بدايتها استحسان وآخرها اقتتال
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد -صلّى الله عليه وسلّم- وبعد.
فإن أمر البدعة خطير وخطرها عظيم وشؤمها على الأمة كبير ،فهي حدث في الدين وافتراق بين المسلمين ومخالفة للدين القويم وتشريع لم يأذن به أحكم الحاكمين فلا عجب أن يتفرع منها كل إضلال وشقاق بين المسلمين.
تبدء باستحسان عمل وقد يكون فيه منفعة ظاهرة للدين وقصد القائم به الزلفى من رب العالمين لكنه بعيد عن الشرع المتين، أو أتى بوصف محدث لعمل أصله ثابت في الدين ، ثم يتولد من هذا العمل اعتقاد نفعه والتقرب بذكره ومعاداة من يعاديه وموالاة من يدانيه، ومع مرور الزمان يصير مذهبا وطريقة في الدين حتى تكون جماعة تشق صفوف المسلمين وترفع عليهم السيف وترى التقرب بدماء المؤمنين
وفي العصر الأول من خير قرن مر على البشرية حدثت بدعة تنبَّه لها الصحابة وبينوا زيفها حتى نكون على بينة مما سيحدث في أزمان الخيانة ونقض المواثيق.
قال عمرو بن سلمة : كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد, فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: بعد لا, فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعا فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته- ولم أر والحمد لله إلا خيرا- قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: ما رأيت؟ قال: رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة, في كل حلقة رجل, وفي أيديهم حصا فيقول: كبروا مائة, فيكبرون مائة, فيقول: هللوا مائة, فيهللون مائة, ويقول: سبحوا مائة, فيسبحون مائة, قال: فماذا قلت لهم قال: ما قلت لهم شيئا انتظار رأيك، وانتظار أمرك, قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم؟!، ثم مضى, ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصا نعد به التكبير والتهليل والتسبيح, قال: فعدوا سيئاتكم, فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء, ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم, هؤلاء صحابة نبيكم -صلّى الله عليه وسلّم- متوافرون, وهذه ثيابه لم تبل, وآنيته لم تكسر, والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير, قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه, إن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- حدثنا أن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم.
قال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الخلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج.(1)
البدأ تسبيح وذكر واجتماع على عمل ظنوه خيرا ولم يدققوا أهو مما سنه رسول الله أم لا، فلم يعرضوا عملهم على الميزان القويم ، بل اتبعوا أهواءهم وساروا خلف طاغوت المصالح الموهومة كحال كل المارقين لا يعظمون الدليل بقدر ما يعظمون أقوالهم ولا يحترمون الرسول كاحترامهم أئمتهم وإن نادوا بحبهم للرسول وصلاتهم عليه لكن الرسول قال لهم : ألا سحقا ألا سحقا .....
ثم كانت النهاية يقاتلون الصحابة ومن كان معهم ويطعنون في كل من لم يوافقهم ، بل كان قتالهم لهم شديدا وبغضهم منهم عنيفا حتى استباحوا الدماء وقتلوا النساء والأطفال ولم يسلم منهم إلا من لم يدخل في الإسلام ، هل وقع في خلد أحد أن هؤلاء المسبحين والمصلين ومن وقف بجوارك في صف واحد وصلى معك في المساجد أن يأتي عليه يوم ليكون أعدى أعدائك ؟! لماذا تغير الحال وافترق الصف وطال! إنها البدعة أم الضلال
قد زين لهؤلاء أعمالهم السيئة فظنوها حسنة، بل هي الدين الحق والقائمون به أهل الصدق فإن قتل إمامهم أحدًا فهو محق
ذكر الشاطبي في كتابه الاعتصام جملة وافرة من أفعال المبتدعة فمن ذلك ما ذكره عن الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ:
أَنَّ عبادة بن قرط غزا مرّة فَمَكَثَ فِي غَزَاتِهِ تِلْكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثم رجع حتى إذا كان قريباً من الأهواز سمع صوت أذان، فقال: والله ما لي عهد بالصلاة مع جماعة الْمُسْلِمِينَ مُنْذُ زَمَانٍ، فَقَصَدَ نَحْوَ الْأَذَانِ يُرِيدُ الصلاة فإذا هو بالأزارقة ـ وهم صنف من الخوارج ـ فلما رأوه قالوا له مَا جَاءَ بِكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنْتُمْ يَا إِخْوَتِي؟ قَالُوا: أَنْتَ أَخُو الشيطان لنقتلك، قال: أما تَرْضَوْنَ مِنِّي بِمَا رَضِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- مني، قَالُوا: وَأَيُّ شَيْءٍ رَضِيَ بِهِ مِنْكَ؟ قَالَ: أتيته وأنا كافر فشهدني أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ رَسُولُ الله -صلّى الله عليه وسلّم-، فخلَّى عَنِّي ـ قَالَ : فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ.(2)
إن محنة المسلمين من المبتدعة عظيمة فكم عانى العلماء منهم وتفرقت الأمة بسوء قصدهم وشمت فينا العدو من صنيعهم ، كلما تقدم أهل السنة خطوة في الدعوة لدين الله ردنا هؤلاء ألف خطوة، وكلما نشر الأخيار سنة أقاموا أمامها البدعة
هم عند العامة علينا محسوبون وفي الحقيقة علينا جائرون ولنا محاربون وفي عرضنا واقعون وعلى عداوتنا قائمون .
فاللهم اهد عبادك إلى اتباع هدي نبيك ومجانبة سخطه ومخالفته، آمين
كتبه
أحمد بن سليمان
---
(1) سنن الدارمي (222).
(1) الاعتصام (3/160)