خطبة: اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا (سلسلة الواعظ عدد شعبان 1437هـ)

2016-05-12

اللجنة العلمية

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا

أقسام الناس في الهموم

حقيقة الدنيا ولذتها وحقيقة الآخرة ولذتها

جزاء الفريقين

أي الهمين نحمله

إن التفاوت بين الناس في اهتماماتهم وأعمالهم ومصائرهم سنة كونية ماضية إلى يوم القيامة، قال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4]، وقال {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، وقال {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30]

وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يدرك الناس أن الله تعالى خلق الدارين الدنيا والآخرة وجعل بينهما تعلقا وارتباطا، فجعل الدنيا دار عمل واكتساب فهي وسيلة لا تقصد لذاتها، وجعل الآخرة دار جزاء وثواب فهي غاية يُقدِّم العبد في الدنيا ما يكون سببا في نجاته فيها.

أقسام الناس في الهموم

وإذا كان الإنسان لابد له من هم يحمله فإن المتأمل في حال الناس يجدهم أنهم قد انقسموا في هِممهم واهتماماتهم وهمومهم إلى صنفين.

الصنف الأول: صاحب هم دنيوي والصنف الآخر: صاحب هم أخروي

وقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذين الصنفين فقال: من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة. (1)

1- صاحب هم الدنيا

فأما صاحب الهموم الدنيوية فإنه ذلك الرجل الذي ملكت الدنيا عليه قلبه فلا يفكر إلا فيها ولا يعمل إلا لها ولا يتكلم إلا في شأنها ولا يهتم إلا بأعراضها الزائلة عقارات سيارات شركات مباريات نساء طعام شراب. . . إذا صلى يصلي نقرا وإذا تصدق يتصدق رياء وإذا صام يصوم عادة يقدم رأيه على القرآن ويقدم هواه على السنة والله تعالى يقول: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]

وإن هذا الصنف هو الذي دعا عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ.(2)

وصاحب هذا الهم له عقوبات ثلاث

بينها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. (3)

العقوبة الأولى: تشتت الشمل فهو مضطرب البال قلق الفكر غير موفق البركة منزوعة من وقته وماله يعيش خادما لدنياه لاهثا وراءها لا يجد طاعة في زوجه ولا برا في ولده لا يشعر بالسعادة وراحة البال وإن كان ذا مال وعيال.

العقوبة الثانية: يخشى الفقر دائما ولا يقنع بما أعطاه الله الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: لذلك كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا. (4)

العقوبة الثالثة: أنه دائم الطلب للدنيا وهي دائمة الهروب منه ولا يحصل منها إلا ما كتبه الله له.

2- صاحب هم الآخرة

هو ذلك الذي انشغل بالله عمن سواه يأخذ من الدنيا ما ينفعه في الآخرة يراقب الله في سره وعلانيته يفرح لله ويغضب لله ويسخط لله ويغضب لله، يتمثل الجنة أمامه فيسلك طريقها، ويتمثل النار أمامه فيبحث عن مهرب منها، إذا أراد أن يفعل شيئا نظر هل لله فيه حكم فإذا أذن الله فيه أقدم وإذا نهى الله عنه تراجع وامتنع، يعبد ربه بين الخوف والرجاء دائم التوبة سريع الأوبة.

وهذا الصنف قد أنعم الله عليه بثلاث منح:

المنحة الأولى: يجعل الله غناه في قلبه؛ قال -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ. (5)

فصاحب الهم الأخروي يعيش مرتاح البال هادئ النفس راض بما قسمه الله له صابر على ما أصيب به يعلم أن قدر الله كله خير له، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. (6)

إن غنى النفس عزيز في دنيا الناس، شريف بينهم؛ لأنه قد استعف بغناه عما في أيدي الآخرين، وهذا الصنف من الناس مؤيد من الله فهم أهل توفيق الله تعالى وأهل معيته؛ قال ابن القيم: إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل ما أهمه. (7)

المنحة الثانية: أن يجمع الله له شمله، وجمع الشمل: هو الاجتماع بكل ما يعنيه من عموم، يجمع الله على صاحب الهم الأخروي قلبه، وفكره، ومقصده، وأهله، وولده، وقريبه، وصديقه، وماله، وتجارته، ويجمع الله عليه القلوب، ويكتب له القبول، فيجتمع لهذا العبد كل ما يحيط به من أمور الخير جميعا.

عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: " إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ. (8)

المنحة الثالثة: مجيء الدنيا له، وهي راغمة، فيأتيه رزقه من حيث لا يحتسب، ويجعل له ربه من كل أمر يسرا، فيوفق في دنياه، من غير مسألة ولا إشراف نفس.

إن صاحب الهم الأخروي قد كافأه ربه بنظير قصده، فلما جرد همه للآخرة، كفاه الله هم دنياه، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

لقد عاش الصحابة الكرام حياة الفقر والحاجة والخوف حتى ظهر هذا الدين وفتحت عليهم الدنيا لكنها كانت في أيديم ولم تكن في قلوبهم؛ روى الإمام مسلم من حديث عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ قال: وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ، حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا، فَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا، فَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَصْبَحَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ فِي نَفْسِي عَظِيمًا، وَعِنْدَ اللهِ صَغِيرًا، وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا تَنَاسَخَتْ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَاقِبَتِهَا مُلْكًا، فَسَتَخْبُرُونَ وَتُجَرِّبُونَ الْأُمَرَاءَ بَعْدَنَا. (9)

وليكن معلوما أن حمل هم الآخرة لا يعني انعزال العبد عن حياة الناس، فيترك إجابة الدعوة، ويهجر زيارة الصديق والقريب، ويتقوقع في صومعته ورهبنته، هذا تصور خاطئ قاصر؛ بل إن صاحب الهم الأخروي، يجتهد في صلة الرحم، وإجابة الدعوة، ومخالطة الناس، والصبر على أذاهم، ويسعى في إصلاح ما فسد؛ لأنه يعلم أن تلك الأعمال درجات وحسنات في ميزانه يوم الآخرة.

حمل هم الآخرة، لا يعني أن يكون صاحبه مكفهر الوجه، دائم العبوس، فهذا قدوتنا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم- أعظم من هم لآخرته، كان يضاحك ويمازح، ويداعب ويلاعب، ولكل مقام مقال، ومن مأثور قوله: تبسمك في وجه أخيك صدقة. (10) (11)

حقيقة الدنيا ولذتها وحقيقة الآخرة ولذتها

حقيقة الحياة الدنيا

1- متاعها قليل وهي سريعة الزوال

قال تعالى {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]

قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]

2- وهي دار غرور

{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]

{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]

3- هي دار عمل ومزرعة للآخرة

قال تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]

4- إيثار الدنيا على الآخرة سبيل الهلاك قال تعالى { فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 39]

وقال تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)} [محمد: 36].

وإن الذم الوارد في حق الدنيا ليس راجعا لذاتها وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة على غير منهج الله ورسوله من كفر وشرك، وبدع وضلال، وسرقة وظلم، وقتل وفساد ونحو ذلك مما لا يحبه الله ولا رسوله.

فالدنيا لها حالتان:

- تارة تكون فتنة تلهي صاحبها عن الله والدار الآخرة فهي مذمومة.

- وتارة تكون زاداً إلى الآخرة، وعوناً للإنسان للاستقامة على الدين، فهي بهذا نعمة محمودة، ونعم المال الصالح للرجل الصالح.

لذة الدنيا

لذات الدنيا ثلاثة أقسام

أحدها: لذة تعقب ألما أعظم منها، أو تفوت لذة أكبر منها، وهذه لذات العصاة الغافلين على اختلاف طبقاتهم كالمتلذذين بالزنا وشرب الخمر والسرقة ونحوهم، وهم الذين يقال لهم يوم القيامة {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]

الثانية: لذة لا تعقب ألما في الآخرة ولكن الانهماك بها يفوت تبوأ المنازل العالية ويشغل عن تحصيل الأجر وهي لذات الغافلين المباحة التي لا يستعينون بها على الخير ولا يحتسبون بها ثوابا عند الله فهي خالية من نية العبادة ومعناها كالتوسع في المآكل والمشارب والمراكب والمنازل والسفر والسياحة وما شابه ذلك مما ليس فيه ضرر ولا ارتكاب محرم.

الثالثة: لذة يثاب العبد عليها، وهي لذة خواص المؤمنين الذين يتمتعون بها على وجه القيام بواجب النفس وعلى وجه الاستعانة بها على طاعة الله، وعلى وجه الانكفاف بها عن معاصي الله.

وبهذه المقاصد الجليلة تكون من قسم الطاعات، وهي التي قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا. (12) ومن حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ. (13)

فبين في الحديث أن التمتع بهذه الشهوات على وجه الحمد لله والاعتراف بفضله وقصد الانكفاف بها عن الحرام أجر وثواب عند الله؛ فلله الحمد على منته. (14)

حقيقة الآخرة ولذتها

1- الآخرة هي الحياة الحقيقية وهي دار البقاء، قال تعالى {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، وقال { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال: 24]

2- نعيمها دائم لا ينقطع {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35]

3- لذة الآخرة تختلف عن لذات الدنيا

أ- فهي لذة صافية {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15]

ب- وهي لذة لا تبلغها التصورات ولا التخيلات؛ قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]

جـ - وأعظم لذات الآخرة لذة النظر إلى وجهه سبحانه:

عَنْ صُهَيْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ. (15)

وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ"(16)

لذة دائمة: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35]

جزاء الفريقين

لقد ذكر الله تعالى جزاء طلاب الدنيا وطلاب الآخرة في أوجز عبارة وأعجز أسلوب فقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]

قال ابن كثير: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ } أي: عمل الآخرة { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } أي: نقويه ونعينه على ما هو بصدده، ونكثر نماءه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما يشاء الله {َ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} أي: ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا، وليس له إلى الآخرة همة ألبتة بالكلية، حرمه الله الآخرة والدنيا إن شاء أعطاه منها، وإن لم يشأ لم يحصل له لا هذه ولا هذه، وفاز هذا الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة. (17)

أي الهمين نحمله

إن نصوص الشرع قد تظاهرت على تصحيح المفاهيم وبيان حقيقة الدنيا وقدرها وحقيقة الآخرة وقدرها وإلى أيتهما يصرف الناس هممهم وعزائهم.

قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77]

وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]

وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18]

وقال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 200 - 202]

ولقد ربي النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على حمل هم الآخرة وعدم التعلق بزينة الحياة الدنيا أو الإعجاب بها أو التأسف على فواتها وقد دل على ذلك جمل من الأحاديث النبوية منها:

- دخل عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو نائم على حصير قد أثر في جنبه الشريف فقال له: ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ، وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا. (18)

- ولما أصاب كان المسلمون يحفرون الخندق فأصابهم البرد والجوع والنصب فلما رأى النبي ما بهم ذكرهم يرجون الآخرة لا الدنيا؛ عن أنس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الخَنْدَقِ، فَإِذَا المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالجُوعِ، قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ، فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا. . . عَلَى الجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا (19)

- وعن البَرَاءِ بْنَ عَازِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-مَا، قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، بِثَوْبٍ مِنْ حَرِيرٍ فَجَعَلُوا يَعْجَبُونَ مِنْ حُسْنِهِ وَلِينِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الجَنَّةِ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا. (20)

وبعد هذا كله يبقى أن نسأل أنفسنا ما هو الهم الأول الذي يسيطر على حياتنا، وهو الهم الذي يسميه النبي -صلى الله عليه وسلم- الهم الأكبر، وذلك في قوله: وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا.(21)

هل هذا الهم من هموم الدنيا أم من هموم الآخرة؟ حاول أن تكتب الهموم التي تهمك في ورقة، وانظر أهمها لديك، وأكثرها شغلاً لبالك، ثم انظر كم من هذه الهموم للدنيا وكم منها للآخرة،

من أراد أن يعرف الهم الأكبر الذي يشغله فلينظر في أحواله:

- ما الذي يفكر فيه قبل نومه أو في صلاته؟ - ما الذي يفرحه ويحزنه؟

- وما الذي يغضبه؟ - ما هي أمنياته؟

- وبماذا يدعو الله في سجوده؟ - وما الذي يراه في منامه وأحلامه؟

- ما الأمر الذي يؤثر تأثيراً مباشراً في قراراته كاختيار الزوجة ومكان السكن، هل هو الجمال وإيجار الشقة أم الدين والجوار من المسجد؟ وهكذا. . .

إن التبصر في ذلك كله يدلك على الهم الأول أو الأكبر في حياتك، فتعرف حينذاك أنك ممن أهمته دنياه أو أخراه. . (22)

---

(1) أخرجه ابن ماجه: (4105)، وأحمد في المسند (21630)، وقال الألباني: صحيح، انظر السلسلة الصحيحة: 1/ 760، برقم: 404.

(2) أخرجه البخاري (2887).

(3) أخرجه ابن ماجه: (4105)، وأحمد في المسند (21630)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6510)

(4) أخرجه الترمذي (3502).

(5) أخرجه البخاري (6446)، ومسلم (1051)

(6) أخرجه مسلم (2999)

(7) الفوائد لابن القيم (ص: 84)

(8) أخرجه البخاري (3209)، ومسلم (2637)

(9) أخرجه مسلم (2967)

(10) أخرج البخاري في الأدب المفرد (891)، والترمذي (1956)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2908)

(11) انظر: هم الآخرة وهموم الدنيا، الشيخ إبراهيم بن صالح العجلان

(12) أخرجه مسلم (2734)

(13) أخرجه مسلم ( 1006 ).

(14) انظر مجموع الفوائد لابن سعدي (ص: 234)

(15) أخرجه مسلم (181)

(16) أخرجه النسائي (1304)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1301)

(17) تفسير ابن كثير (7/ 198)

(18) أخرجه البخاري (2468)

(19) أخرجه البخاري (2834)، ومسلم (1805) مختصرا

(20) أخرجه البخاري (3249)

(21) أخرجه الترمذي (3502)

(22) انظر حياتنا بين هموم الدنيا والآخرة د. منقذ بن محمود السقار

عدد المشاهدات 10717