الإسلام دين الوسطية
عناصر الخطبة:
1- مقدمة. 2- حقيقة الوسطية. 3- مظاهر الوسطية في الإسلام. 4- كيف نحقق الوسطية.
مقدمة: تعدُّ الوسطية من أعظم الخصائص التي تميزت بها الأمة الإسلامية، الوسطية بمفهومها الشامل المرتكز على معنى الخيرية والعدالة والبيِّنية، واستمدتها من منهج الإسلام ونظامه، وهو منهج الوسط والاعتدال والتوازن، الذي اختاره الله شعارا مميزا لهذه الأمة التي هي آخر الأمم، وللرسالة التي ختمت بها الرسالات { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]
قال الأستاذ إيرفنج، الأستاذ بجامعة (تنسي) الأمريكية، حينما وقف مخاطباً تجمعاً للمسلمين في مدينة (جلاسجو) ببريطانيا منذ سنوات، قال: إنكم لن تستطيعوا أن تنافسوا الدول الكبرى علمياً، أو تقنياً، أو اقتصادياً، أو سياسياً، أو عسكرياً، ولكنكم تستطيعون أن تجعلوا تلك الدول تجثو على ركبها أمامكم بالإسلام.
أفيقوا من غفلتكم لقيمة هذا النور الذي تحملون، والذي تتعطش إليه أرواح الناس في مختلف جنبات الأرض! تعلموا الإسلام وطبّقوه، واحملوه لغيركم من البشر تنفتح أمامكم الدنيا، ويَدِنْ لكم كل ذي سلطان. أعطوني أربعين شاباً ممن يفهمون هذا الدين فهماً عميقاً، ويطبقونه على حياتهم تطبيقاً دقيقاً، ويحسنون عرضه على الناس بلُغةِ العصر وأسلوبه وأنا أفتح بهم الأمريكتين. (1)
إنها الأمة الوسط بكل ما تحويه الكلمة من معانٍ
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- بِخَصَائِصَ مَيَّزَهُ بِهَا عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَجَعَلَ لَهُ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، أَفْضَلَ شِرْعَةٍ وَأَكْمَلَ مِنْهَاجٍ.
كَمَا جَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَهُمْ يُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً هُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ، هَدَاهُمُ اللَّهُ بِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ قَبْلَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ وَسَطًا عَدْلًا خِيَارًا. (2)
ما هي حقيقة الوسطية؟
الوسطية هي المنهج الرباني الذي ينسجم مع الفطرة الإنسانية.
الوسطية هي: تحقيق لمبدأ التوازن الذي تقوم عليه سنة اللَّه في خلقه. (3)
الوسطية هي: اتباع النصوص، لا اتباع الأهواء ولا الآراء.
الوسطية هي: كون الإنسان في دائرة المشروع لا إفراط ولا تفريط.
قال الأوزاعي -رحمه الله-: ما من أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ به، إلا عارض الشيطانُ فيه بخصلتين، ولا يبالى أيهما أصاب: الغلو، أو التقصير. (4)
الوسطية هي: حق بين باطلين، وصواب بين خطأين، وخير بين شرين، واعتدالٌ بين طرفين؛ ذلك أن صراط الله مستقيم، وسبل الضلالة تتشعب عن يمينه وشماله؛ فمن كان على ذلك الصراط المستقيم فهو على الوسطية الربانية.
الوسطية: ليست مصطلحاً مطّاطاً يُطوِّعُهُ كلُّ أحدٍ لتبرير ما يراه، ويفعله.
الوسطية: هي الرّاجح دليلاً من الكتاب والسنة، والضعيفُ والشاذّ ليس من الوسطية في شيء.
الوسطية: ليست اتهام المخالف بالتطرُّف والتشدُّد؛ لمجرّد أنه يخالفُ ما أراه.
الوسطية: هي يُسر الإسلام، وليس اليُسرُ معناه: أسهل الأقوال وأخفّها، بل أرجحها وأقواها وأتقاها.
الوسطية: لا تعني تلميعَ ديننا في عيون غير المسلمين، بل الاعتزازَ به، والافتخارَ بأحكامه، رضيَ من رضيَ وسخِط من سخِط.
الوسطية: هي تحرّي مرضاة الله، وموافقة مقاصد شريعته، والتمسُّك بما هو الأرجح دليلاً مرادُهُ في نصوص الوحيَين.
الوسطية: هي نشوءُ أجيالٍ من رجالٍ يسيرون على درب الرجال الأوائل، يُتمّون ما بدأوا، ويكملون ما به شرعوا، دون غلو فيهم أو جفاء لهم.
- بعض مظاهر الوسطية في الإسلام
- ففي باب الاعتقاد
نجد الإسلام وسطا بين الملل، فلا إلحاد ولا وثنية، لا عبادة الأصنام، ولا عبادة الأحجار التي استهوت اليوم أزيد من ثلث سكان العالم، بل عبادة خالصة لله تعالى، على الوجه المشروع، الذي دل عليه الدليل الصحيح، في ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته، من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل. { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]
- وسطية الإسلام في الأنبياء
المسلمون وسَط في اعتقادهم بأنبياء الله، يؤمنون بهم جميعا، لا يفرقون بين أحد منهم، ولكنهم يجزمون بأن نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- خاتمتُهم، والمأمورُ باتباعه بعد بعثته دون سواه.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، مَا حَلَّ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي )). (5)
والمسلمون لا يغلون في نبيهم غلو النصارى في عيسى عليه السلام، ولا يجفون عنه جفاء اليهود لأنبيائهم، انطلاقا من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ». (6)
فالإسلام وسط بين الذين عظَّموا الأنبياء وقدَّسوهم ورفعوهم فوق منزلتهم حتى جعلوهم آلهة، أو أبناء لله، وبين الجفاة الذين كذبوهم وأهانوهم، بل عذبوهم وقتلوهم، بل في الوقت الحاضر بعضهم يقولون: إنهم مجرد مصلحين اجتماعيين، أو هم مصلحون في أوقاتهم فحسب، أما الآن فما أتوا به غير مناسب لهذا الوقت!.
- وفي باب القضاء والقدر
فإن الإسلام وسط بين المغالين الذين يجعلون العبد مجبورا على فعله، والمفرطين الذين يجعلونه خالق أفعاله، لينطلقوا بعد ذلك إلى الحكم على الناس بالتكفير والإخراج من الملة، بمجرد أفعال صدرت من هذا أو ذاك، وإن لم يستحلوها.
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ». قَالَهَا ثَلَاثًا. (7)
لاَ تَذْهَبَنَّ فِي الأُمُورِ فَرَطَا لاَ تَسْأَلَنَّ إِنْ سَأَلْتَ شَطَطَا
وَكُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا وَسَطَا
- وسطية الإسلام في العبادة:
الإسلام وسط في عباداته وشعائره بين الأديان والنحل التي ألغت الجانب " الرباني " ــ جانب العبادة والتنسك والتأله ــ من فلسفتها وواجباتها، كالبوذية التي اقتصرت فروضها على الجانب الأخلاقي الإنساني وحده. .
وبين الأديان والنحل التي طلبت من أتباعها التفرغ للعبادة والانقطاع عن الحياة والانتاج، كالرهبانية المسيحية.
فالإسلام يكلف المسلم أداء شعائر محدودة في اليوم كالصلاة، أو في السنة كالصوم، أو في العُمُر مرة كالحج، ليظل دائما موصولا بالله، غير مقطوع عن رضاه، ثم يطلقه بعد ذلك ساعيا منتجا، يمشي في مناكب الأرض، ويأكل من رزق الله.
إن تشريع الله في العبادة، تشريع متوسط معتدل، بين الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلَوَاتِ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا. (8) أي: كانت معتدلة، وسطًا بين الطول والقصر.
ولعل أوضح دليل يذكر هنا: الآيات الآمرة بصلاة الجمعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9، 10]
فهذا شأن المسلم مع الدين والحياة حتى في يوم الجمعة: بيع وعمل للدنيا قبل الصلاة، ثم سعي إلى ذكر الله وإلى الصلاة وترك للبيع والشراء وما أشبهه من مشاغل الحياة، ثم انتشار في الأرض وابتغاء الرزق من جديد بعد انقضاء الصلاة، مع عدم الغفلة عن ذكر الله كثيرا في كل حال، فهو أساس الفلاح والنجاح.
- وسطية الإسلام في التشريع:
لا شك أن التشريع الإسلامي، هو التشريع الوسط والأكمل بين الشرائع. . . . ففي التشريع الإسلامي، موازنة دقيقة بين التكليف وبين الاستطاعة، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، والمشقة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات. (9)
تشريعٌ وسط في التحليل والتحريم بين اليهودية التي أسرفت في التحريم، وكثرت فيها المحرمات، مما حرمه إسرائيل على نفسه، ومما حرمه الله على اليهود، جزاء بغيهم وظلمهم كما قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160، 161]
وبين المسيحية التي أسرفت في الإباحة، حتى أحلت الأشياء المنصوص على تحريمها في التوراة، مع أن الإنجيل يعلن أن المسيح لم يجيء لينقض ناموس التوراة، بل ليكمله.
فالإسلام قد أحل وحرَّم، ولكنه لم يجعل التحليل ولا التحريم من حق بشر، بل من حق الله وحده، ولم يحرم إلا الخبيث الضار، كما لم يحل إلا الطيب النافع. ولهذا كان من أوصاف الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند أهل الكتاب أنه: { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [الأعراف: 157]
تشريعٌ وسط بين طرفين: 1- طرف كلَّف النفوس ما لا تطيق، حتى جعلوا تعمد إضناء الجسد بالجوع والعطش عبادة، والمشي بدون نعل قربى، والمكوث تحت حرارة الشمس مجاهدة، والاستنكافَ عن الطيبات تربية، والله تعالى يقول: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 32].
وقال إمام المرَبِّين -صلى الله عليه وسلم-: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ)). (10)
قال ابن حجر-رحمه الله-: لَا يَتَعَمَّقُ أَحَدٌ فِي الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ وَيَتْرُكُ الرِّفْقَ إِلَّا عَجَزَ وَانْقَطَعَ فَيُغْلَبُ. (11)
2- وطرف أحلَّ ما حرَّم الله، وحكَّم العقل القاصر في أحكام الشريعة الربانية، وحكم على بعضها بالتخلف عن معطيات العصر، وعجزها عن مسايرة الركب.
وَلاَ تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ كِلاَ طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمورِ ذَمِيمُ
- والتشريع الإسلامي وسط في شؤون الأسرة
فلن تجد أعظم من الإسلام وسطية واعتدالا، فللرجل حقوقه، وللمرأة حقوقها، وللزوج حقوقه، وللزوجة حقوقها، وللآباء حقوقهم، وللأبناء حقوقهم، وللإخوة حقوقهم، وللأقارب حقوقهم، وللجيران حقوقهم، كل ذلك في إطار من التوازن، يضمن تماسك المجتمع، ويحقق التكامل بين أفراده. قال تعالى: ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].
وأقرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قول سلمان لأبي الدرداء -رضي الله عنها-: (( إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)). (12)
تشريع وسط بين الذين شرعوا تعدد الزوجات بغير عدد ولا قيد، وبين الذين رفضوه وأنكروه ولو اقتضته المصلحة وفرضته الضرورة والحاجة.
فقد شرع الإسلام هذا الزواج بشرط القدرة على الإحصان والإنفاق، والثقة بالعدل بين الزوجتين، فإن خاف ألا يعدل، لزمه الاقتصار على واحدة. كما قال الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]
- تشريع وسط في الطلاق
بين الذين حرموا الطلاق، لأي سبب كان، ولو استحالت الحياة الزوجية إلى الجحيم لا يطاق، كالكاثوليك، وقريب منهم الذين حرموه إلا لعلة الزنا والخيانة الزوجية كالأرثوذوكس. . وبين الذين أرخوا العنان في أمر الطلاق، فلم يقيدوه بقيد، أو شرط، فمن طلب الطلاق من امرأة أو رجل كان أمره بيده، وبذلك سهل هدم الحياة الزوجية بأوهى سبب، وأصبح هذا الميثاق الغليظ أوهى من بيت العنكبوت.
إنما شرع الإسلام الطلاق، عندما تفشل كل وسائل العلاج الأخرى، ولا يُجدي تحكيم ولا اصلاح، ثم إذا وقع الطلاق يستطيع المطلق مرة ومرة أن يراجع مطلقته ويعيدها إلى حظيرة الزوجية من جديد. كما قال تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]
- وسطية الإسلام في منهج الدعوة
وهو منهج قائم على الاعتدال أساسه الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، عماده اللين والرفق في غير ضعف، وفي الوقت ذاته الجدال بالتي هي أحسن للإقناع وإقامة الحجة، ثم الجلاد لمن كابر وعاند. ولكن دون إكراه ولا قهر، فمن آمن فله ما لنا وعليه ما علينا، ومن اختار دينه فلا حرج على أن يكف عن المسلمين يده ولسانه قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. (13)
- وسطية الإسلام في جانب الأخلاق:
جاء الإسلام وسطا في أخلاقياته، فلم ينظر إلى الإنسان باعتباره خيرا محضا أو شرا محضا، أي لم يكن تعامله مع الإنسان على أنه ملك أو شيطان. . . وإنما تعامل معه بما يتوافق مع أصل فطرته وطبيعة تكوينه، فهو مخلوق مكلف مختار، صالح للطاعة أو المعصية، فيه الجانب المادي والجانب الروحي، وسأضرب مثالا واحدا على ذلك:
إذا وقع اعتداء على إنسان ما، فإن النصرانية مثلا تدعوه إلى الإفراط في التسامح والعفو، وفي هذا يقول إنجيلهم: (من ضربك على خدك الأيمن فأدِرْ له الخد الأيسر ) ويقول: ( أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم ) ولا شك أنها نظرة مثالية محمودة، ولكنها ليست متوازنة لأن الإنسان بطبيعته وفطرته يميل إلى الدفاع عن نفسه وردِّ الاعتداء الواقع عليه، والانتقام ممن أهانه أو غضَّ من كرامته، فإذا وقع الاعتداء، وطلب منه إلزاما أن يعفو ويصفح، فلا شك أنه سيكبت غضبه وغيظه على كُرهٍ ومضض، وسيحاول التنفيس عن غضبه وغيظه حينما تسنح الفرصة المناسبة.
أما الإسلام، فلأنه دين متوازن وواقعي، فإنه سيأتي وسطا في هذه القضية، بأن يراعي في النفس البشرية نوازع الرغبة في الانتقام والثأر، فأباح للمعتدى عليه أن يرد الاعتداء بمثله فقط، بحيث لا تنتقل المسألة من خانة رد الاعتداء إلى خانة التشفي والظلم، يقول تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ويقول سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]
ولكن الإسلام وهو يبيح ردّ الاعتداء، فإنه يرغِّب في العفو والتسامح، أي أنه يطلب من المعتدى عليه أن يتسامى بغريزة رد الاعتداء إلى مستوى أعلى وأفق أرحب. .
كما بيَّن الإسلام أن العفو والتسامح هو المسلك الأولى والأجدر بالقبول، وذلك في ختام الآية الثانية {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [الشورى: 40]
- ثم يحثُّ الإسلام على السمو إلى منزلة أعلى ومكانة أسمى، وذلك حينما لا يكتفي بالترغيب في العفو، وإنما يرغب في الإحسان إلى المسيء، ومواجهة السيئة لا بسيئة مثلها وإنما بحسنة تزيل أسباب العداوة وتمحو دوافع البغضاء. . (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) ويقول سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 - 36]، ويقول جل شأنه: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، ويقول { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: « وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا ». (14)
وبهذا أقام الإسلام التوازن في خلق المسلم، فلا إفراط ولا تفريط، ولا وكس ولا شطط.
- الوسطية والاعتدال والتوازن بين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة
ووسطية أهل الإسلام المستقيمين على هديه، تبدو في الاعتدال والتوازن بين مطالب الدنيا والنظرة إليها، ومطالب الآخرة والعمل لها، والأخذ بالأسباب المؤدية إلى ذلك، دون إفراط أو تفريط، ودون إسراف أو تقتير، قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]
يقول ابن كثير -رحمه الله-: أَيِ: اسْتَعْمِلْ مَا وَهَبَكَ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ الْجَزِيلِ وَالنِّعْمَةِ الطَّائِلَةِ، فِي طَاعَةِ رَبِّكَ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، الَّتِي يَحْصُلُ لَكَ بِهَا الثَّوَابُ فِي الدار الآخرة. {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أَيْ: مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكَحِ، فَإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حَقًّا، وَلِزَوْرِكِ عَلَيْكَ حَقًّا، فَآتِ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ. (15)
فالإسلام وسط بين من غلا في أمر الدنيا، ولم يهتم بالآخرة، وبين من غلا في أمر الآخرة، ونظر إلى الدنيا نظرة ازدراء وابتعاد. وهكذا التوازن بين مطالب البدن ومطالب القلب.
فقد بلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن ثلاثة رهط، أراد أحدهم أن يصلي الليل أبدًا، وأراد ثانيهم أن يصوم الدهر ولا يفطر، وعزم الثالث على أن يعتزل النساء. . ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقر هذا الاتجاه فبادر بعلاجه، وصحح نظرتهم لتحصيل خشية الله وتقواه؛ فبين أنها ليست بالتضلع من أعمال والتفريط في أخرى، ولكنها تحصل بالموازنة بين جميع مطالب الله، وهذا هو عين الوسطية والحكمة والاستقامة والاعتدال والعدل. (16)
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها بالقسطاس المستقيم، وكان من دعائه: (( اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ)). (17)
فهذا الدعاء النبوي المأثور، يبين موقف المسلم من الدين والدنيا والآخرة، أنه يطلبها جميعا، ويسأل الله أن يصلحها له جميعا، الدين والدنيا والآخرة، إذ لا غنى له عن واحد منها، فالدين عصمة أمره، وملاك حياته، والدنيا فيها معاشه، ومتاعه إلى حين، والآخرة إليها معاده ومصيره.
وهو مثل الدعاء القرآني الموجز الذي كان -صلى الله عليه وسلم- كثيرا ما يدعو به: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]
ومن ذلك الاعتدال في تناول الطيبات:
قال تعالى{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]
وكذلك الاعتدال والتوازن في الإنفاق:
قال تعالى{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]
وقال تعالى{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]
- كيف نحقق الوسطية:
إن ما يحقق الوسطية في المجتمع أمور من تمسك بها فقد حقق الوسطية على الوجه المطلوب، أهمها وأعظمها هو:
- التمسك بكتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فهما الواقيان من الوقوع في الخطأ، والخروج عن الصراط الذي ارتضاه الله لعباده، وارتضاه رسوله -صلى الله عليه وسلم- لأمته، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]
- تأصيل مفهوم الوسطية في النفوس
من خلال المناهج الدراسية، ومنابر المساجد، والبرامج الإعلامية عبر وسائل الإعلام، والندوات. . . الخ.
- الممارسة العلمية الواقعية لمنهج الوسطية من قبل العلماء وطلاب العلم والدعاة، مما يتيح للناس أن يروا القدوة الصالحة التي هم في أمسِّ الحاجة إليها.
- تربية الأمة على هذا المنهج تربية عملية شاملة، مما يقضي على الخلل الموجود في محيط المجتمع المسلم سواء أكان إفراطًا أو تفريطًا. (18)
---
(1) مجلة البيان (167/ 8)
(2) الجواب الصحيح (1/ 69)
(3) وسطية الإسلام - عبد العزيز التويجري (ص: 11)
(4) المقاصد الحسنة للسخاوي(ص: 332)
(5) رواه أحمد (3/ 338) وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 63) من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنها-.
(6) رواه البخاري (3445) من حديث عُمَرَ بن الخطاب -رضي الله عنه-.
(7) رواه مسلم (2670)
(8) رواه مسلم (866).
(9) الأمة الوسط والمنهاج النبوي في الدعوة إلى الله (1/ 72)
(10) رواه البخاري (5861) ومسلم (782) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(11) فتح الباري لابن حجر (1/ 94)
(12) رواه البخاري (1968)
(13) وسطية الإسلام ودعوته إلى الحوار (ص: 17)
(14) رواه مسلم (2588)
(15) تفسير ابن كثير (6/ 254)
(16) الأمة الوسط (1/ 47)
(17) رواه مسلم (2720) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-
(18) الوسطية في ضوء القرآن الكريم لناصر العمر (ص: 362)