتد المحن(25).
2-الالتزام بالنظام يمكِّن من القيام بالأعمال الكثيرة في الأوقات القليلة.
3- الاستقرار الأسري: إن الإسلام يبني العلاقات الزوجية على المودة والرحمة، أو -على الأقل- على أحدهما، وإذا فقدت إحداهما بقيت الأخرى، أما إذا فقدت الاثنتان فلا خير في هذه العلاقات الزوجية، يقول سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، وحينما تفقد المودة فستبقى الرحمة، أما حين تفقد المودة والرحمة فالفراق بينهما خير من البقاء.
4-ترابط المجتمع وتماسكه وتعاونه: ولقد أمر الله عز وجل بأوامر في أصل تربية الإنسان وهي تنمية داخلية ليس مجرد التزام ظاهري بل هو زراعة محبة أفراد المجتمع في القلب و هذا يؤدي لجلب الخير والنفع وكف الأذى والضر لذلك يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)(26).
---
(1) تفسير الطبري (16/ 106).
(2) أخرجه البخاري (1525).
(3) أخرجه البخاري تعليقًا (2/ 141).
(4) شعب الإيمان (3/ 95)، للبيهقي.
(5) أخرجه أبو داوود(4057)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير(2274).
(6) أخرجه البخاري(5787).
(7) أخرجه مسلم(27).
(8) أخرجه البخاري (5885).
(9) أخرجه أبو داوود(4063)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1638).
(10) معالم السنن (3/ 2).
(11) أخرجه مسلم (147).
(12) أخرجه البخاري (5195).
(13) تفسير القرطبي (3/ 123).
(14) أخرجه مسلم (55).
(15) أخرجه البخاري (6064).
(16) أخرجه الترمذي (1919).
(17) أخرجه البخاري في الأدب المفرد(128)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (ص: 72).
(18) أخرجه البخاري (2587)، ومسلم (13).
(19) أخرجه البخاري(2076).
(20) أخرجه مسلم (65).
(21) أخرجه البخاري (4090)، ومسلم(30).
(22) أخرجه النسائي في الكبرى(11832)، وصححه الألباني في صحيح الجامع(1077).
(23) أخرجه البخاري (6412).
(24) الأنوار في شمائل النبي المختار للبغوي (ص: 342)، ودلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (ص: 337)، ودلائل النبوة للبيهقي (1/ 279).
(25) طرق تدريس التربية الإسلامية (ص: 126)، دكتور عبد الرشيد سالم.
(26) أخرجه البخاري(6941)، ومسلم(68).