خطبة: وسائل وثمرات المداومة على عمل الصالحات (سلسلة الواعظ عدد رمضان 1437هـ)
2016-06-03
وسائل وثمرات المداومة على عمل الصالحات
عناصر الخطبة
مقدمة
فضل المداومة على الأعمال الصالحة
الوسائل المعينة على المداومة
ثمرات المداومة
مقدمة : نحن في هذه الحياة نسير إلى ربِّنا، فكل يوم يقرِّبنا من الآخرة، ويبعدنا من الدنيا ، فما أحوَجَنا في سيرنا إلى ربنا أن نقطع مراحل الطريق في سيرٍ متواصل غير منقطع، من غير كلل ولا ملل! ولا يكون ذلك إلا إذا استحضرنا طول الطريق، ولم نستنفذ الجهد كله في بعض مراحل الطريق، فاستبقَيْنا جهدنا لبقية الطريق ، المهم أن نلزم الطريق ونواصل السير ولو كان فيه ضعف
قيل لِلْحسنِ البصري -رحمه الله- : سبقَنَا الْقَوْمُ على خيلٍ دُهْم وَنحن على حُمُرٍ مُعَقَّرةٍ ؟ فَقَالَ : إِن كنتَ على طريقهم فَمَا أسْرعَ اللحاق بهم.(1)
- فضل المداومة على الأعمال الصالحة
المداومة على الطاعات لها فضلٌ عظيم وخصائصُ جليلة منها:
- هي أحب الأعمال إلى الله
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- ، أَنَّهَا قَالَتْ: قال رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ )).(2)
وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: (( أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ )).(3)
وقال الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : (( أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ ))، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ.(4)
قال النووي -رحمه الله- : فيه الحث على المداومة على العمل وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطع وإنما كان القليل الدائم خيرا من الكثير المنقطع لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة.(5)
- المداومة على الأعمال الصالحة من صفات النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال عَلْقَمَة ، قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- ، قَالَ: قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ؟ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الْأَيَّامِ؟ قَالَتْ: لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَطِيعُ.(6)
وقال مسروق -رحمه الله- : سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- : أَيُّ العَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ؟ قَالَتْ: الدَّائِمُ.(7)
وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ العَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.(8)
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ آلُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ.(9)
- المداومة على الأعمال الصالحة من خصائص عباد الله المؤمنين
قال تعالى مادحا أهل الإيمان : { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } [المعارج: 23]
وقال سبحانه في مدحهم : {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34]
فالمحافظة على الطاعات من صفات عباد الله المؤمنين فهم دائما في طاعة لربهم
- وهي وصية من الله عز وجل لخير خلقه الأنبياء
قال تعالى مخاطبا نبيه -صلى الله عليه وسلم- وكل عباده المؤمنين : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر: 99]
وأنطق اللهُ عيسى في المهد بهذه الكلمات العظيمة : {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]
- في المداومة على الأعمال الصالحة القيام بحقيقة العبودية
لأن الأصل فيما أمر الله به أن يفعل على الدوام ويحافظ عليه، ففي المحافظة تطبيق للأوامر وعمل بالنصوص وتعظيم لها وتعظيم لشريعة الله.
- في المداومة على العمل الصالح إغاظة للشيطان
لأن عدو الله تعالى يحب تثبيط المسلم عن العمل الصالح، فإذا رآه يداوم عليه ويستمر فيه كان ذلك سببًا لغيظه.
- الوسائل المعينة على المداومة على العمل الصالح
هناك وسائل وأسبابٌ تُعين على المداومة على الطاعات؛ منها:
- معرفة ثَمرات المداومة
فمعرفة ثمرات الشيء والإحاطةُ بفوائده تُعين على الثبات عليه والتمسُّك به؛ كما قال الخَضِر لموسى عليهما السلام: ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 68]
قال السعدي -رحمه الله- : أي كيف تَصبر على أمرٍ ما أحَطتَ بباطنِه وظاهره، ولا علمتَ المقصودَ منه ومآلَه؟.(10)
- الخوف من سوء الخاتمة
قال تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10، 11].
قال ابن رجب -رحمه الله- : وفي الجملة: فالخواتيم ميراثُ السوابق، فكل ذلك سبق في الكتابِ السابق، ومن هنا كان يَشتدُّ خوف السلف من سوء الخاتمة، ومنهم مَن كان يَقلقُ من ذِكر السوابق، وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلَّقة بالخواتيم؛ يقولون: بماذا يُخْتم لنا؟ وقلوب المقرَّبين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبَق لنا؟.(11)
- العزيمة الصادقة والثبات عليها
يحدثنا عن أهمية ذلك ابن القيم -رحمه الله- فيقول:
كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمن لم يكن له عزيمة فهو ناقص، ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص. فإذا انضم الثبات إلى العزيمة أثمر كل مقام شريف وحال كامل.(12) ولهذا جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- : (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ )).(13)
يقول ابن القيم -رحمه الله- : وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح، وما أُتي العبد إلا من تضييعهما ، أو تضييع أحدهما ، فما أُتي أحدٌ إلا من باب العجلة والطيش ، واستفزاز البداءآت له ، أو من باب التهاون والتماوت ، وتضييع الفرصة بعد مواتاتها ، فإذا حصل الثبات أولاً، والعزيمة ثانياً ؛ أفلح كلَّ الفلاح.(14)
- الاقتصاد في العبادة
فلا يثقل العبد على النفس بأعمال تؤدي إلى المشقة، وتفضي إلى السآمة والملل من العبادة فقد جاء في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- ، أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: (( أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ )). وَقَالَ: (( اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ )).(15)
وحذَّر -صلى الله عليه وسلم- من الغلوِّ والتشدُّد فجاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ )).(16)
فعلى المرء المسلم أن تكون عبادته قصداً لا إفراط ولا تفريط ، بل تكون على وفق سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؛ فقد قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- : (( إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي ، فَقَدْ أَفْلَحَ ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَقَدْ هَلَكَ )).(17)
يقول ابن القيم -رحمه الله- معلقاً على هذا الحديث: فَكُلُّ الْخَيْرِ فِي اجْتِهَادٍ بِاقْتِصَادٍ، وَإِخْلَاصٍ مَقْرُونٍ بِالِاتِّبَاعِ. كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: اقْتِصَادٌ فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، خَيْرٌ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، فَاحْرِصُوا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُكُمْ عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَسُنَّتِهِمْ.(18)
و لما دخل -صلى الله عليه وسلم- المسجد رأى حبلاً ممدوداً بين ساريتين، فَقَالَ: (( مَا هَذَا الحَبْلُ؟ )) قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ به ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : (( لاَ حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ )).(19)
- قراءة القرآن بتدبر وتعقل:
فإن القرآن يهدي للتي هي أقوم ، قال تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9]
وهو وسيلة من وسائل الثبات والتثبيت على المداومة على العمل الصالح، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102]
وهو الذي ربى الأمة َوأدبها، وزكى منها النفوس، وصفى القرائح، وأعلى الهمم، وغرس الإيمان في الأفئدة، وفي قراءته تثبيت لقلب القارئ المتدبر لما يقرأ.
- تذكر الموتِ والدارِ الآخرة وقصرُ الأمل
فإن طول الأمل يورث الكسل ، ويقعد عن العمل ، أما ذكر الموت وتقصير الأمل يدفع العبد إلى العمل دفعا ، قال تعالى { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45، 46]
قال الْحَسَن البصري -رحمه الله- : مَا أَكْثَرَ عَبْدٌ ذِكْرَ الْمَوْتِ إِلَّا رَأَى ذَلِكَ فِي عَمَلِهِ ، وَلَا طَالَ أَمَلُ عَبْدٍ قَطُّ إِلَّا أَسَاءَ الْعَمَلَ.(20) لذلك أرشدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الإكثار من ذكر الموت فقال : (( أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ )). يَعْنِي الْمَوْتَ .(21)
فمن أكثر من ذكر الموت نَشَط في عمله، ولم يغتر بطول أمله؛ بل يبادر بالأعمال قبل نزول أجله، ويحذر من الركون إلى الدنيا.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- ، يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.(22)
- صحبة الأخيار
الذين يعينون على طاعة الله عز وجل؛ فإن الإنسان ينشط للقيام بالطاعة حين يرى أن إخوانه من حوله مقيمون عليها، وقد يشعر بالخجل من نفسه إن رآهم على طاعة وهو مقصر، فلهذا كانت صحبة الأخيار، وأهل الفضل والصلاح الذين إذا رآهم الإنسان ذكَّرته رؤيتهم بالله عز وجل وبطاعته؛ محل اهتمام الإسلام ، قال تعالى : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]
قال السعدي -رحمه الله- : يأمر تعالى نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- - وغيرُه أُسوتُه في الأوامر والنواهي - أن يَصبِر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين ﴿ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ ؛ أي: أولَ النهار وآخِرَه يريدون بذلك وجهَ الله، فوصفَهم بالعبادة والإخلاص فيها، ففيها الأمرُ بصحبة الأخيار، ومجاهدةُ النفس على صحبتهم، ومخالطتهم وإن كانوا فقراء؛ فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يُحصى.(23)
- الدعاء وسؤال الله الثبات وطلب العون من الله
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رحمه الله- : تَأَمَّلْتُ أَنْفَعَ الدُّعَاءِ فَإِذَا هُوَ سُؤَالُ الله الْعَوْنَ عَلَى مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي الْفَاتِحَةِ فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.(24)
فإن الله سبحانه قد أثنى على الراسخين في العلم أنهم يسألون ربهم الثبات على الهداية:{ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [آل عمران: 8]
وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (( يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ )).(25)
وأوصى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- معاذَ بنَ جبلٍ -رضي الله عنه- بأن يدعو بعد كل صلاة أن يعينَه ربُّه على ذكره وشكره ، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي الله عنه- ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: (( يَا مُعَاذُ ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ ، أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ : لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أن تَقُول : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ )).(26)
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو يَقُولُ: (( رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الهُدَى لِي )).(27)
فالتوفيق والعون من الله وحده، وقد أحسن من قال:
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
- البعد عن المعاصي
فإن المعصية تجر إلى أختها، والخير يدعو إلى الخير والشر يدعو إلى الشر والقليل من كل واحد منهما يجرُّ إلى الكثير. فكم من أكلة منعت قيام ليلة ، وكم من نظرة منعت قراءة سورة وإن العبد ليأكل أكلة أو يفعل فعلة فيحرم بها قيام سنة ، وكما إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر فكذلك الفحشاء تنهى عن الصلاة وسائر الخيرات.
قيل لابن مسعود -رضي الله عنه- : ما نستطيع قيام الليل. قال: أبعدتكم ذنوبُكم.
وقيل للحسن البصري -رحمه الله- : أعجزنا قيام الليل، قال: قيدتكم خطاياكم. وقال: إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل.
قال له رجلٌ : يا أبا سعيد إني أبيت مُعافى وأحبُّ قيام الليل وأعدُّ طهوري فما بالي لا أقوم ؟! فقال : ذنوبك قيدتك!.
وقال الثوري -رحمه الله- : حُرمتُ قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته. قيل : وما ذاك الذنب قال : رأيت رجلاً يبكي فقلت في نفسي هذا مراءٍ !.(28)
وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله- : إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محرومٌ مكبَّلٌ كبلتك خطيئتك.(29)
- ثمرات المداومة على العمل الصالح
- سببٌ لزيادة الإيمان
فكل عمل صالح يَزيد الإيمانَ بحسَبِه؛ إن كان صغيرًا أو كبيرًا، قليلاً أو كثيرًا. وكل طاعة تجرُّ إلى غيرها ، عن عروة بن الزبير -رحمه الله- قال : إذا رأيت الرجل يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيته يعمل السيئة فاعلم أن لها عنده أخوات، فإن الحسنة تدل على أختها، وإن السيئة تدل على أختها.(30)
- المداومة على العمل الصالح سبب لمحبة الله تعالى للعبد ، وكفى بها ثمرةً وكرامة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : (( إِنَّ اللَّهَ قَالَ: ..... وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ )).(31)
ففي هذا دليل على أن المداومة والاستمرار على العمل الصالح ، سببٌ لمحبة الله تعالى للعبد.
- أنها سبب لتكفير الخطايا والآثام .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ، قَالَ : (( أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ )). قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: (( فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا )).(32)
- أنها سبب للنجاة من الكرب والشدائد في الدنيا والآخرة .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- ، قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا، فَقَالَ: (( يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ )).(33)
وفي رواية : ((تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) .(34)
ومعنى هذا أن العبد المؤمن بمداومته على العمل الصالح في حال الرخاء تكون بينه وبين الله تعالى صلة ومعرفة ، تنفعه وتنجيه متى ما وقع في شيء من الشدائد . ها هو يونس عليه السلام ينجيه الله تعالى من الكربات والظلمات بسبب أنه كان مداوما على ذكر الله تعالى وتسبيحه : { فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات: 143، 144] والمعنى: لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الرَّخَاءِ.(35)
- دوام اتصال القلب بالله تعالى
وذلك يعطي القلب قوةً ونوراً وثباتاً على دين الله وتعلقا بالله عز وجل، وتوكلا عليه، ومن ثم يكفيه همه{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}. وقد عدَّ بعض أهل العلم هذا الأمر من الحِكَم التي شرعت من أجلها الأذكار ، سواءً الأذكارُ المطلقة ، أو المقيَّدةُ بالأحوال .
- حفظ النفس من الغفلة
وقد ذمَّ الله الغفلة وأهلَها، ونهى عن الاتِّصاف بها؛ فقال: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205]
فالمداومة على الطاعات وقايةٌ من الغفلة التي تَقود إلى الهلاك والخُسران، والنفس إن لم تَشغَلها بالطاعة شغلَتك بالمعصية وصدَق من قال:
وما المرءُ إلاَّ حيثُ يَجعَلُ نفسَه ففي صالحِ الأعمال نفسَك فاجعلِ
- ثبوت الأجر عند المرض والسفر
إذا داوم العبد على العمل الصالح ، ثم عرض له عذر من مرضٍ أو سفر ، كُتِب له ما كان يعمل حال صحته وإقامته ، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : (( إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا )).(36)
قال ابن حجر -رحمه الله- : هذا في حق من كان يعمل طاعةً فمُنِع منها ، وكانت نيَّتُه لولا المانع أن يدوم عليها .(37)
وعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( مَا مِنَ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ )).(38)
وهذا الفضل من الله تعالى ، إنما يكون فيمن كان له وردٌ يحافظ عليه ، وعملٌ يداوم عليه .
- ومن آثار المداومة على العمل الصالح، أنها سبب لحسن الختام
لأن المؤمن لا يزال يجاهد نفسه بفعل الطاعات وترك المحرمات، حتى يقوى عزمه، ويستقيم حاله، ويستمر على العمل الصالح حتى الممات { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [إبراهيم: 27]
- المداومة سبب لدخول الجنة .
ها هو بلال -رضي الله عنه- بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- : أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الفَجْرِ (( يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ )). قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا، فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ.(39) فأفاد الحديث أن الله تعالى يحب المداومة على العمل الصالح وإن كان قليلاً ، وأنه يجزي عامله بدخول الجنة .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ، قَالَ: (( مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ )). فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا، قَالَ: (( نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ )).(40)
قال ابن عبد البر -رحمه الله- : فيه أن من أكثر من شيء عرف به ونسب إليه ألا ترى إلى قوله (( فمن كان من أهل الصلاة )) يريد من أكثر منها فنسب إليها لأن الجميع من أهل الصلاة وكذلك من أكثر من الجهاد ومن الصيام على هذا المعنى ونسب إليه دعي من بابه ذلك.(41)
---
(1) الفوائد لابن القيم (ص: 43)
(2) رواه مسلم (782)
(3) رواه مسلم (782)
(4) رواه مسلم (783)
(5) شرح النووي على مسلم (6/ 71)
(6) رواه مسلم (783)
(7) رواه البخاري (6461)
(8) رواه البخاري (6462)
(9) رواه مسلم (782)
(10) تفسير السعدي (ص: 482)
(11) جامع العلوم والحكم (1/ 174)
(12) طريق الهجرتين (ص: 266)
(13) رواه أحمد (4/ 122) والطبراني (7135) وجود إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (7/ 695)
(14) مفتاح دار السعادة (1/ 142)
(15) رواه البخاري (6456) ومسلم (783)
(16) رواه البخاري (39).
(17) رواه أحمد (2/ 188) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 431)
(18) مدارج السالكين (2/ 108)
(19) رواه البخاري (1150) ، ومسلم (784) من حديث أنس -رضي الله عنه-.
(20) الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 218)
(21) رواه الترمذي (2307) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 264) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(22) رواه البخاري (6416)
(23) تفسير السعدي (ص: 475)
(24) مدارج السالكين (1/ 100)
(25) رواه الترمذي (2140) من حديث أنس -رضي الله عنه- و (3522) من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 871) و (2/ 1323)
(26) رواه أبو داود (1522) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1320)
(27) رواه أبو داود (1510) والترمذي (3551) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (5/ 244)
(28) إحياء علوم الدين (1/ 356)
(29) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (2/ 504)
(30) صفة الصفوة (1/ 349)
(31) رواه البخاري (6502).
(32) رواه البخاري (528) ومسلم (667)
(33) رواه أحمد (1/ 293) والترمذي (2516) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1318)
(34) رواه أحمد (1/ 307)
(35) تفسير ابن كثير (7/ 39)
(36) رواه البخاري (2996)
(37) فتح الباري لابن حجر (6/ 136)
(38) رواه النسائي (1784) وصححه الألباني في إرواء الغليل (2/ 205)
(39) رواه البخاري (1149) ومسلم (2458)
(40) رواه البخاري (1897) ومسلم (1027)
(41) التمهيد (7/ 185)