خطبة: الفرار إلى الله، حقيقته وثمراته(سلسلة الواعظ عدد رمضان 1437هـ)

2016-06-03

اللجنة العلمية

الفرار إلى الله .. حقيقته وثمراته

الفرار إلى الله

أسباب اختيار الموضوع

مقتضيات الفرار

ثمرات الفرار

بعض صور الفرار

ماذا ننتظر ؟

مقدمة : إن الناظر اليوم بعين البصر والبصيرة في واقع الأمة الإسلامية وما حلَّ بكثير من أبنائها من بُعدٍ عن الله عز وجل ، ونسيانٍ للآخرة ، وانغماسٍ في الملذات ، وإقبالٍ على الدنيا واللهث وراءها والانغماس في متاعها ، مما أدى إلى انتشار كثير من الموبقات والفواحش المهلكات في مجتمعات المسلمين ، الأمر الذي يستدعي من الغيور على دينه الذي يرجو النجاة لنفسه ولأبناء أمته أن يصرخ فيهم بأعلى صوته قائلا : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]

أسباب ودوافع الكلام عن هذا الموضوع

- انفتاح الدنيا الشديد ، وطغيان الجانب المادي على حياة أكثر الناس وما ترتب على ذلك من لهث وتكالب على حطامها دون تمييز بين حلال وحرام، وطيب وخبيث.

- الغفلة الشديدة عن الآخرة والغاية التي من أجلها خلقنا ، وتحولت هذه الدنيا الفانية من كونها خادمة ومملوكة إلى أن تكون مالكة مخدومة.

- ظهور المنكرات وانتشار الفساد بشكل ينذر بالخطر والعقوبة إن لم يتدارك الله عز وجل عباده ويرحمهم بالفرار إليه.

- الغربة الشديدة لدين الله في واقع كثير من الناس ، فلابد من التواصي بالحق والصبر، لعل الله عز وجل ، أن يكشف الكربة ، ويثبت قلوب عباده المؤمنين على دينه.

- التأكيد على الرجوع إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في التماس سبل النجاة من الفتن والمهلكات ، ولفت الأنظار إليهما بعد أن ابتعد كثير من الناس عنهما.

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِني لَكُمْ مِنهُ نَذِيرٌ مُبِين} [الذاريات: 50]

لماذا جاء التعبير بلفظ (( ففروا )) ؟

والتعبير بلفظ الفرار عجيب حقا. وهو يوحي بالأثقال والقيود والأغلال ، التي تشد النفس البشرية إلى هذه الأرض، وتثقلها عن الانطلاق، وتحاصرها وتأسرها وتدعها في عقال. وبخاصة أثقال الرزق والحرص والانشغال بالأسباب الظاهرة للنصيب الموعود. ومن ثَمَّ يجيء الهتاف قويا للانطلاق والتملص والفرار إلى الله من هذه الأثقال والقيود! الفرار إلى الله وحده منزها عن كل شريك.(1)

- معنى الفرار وحقيقته

الهروب من شيءٍ إلى شيء، من شيءٍ مخيف إلى شيءٍ آمن، من شيءٍ مزعج إلى شيءٍ مُطَمْئِن.

ولقد حدد الله لك الوجهة ورسم لك الطريق فقال سبحانه:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}، نعم إنه الفرار إلى الله ، تفر إلى الله لأن خلفك عدوك إبليس يسعى خلفك جاهداً بكل ما أوتي من قوة ليجعلك من أصحاب السعير أخبرك بذلك ربك وحبيبك يوم أن قال : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]

فرارٌ من الجهل إلى العلم عقداً وسعياً ،،، ومن الكسل إلى التشمير جِدَّاً وعزماً

فرارٌ من الضيق إلى السَعَةِ ثقةً ورجاء ، أن تهرب من ضيق الصدر بالهم والغم والحزن والمخاوف التي تعتري الإنسان في هذه الدار، إلى سعة الإيمان وأُفُقِ الإسلام ورحابة طاعة الرحمن.

فرارٌ من الخوف إلى الطمأنينة، من هموم الدنيا إلى التطلع للآخرة.

فالمؤمن يفر من ضيقٍ يعتريه، من ضيق الهم، وضيق الغم، وضيق الحزن، إلى سعة فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى، وصدق التوكل عليه، وحسن الرجاء لجميل صنعه به، وتوقع المرجو من لطفه وبره.

وَلَرُبَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى ... ذَرْعاً وعندَ اللهِ منها المخرَجُ

ضاقتْ فلمَّا استحكمتْ حلقاتُها ... فُرِجَتْ وكانَ يظنُّها لا تُفرجُ

- أسباب تحديد جهة الفرار

أيها التائه ... أيها المتحير ... أيها المتباطئ ... أيها الخائف ... أيها العاصي ... أيها المُثْقل بالذنوب والأوزار ... أيها الأسير لشهواته المكبل بالقيود والأغلال ... يا مّن أسره الشيطان ولا يستطيع الخلاص والفرار .... يا من ضاق صدره وأحاطت به الهموم والأحزان : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ }

- لأنـــك لن تجد أعظم وأقوى من الله في حفظك من أعدائك

فالإنسان الضعيف لابد أن يلجأ فيما يعرض له من أمور إلى جهة يراها قوية وقادرة على أن تحميه أو توفر له الأمن والاطمئنان، فإلى من يتجه، وإلى مَن يفوض أموره ؟ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]

ولا ملجأ للعبد منه سبحانه إلا إليه فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- ، أنها سمعت رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول وهو ساجد : (( اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ )).(2)

- لن تجد أكرم وأجود من الله

يا ابن آدم الكل يريدك لنفسه، والله عز وجل يريدك لك فانتبه لهذا المعنى !

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً )).(3)

وقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (( يَا ابْنَ آدَمَ ، قُمْ إِلَيَّ أَمْشِ إِلَيْكَ ، وَامْشِ إِلَيَّ أُهَرْوِلْ إِلَيْكَ )).(4)

وعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (( يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ )).(5) لأنه الكريم الجواد.

- لن تجد أحلم وأرحم من الله

أما الآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة ومعلومة ، وكذلك الأحاديث وإليك بعضا منها:

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ، تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ، أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (( أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ )). قُلْنَا: لَا، وَاللهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (( لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا )).(6)

عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: (( يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ )).(7)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: (( أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ )).(8)

ومعنى الحديث : أي ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك.

وعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، قَالَ: (( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا )).(9)

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِني لَكُمْ مِنهُ نَذِيرٌ مُبِين} [الذاريات: 50]

- ولكنَّ الفرار يقتضي أمورا :

- التأهب الاستعداد

قال تعالى {وَأَعِدُّوا} {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ} {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}

- تأهبوا فإن الأجل قريب.....شمروا فإن الأمر جد

- تزودوا فإن السفر بعيد...........أكثروا الزاد فإن المسافة بعيدة

-أخلصوا النية فإن الناقد بصير.......خففوا الأثقال فإن في الطريق عقبةً كؤود

- جددوا السفينة فإن البحر عميق

- الفرار يقتضي القوة والعزم

كلمة الفرار تحمل في طياتها معنى الجدية والعزيمة ، والله عزَّ وجل يأمرنا أن نتلقَّى أوامره بالعزم والجد قال تعالى: ﴿خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾[ البقرة الآية: 93]

وقال تعالى ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾[ الأعراف الآية: 145] وقال ليحيي عليه السلام ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾[ مريم الآية: 12]

أي بجدٍ واجتهادٍ وعزمٍ، لا كمن يأخذ ما أُمِرَ به بترددٍ وفتور.

- الفرار إلى الله يقتضي المبادرة والمسارعة والمسابقة

قال رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (( بَادِرُوا )).(10) إِذا هَمَمْت فبادر وَإِذا عزمت فثابر وَاعْلَم أَنه لَا يدْرك المفاخر من رَضِي بالصف الآخر.

وقال الله جل جلاله {وَسَارِعُوا} وقال سبحانه {سَابِقُوا } وقال {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}

فإِن لم تكن أسدا فِي الْعَزْم وَلَا غزالا فِي السَّبق فَلَا تتثعلب.

- الفرار يقتضي عدم الالتفات لغير الله

هذا الذي فرَّ إلى الله لا تعنيه الأشكال، لا تعنيه المظاهر، لا تعنيه الألقاب، لا تعنيه المراتب العالية ، التي يعظمها الناس ، ولكن الذي يعنيه الاتصال بالله ، الإخلاص لله ، يعنيه العمل الصالح الذي يرضي الله ، يعنيه الشوق إلى الله ، لأن فراره فرار داخلي، فرَّ من نفسه إلى الله، من حظوظه إلى الله، من همومه إلى الله ، من رغباته إلى الله، من حركاته وسكناته إلى الله ولسانه حاله {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26] {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الصافات: 99]

- أنواع الــــــــــــــــــــــــــــــــــــفرار :

الفرار نوعان : فرار السعداء وفرار الأشقياء

أما فرار السُعداء فرارٌ من الدنيا إلى الله، فرار السعداء الفرار منه إليه سبحانه.

قال ابن القيم -رحمه الله- : ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة الفرار.(11)

قال القرطبي -رحمه الله- : قال الله تعالى: لنبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قل لهم يا محمد، أي قل لقومك: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي فروا من معاصيه إلى طاعته.

وقال الإمام الطبري -رحمه الله- : اهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته.(12)

وقال ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- : فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم.

وقال الإمام ابن كثير -رحمه الله- : أَيِ: الْجَئُوا إِلَيْهِ، وَاعْتَمِدُوا فِي أُمُورِكُمْ عَلَيْهِ.(13)

- وأما فرار الأشقياء

فرارٌ منه لا إليه، فرارٌ منه إلى الدنيا ، إلى المعاصي ، إلى الشهوات ، إلى الظلمات ، إلى المهلكات قال تعالى واصفا حالهم :{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } [المدثر: 49 - 51]

- ثمرات الفرار إلى الله تعالى

1- أنه سبب لرضوان الله- سبحانه وتعالى- والفوز بالجنة والنجاة من النار .

2- خير ما يعين على ترك المعاصي والبعد عن الشبهات .

3- هو سبب في طهارة القلوب وصفاء النفوس.

4- سبب في البعد عن التكالب على حطام الدنيا واللهث خلف شهواتها والإقبال على الآخرة.

- بعض النماذج والصور للفرار إلى الله

الفرار إليه بالتوبة الصادقة ومثال ذلك فرار الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك قال تعالى في شأنهم : {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]

الفرار إليه عند الفتن ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (( يُوشِكَ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الرَّجُلِ غَنَمٌ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ )).(14)

لماذا نؤخر الفرار ؟

يا ابن آدم فرَّ إلى ربك في الدنيا راغبا مختارا قبل أن يأتي يوم تفرُّ إليه وأنت مضطرٌ إليه - وليس لك إلا هو - ولكن لا ينفعك الفرار حينها لأنك قد فررت منه وأعرضت عنه في الدنيا قال تعالى : { يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [القيامة: 10 - 12] وقال جل شأنه : {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر: 33]

وقال تعالى :{مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ } [الشورى: 47]

يفرُّ الإنسان في ذلك الموقف من كل من يمتون له بصلة في هذه الحياة يفر حتى من أبنائه وفلذات كبده، ولكن هل ينفع هذا الفرار إن لم يكن الإنسان من الفارين إلى الله في هذه الحياة الدنيا يقول سبحانه في كتابه العزيز: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس: 34 - 37]

قال عبد الله بن طاهر الأبهري: يفرُّ منهم لما تبيَّن له من عجزهم وقلة حيلتهم، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى.(15)

فلماذا عباد الله نؤخر الفرار إلى العزيز الجبار؟ لماذا نؤخر الفرار إلى الواحد القهار؟

هل نحن مغترون بصحتنا وقوتنا التي هي إلى ضعف وزوال؟ أم نحن مغترون بأموالنا التي لن يلحقنا منها شيء إذا متنا؟ أم نحن عالمون بموعد موتنا وانتقالنا عن هذه الحياة؟ لهذا نحن نؤخر الفرار إلى الله إلى قرب هذا الموعد، هذه أسئلة لابد أن يسألها المسلم لنفسه، ولابد أن يجد لها الإجابات المقنعة إن كان حقاً يريد مرضاة الله سبحانه وإن كان حقاً يريد النجاة من عذاب الله وعقابه.

فتعالوا لنعلنها صريحة واضحة تحمل كل معاني الفرار إلى الله ظاهرا وباطنا : (( اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ )).(16)

{ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } اللهم خذ بنواصينا إليك أخذ الكرام عليك ولا تكلنا لأنفسنا طرفة عين.

---

(1) في ظلال القرآن (6/ 3386)

(2) رواه مسلم (486)

(3) رواه البخاري (7405) ومسلم (2675)

(4) رواه أحمد (3/ 478) من حديث رجل من الصحابة وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 800)

(5) رواه مسلم (2687)

(6) رواه البخاري (5999) ومسلم (2754)

(7) رواه مسلم (2577)

(8) رواه مسلم (2758)

(9) رواه مسلم (2759)

(10) رواه مسلم (118) من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-

(11) مدارج السالكين (1/ 466)

(12) تفسير الطبري (21/ 549)

(13) تفسير ابن كثير (7/ 424)

(14) رواه البخاري (3300)

(15) تفسير القرطبي (19/ 225)

(16) رواه البخاري (247) ومسلم (2710) من حديث البراء بن عازب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-

عدد المشاهدات 14497