مُحقرات الذنوب
معنى المحقرات التحذير منها بعض صورها
نظرة المؤمن للذنوب وأخيرا هل من توبة؟
من المتقرر عند أهل الحق والعرفان أنه كلَّما قوي الإيمان في قلب العبد، استعظم معصية سيِّده ومولاه، فكان ذلك سياجا قويا وحصنا منيعا بينه وبين الذنوب صغيرها وكبيرها، وكلَّما ضعُفَ الإيمان في قلب العبد، هانت عليه المعصية، ورآها أمرًا هيِّنًا، وعندئذٍ يفتح عليه الشيطان باب المحقرات، فما يزال به حتى يورده موارد الهلكات، التي توجب له سخطَ ربِّ الأرض والسماوات، فما يفيق من غفلته إلا بعدما انقضى العمر وفات، وحينها يدعو بالثبور والويلات، إلا من تداركه ربه برحمته فتاب من الزلات، وترك الذنوب صغيرها وكبيرها وانشغل بعمل الصالحات.
معنى محقرات الذنوب
محقرات الذنوب هي ما لا يبالي المرء به من الذنوب الصغائر.
قال المناوي -رحمه الله-: (محقرات الذنوب) أي صغائرها لأن صغارها أسباب تؤدي إلى ارتكاب كبارها كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها.
إنها محقرات الذنوب
التي حذَّر الله تعالى منها عبادَه أشدَّ تحذير وزجر عنها أعظم زجر لمن تأمل كلام ربه، فقال الله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].
جزع بعض السلف عند الموت فقيل له في ذلك فقال: إني أخاف ذنبًا لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم. (1)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ )). (2)
إنها محقرات الذنوب
التي حذَّر منها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أحبَّ الناس إليه الصديقة بنت الصديق، فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( يَا عَائِشَةُ، إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ طَالِبًا )). (3) ومصداق ذلك في قوله تعالى{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة: 8]
فالصغير والكبير من الذنوب يقيد في كتاب {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } [الكهف: 49]
إنها محقرات الذنوب
التي حذَّر منها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه الأخيار وجميعَ أمته، وأخبر أنها ما اجتمعت على عبد إلا أوردته المهالك، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ)). وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلاً: كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلاَةٍ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ، فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا )). (4)
قال المناوي في شرحه المثل المضروب في الحديث:
يعني أن الصغائر إذا اجتمعت ولم تكفر أهلكت ولم يذكر الكبائر لندرة وقوعها من الصدر الأول وشدة تحرزهم عنها فأنذرهم مما قد لا يكترثون به. (5)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ )). (6)
قال أبو عبد الرحمن الحبلى: مثل الذى يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات، كرجل لقاه سبُعٌ فاتقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحْلُ إبلٍ فاتقاه فنجا منه، فلدغته نملة فأوجعته، ثم أخرى، ثم أخرى حتى اجتمعن عليه فصرعنه، وكذلك الذى يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات.
وسبب كون صغار الذنوب ومحقراتها مهلكة لسببين:
الأول: الإصرار. الثاني: الاستصغار.
أما الأول: وهو الإصرار وهو المداومة على الذنب حتى يصير كبيرا عند الله تعالى
قَالَ ابن بَطَّالٍ -رحمه الله-: الْمُحَقَّرَاتُ إِذَا كَثُرَتْ صَارَتْ كِبَارًا مَعَ الْإِصْرَارِ. (7)
فَالْإِصْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ أَقْبَحُ مِن الذنب لذلك قال ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-: لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ.
الثاني: الاستصغار وهو الاستهانة بها واحتقارها الذي يؤدي إلى كبرها وعظمها عند الله.
قال بِلَال بْن سَعْدٍ -رحمه الله-: لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى مَنْ عَصَيْتَ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رحمه الله-: بِقَدْرِ مَا يَصْغَرُ الذَّنْبُ عِنْدَكَ يَعْظُمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِقَدْرِ مَا يَعْظُمُ عِنْدَكَ يَصْغَرُ عِنْدَ اللَّهِ. (8)
الذنوب جراحات ورُبَّ جرح وقع في مقتل، وليس من رقع وخاط كمن ثوبه صحيح
وقال أبو بكر الصديق -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-: إن الله يغفر الكبائر فلا تيأسوا، ويعذب على الصغائر فلا تغتروا. (9)
إنها محقرات الذنوب
التي حملت مَن قبلنا على ترك دينهم والانسلاخ من عقيدتهم، قيل لحُذَيْفَةَ بن اليمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-: أفِي يَوْمٍ وَاحِدٍ تَرَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ دِينَهُمْ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ تَرَكُوهُ، وَإِذَا نُهُوا عَنْ شَيْءٍ رَكِبُوهُ، حَتَّى انْسَلَخُوا مِنْ دِينِهِمْ كَمَا يَنْسَلِخُ الرَّجُلُ مِنْ قَمِيصِهِ. (10)
إنها محقرات الذنوب
التي ترضي الشيطان وتسعده وهي مطلبه من أهل الصلاة ومأربه، فعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: (( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ )). (11)
فالعبد إذا نظر إلى المعاصي التي تدخل تحت حدِّ الصغائر لا الكبائر، فربَّما استسهل الوقوع فيها! أو اعتمد فيها على عفو الله تعالى، فلا يلبث إلا أن يجد أثرها في اجتماعها المدمِّر؛ كالسَّيل العرم، لو جزَّأته لوجدتَّه نُقَطًا!.
فمن نظر للذنوب على أنَّها أوساخٌ، توقَّاها وتجنَّبها ولو كانت صغارًا، فالوسخ يُؤثِّر ولو كان قليلًا، فإذا تراكم سوَّد الثياب.
لا تحقرن من الذنوب أقلها. . . إن القليل إلى القليل كثير(12)
إياك إياك ومحقرات الذنوب
قَالَ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ -رحمه الله-: يَا مَغرُورًا بِالأَمَانيِّ، لُعِنَ إِبلِيسُ وَأُهبِطَ مِن مَنزِلِ العِزِّ بِتَركِ سَجدَةٍ وَاحِدَةٍ أُمِرَ بها، وَأُخرِجَ آدَمُ مِنَ الجَنَّةِ بِلُقمَةٍ تَنَاوَلَهَا، وَحُجِبَ القَاتِلُ عَنهَا بَعدَ أَن رَآهَا عِيَانًا بِمَلءِ كَفٍّ مِن دَمٍ، وَأُمِرَ بِقَتلِ الزَّاني أَشنَعَ القِتلاتِ بِإِيلاجِ قَدرَ الأَنمُلَةِ فِيمَا لا يَحِلُّ، وَأُمِرَ بِإِيسَاعِ الظَّهرِ سِيَاطًا بِكَلِمَةِ قَذفٍ أَو بِقَطرَةٍ مِن مُسكِرٍ، وَأَبَانَ عُضوًا مِن أَعضَائِكَ بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ، فَلا تَأمَنْهُ أَن يَحبِسَكَ في النَّارِ بِمَعصِيَةٍ وَاحِدَةٍ مِن مَعَاصِيهِ (( وَلا يَخَافُ عُقبَاهَا )). (13)
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- أَنَّهُ قَالَ: يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لِمَا تَأْمَنُ سُوءَ عَاقِبَتِهِ وَلِمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ؟ ، وَقِلَّةُ حَيَائِك مِنْ مَلَكِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِي عَمِلْتَهُ، وَفَرَحُك بِالذَّنْبِ إذَا ظَفِرْتَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ، وَضَحِكُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ بِك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ، وَحُزْنُك عَلَى الذَّنْبِ إذَا فَاتَك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ، وَخَوْفُك مِنْ الرِّيحِ إذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِك وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُك مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إلَيْك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ. (14)
أنواع المحقرات التي يتهاون بها الناس
- التهاون بالكلمة
- رُبَّ كلمة لو مُزجت بماء البحر لكدرته وغيرته وقائلها لا يعبأ بها
- عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها-، قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، تَعْنِي قَصِيرَةً، فَقَالَ: (( لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ )). (15)
قال المناوي -رحمه الله-: معناه هذه غيبة منتنة لو كانت مما يمزج بالبحر مع عظمه لغيرته فكيف بغيره.
وقال النووي -رحمه الله-: هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها وما أعلم شيئا من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ. (16)
فذكر معايب الناس التي يكرهونها مما يتساهل به البعض ولا يشعرون بالإثم وهو من كبائر الذنوب ويكفى ذماً لها وتحذيرا منها قول ربنا تبارك وتعالى { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } [الحجرات: 12].
- ورُبَّ كلمة تُعرِّض قائلها للعذاب وهو لا يدري
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ )). (17)
- ورُبَّ كلمة أوبقت دنيا قائلها وآخرته
عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ الْمُجْتَهِدُ لَا يَزَالُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى ذَنْبٍ، فَيَقُولُ: يَا هَذَا أَقْصِرْ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ، فَيَقُولُ: خَلِّنِي وَرَبِّي، حَتَّى وَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ، فَقَالَ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَبَدًا، وَلَا يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ أَبَدًا، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا، أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْظُرَ عَلَى عَبْدِي رَحْمَتِي؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ، قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ )). ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ. (18)
- ومن المحقرات النميمة
ومما يستهين به الناس من الذنوب النميمة: عن حُذَيْفَة بن اليمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ )). (19)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ».(20)
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ -رحمه الله-: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ النَّمِيمَةِ وَأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. (21)
- ومن المحقرات إسبال الثياب للرجال
إسبال الثياب يستسهله البعض لأنهم ألفوه ويظنونه من الصغائر وهو من المهلكات وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( مَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ )). (22)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )). قَالَ: فَقَالها رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَ مِرَارًا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (( الْمُسْبِلُ { إِزَارَهُ }، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ )). (23)
- ومن المحقرات خروج المرأة من بيتها مستعطرة
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ)). (24)
- ومن المحقرات مصافحة الرجال للنساء غير المحارم
عن مَعْقِل بْن يَسَارٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ)). (25)
- ومن المحقرات التفريط في صلاة الجمعة بغير عذر
فالتفريط في صلاة الجمعة وتركها كسلا أو نوما من غير عذر من المهلكات والكثير من المسلمين لا يدري، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلاَثَ مِرَارٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ)). (26)
نظر المؤمن إلى الذنوب
لما علم الصالحون السابقون بخطر الذنب صغر أو كبر فروا من ذلك؛ بل كانوا يرون فعل الصغيرة كبيرة، فعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ المُوبِقَاتِ. قَالَ البخاري: يَعْنِي بِذَلِكَ المُهْلِكَاتِ.(27) وقد بوَّب البخاريُّ على هذا الأثر بقوله: باب ما يُتَّقى من محقَّرات الذُّنوب
فالأمر خطير جداً يستحق الوقوف عنده كثيراً والتفكير فيه طويلاً، ذلك أن المؤمن يحاسب نفسه ويرى عظم ما ارتكب من خطأ، فعن عبدالله بن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قال: إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا، قَالَ أَبُو شِهَابٍ: بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ". (28)
قَالَ ابن بَطَّالٍ -رحمه الله-: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ عَظِيمَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُعَذِّبُ عَلَى الْقَلِيلِ فَإِنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (29)
بل كلما زاد تعظيم الخالق في النفوس رأى المؤمن ما ليس ذنبا ذنبا مهلكا فهذا ثابت بن قيس بن شماس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، خطيب الأنصار كان من عادته أنه يرفع صوته أثناء الكلام فلما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فجَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ، وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: «يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا شَأْنُ ثَابِتٍ؟ اشْتَكَى؟ » قَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَجَارِي، وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى، قَالَ: فَأَتَاهُ سَعْدٌ، فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ». (30)
فالجزاء من جنس العمل خاف الله في الدنيا خوفاً أقعده عن الخروج من بيته فجازاه الله بالأمن من هذا الخوف في الدنيا قبل الآخرة.
وهذا مثال آخر لتعظيم الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم-، لحرمات الله، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ، وَقَالَ: (( يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ ))، فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: لَا وَاللهِ، لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. (31)
قال النووي -رحمه الله-: فِيهِ الْمُبَالَغَة فِي اِمْتِثَال أَمْر رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، وَاجْتِنَاب نَهْيه وَعَدَم التَّرَخُّص فِيهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الضَّعِيفَة. (32)
- سهام الذنوب مسمومة تمرض القلوب وربما تميتها
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ )). {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. (33)
قال ابن القيم -رحمه الله-: وَالذُّنُوبُ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ السُّمُومِ، إِنْ لَمْ تُهْلِكْهُ أَضْعَفَتْهُ، وَلَا بُدَّ وَإِذَا ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاوَمَةِ الْأَمْرَاضِ، قَالَ طَبِيبُ الْقُلُوبِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ -رحمه الله-:
رَأَيْت الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ. . . وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ. . . وَخَيْرٌ لِنَفْسِك عِصْيَانُهَا(34)
- وأخيرا: كل بني آدم خطاء وخيرهم من سارع بالتوبة
من طبيعة الخلق أن يذنبوا ويخطئوا ويقصروا فكل بني آدم خطاء وخيرهم من يسارع إلى التوبة، فعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ )). (35)
من الذي ما أساء قط. . . ومن له الحسنى فقط
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ)). (36)
وأبواب التوبة مفتوحة حتى تطلع الشمس من مغربها، أو ما لم يغرغر العبد وتبلع الروح الحلقوم والأدلة على ذلك واضحة لا تحتاج إلى بيان.
يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً. . . فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ
إِنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ إِلا مُحْسِنٌ. . . فَمَنِ الَّذِي يَدْعُو وَيَرْجُو الْمُجْرِمُ
أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا. . . فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمن ذَا يرحم
مَالِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلا الرَّجَا. . . وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ(37)
---
(1) شرح القسطلاني (9/ 282)
(2) رواه البخاري (2365) ومسلم (2242)
(3) رواه أحمد (6/ 70) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 521)
(4) رواه أحمد (1/ 402) وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 523)
(5) فيض القدير (3/ 127)
(6) رواه أحمد (5/ 331) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 744)
(7) فتح الباري لابن حجر (11/ 330)
(8) الداء والدواء (ص: 51)
(9) شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 203)
(10) الداء والدواء (ص: 50)
(11) رواه مسلم (2812)
(12) مواعظ الصحابة لعمر المقبل (ص: 258)
(13) الفوائد لابن القيم (ص: 63)
(14) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 20)
(15) رواه أبو داود (4875) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 914)
(16) فيض القدير (5/ 411)
(17) رواه البخاري (6478)
(18) رواه أحمد (2/ 323) وأبو داود (4901) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 821)
(19) رواه البخاري (6056) ومسلم (105)
(20) رواه البخاري (218) ومسلم (292)
(21) الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 37)
(22) رواه البخاري (5787).
(23) رواه مسلم (106)
(24) رواه أبو داود (4173) والنسائي (9361) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 525)
(25) رواه الطبراني (486) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 900)
(26) رواه أحمد (3/ 332) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1058)
(27) رواه البخاري (6492)
(28) رواه البخاري (6308).
(29) فتح الباري لابن حجر (11/ 106)
(30) رواه البخاري (4846) ومسلم (119) من حديث أنس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-.
(31) رواه مسلم (2090 )
(32) شرح النووي على مسلم (14/ 65)
(33) رواه أحمد (2/ 297) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 343)
(34) زاد المعاد (4/ 186)
(35) رواه الترمذي (2499) وابن ماجه (4251) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 831)
(36) رواه مسلم (2749)
(37) الثبات عند الممات لابن الجوزي (ص: 167)