باب بستان الواعظين : من الآفات التي تصيب الداعية (2) التقصير فـي عمل اليـوم والليلـة (سلسلة الواعظ عدد جمادى الآخرة 1437هـ)

2016-03-06

اللجنة العلمية

من الآفات التي تصيب الداعية(2)

التقصير فـي عمل اليـوم والليلـة(1)

 من الآفات التي تصيب الداعية التقصير في عمل اليوم والليلة

من الآفات التي تصيب الداعية فتوهن قوته وتضعفه، وربما حرم التوفيق: تقصيره في عمل اليوم والليلة من العبادات.

لا يعقل أن يقصر الداعية في الواجبات، ولكن التقصير قد يكون في نوافل العبادات وذكر الله تعالى، مع أن ذكر الله -عز وجل- من أعظم أسباب قوة الداعية المعنوية والحسية، قال الله تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].

وفي حديث عَليِّ بنِ أبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- أَنَّ فَاطِمَةَ -رضي الله عنها- شَكَتْ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تَجِدْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ، قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْتُ أَقُومُ، فَقَالَ: ((مَكَانَكِ)). فَجَلَسَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي، فَقَالَ: ((أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ؟ إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا، أَوْ أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، فَكَبِّرَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، فَهَذَا خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ))(2)،

وفــي روايـة: ((أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضْجَعَكُمَا سَبَّحْتُمَا اللهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَحَمِدْتُمَاهُ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَكَبَّرْتُمَاهُ أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ))(3).

وإذا كان الداعية يدعو الناس إلى التقرب إلى الله -عز وجل- بما يحب من نوافل

العبادات كالتبكير بالرواح إلى المسجد، والمحافظة على السنن الرواتب القبلية والبعدية، والأذكار المشروعة دُبر كل صلاة، وأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم، والأذكار المطلقة، وأن يكون لسانه رطبًا من ذكر الله، فإن الداعية أولى بذلك وأحق، فليحافظ عليها لفضلها، وما يترتب عليها من الأجر والثواب.

إن ذكر الله تعالى أفضل العبادات، لأن الله تعالى جعل لجل العبادات مقدارا، وجعل لها أوقاتا، ولم يجعل لذكر الله تعالى مقدارا، ولا وقتا وأمر بالكثرة بغير المقدار، قال تعالى: ﴿{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 41]، يعني اذكروه في جميع الأحوال(4).

قال ابن القيم: قال بعض السلف: إذا أصبح ابن آدم ابتدره الملك والشيطان، فإن ذكر الله وكبره وحمده وهلله، طرد الشيطان وتولاه الملك، وإن افتتح بغير ذلك ذهب الملك عنه وتولاه الشيطان.

ولا يزال الملك يقرب من العبد حتى يصير الحكم والطاعة والغلبة له، فتتولاه الملائكة في حياته وعند موته وعند بعثه.

وإذا تولاه الملك تولاه أنصح الخلق وأنفعهم وأبرهم، فثبته وعلمه، وقوى جنانه، وأيده الله تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأنفال: 12]. فيقول الملك عند الموت: لا تخف ولا تحزن وأبشر بالذي يسرك، ويثبته بالقول الثابت أحوج ما يكون إليه في الحياة الدنيا، وعند الموت، وفي القبر عند المسألة.

فليس أحد أنفع للعبد من صحبة الملك له، وهو وليه في يقظته ومنامه، وحياته وعند موته وفـي قبره، ومؤنسه في وحشته، وصاحبه في خلوته، ومحدثه في سره، ويحارب

عنه عدوه، ويدافع عنه ويعينه عليه، ويعده بالخير ويبشره به، ويحثه على التصديق بالحق.

وإذا اشتد قرب الملك من العبد تكلم على لسانه، وألقى على لسانه القول السديد، وإذا بعد منه وقرب الشيطان، تكلم على لسانه، وألقى عليه قول الزور والفحش، حتى يرى الرجل يتكلم على لسانه الملك، والرجل يتكلم على لسانه الشيطان، وكان أحدهم يسمع الكلمة الصالحة من الرجل الصالح فيقول: ما ألقاه على لسانك إلا الملك، ويسمع ضدها فيقول: ما ألقاها على لسانك إلا الشيطان، فالملك يلقي بالقلب الحق ويلقيه على اللسان، والشيطان يلقي الباطل في القلب ويجريه على اللسان(5).

ولقد أمر الله -سبحانه وتعالى- الدعاة بكثرة ذكره، خاصة عند مواجهة المخاوف والمخاطر، فقال لموسى -عليه السلام- وقد كلفه بالذهاب إلى فرعون: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾ [طه: 42]، وقال الله تعالى للمؤمنين عند القتال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45].

لا ينسى الداعية أن يأخذ حظه من قيام الليل، قال الله: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 15- 17]. وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 15- 18]، ولقد فرّق الله -تبارك وتعالى- بين القائمين والنائمين فقال: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9].

ولا ينسى أن يكون شديد الصلة بمصدر دعوته: القرآن الكريم والسنة، فيعنى بهم تدبرًا وفهمًا، وأن يكون له ورد من القرآن كل يوم بحيث يختم في الشهر أكثر من مرة، ولو ختم كل ثلاثة أيام أو كل أسبوع لكان حسنا، قال -عز وجل-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: 29- 30].

وهذه فوائد لذكر الله تعالى نلتقطها من درر كلام ابن القيم -رحمه الله- مختصرة:

الذكر يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره، ويرضي الرحمن عز وجل، ويزيل الهم والغم عن القلب، ويجلب للقلب الفرح والسرور والبسط، ويقوى القلب والبدن، وينور الوجه والقلب، ويجلب الرزق، ويكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة، ويورث محبة الله عز وجل، ويفتح بابا عظيما من أبواب المعرفة، وكلما أكثر الذاكر من الذكر ازداد من المعرفة، ويورث الهيبة للرب عز وجل وإجلاله، ويورث جلاء القلب من صداه، وصدأ القلب الغفلة والهوى، وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار، ويحط الخطايا ويذهبها، فإنه من أعظم الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات، ويزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى، وينجي من عذاب الله تعالى، وسبب تنزيل السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة، وأن العطاء والفضل الذي رتب عليه لم يرتب على غيره من الأعمال، وأن الذكر نور للذاكر في الدنيا، ونور له في قبره، ونور له في معاده يسعى بين يديه على الصراط، فما استنارت القلوب والقبور بمثل ذكر الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام: 122]. فالأول هو المؤمن، استنار بالإيمان بالله ومحبته ومعرفته وذكره، وأن الذكر يجمع المتفرق ويفرق المجتمع، ويقرب البعيد ويبعد القريب، فيجمع ما تفرق على العبد من قلبه وإرادته وهمومه، وأن الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة مرضه، فالقلوب مريضة وشفاؤها دواؤها في ذكر الله تعالى، وأن جميع الأعمال إنما شرعت إقامة لذكر الله تعالى، وذكر الله عز وجل من أكبر العون على طاعته، وأن ذكر الله عز وجل يسهل الصعب، وييسر العسير ويخفف المشاق، وأن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، وكثرة ذكر الله عز وجل أمان من النفاق، فإن المنافقين قليلو الذكر لله عز وجل، قال الله عز وجل في المنافقين: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142]، ويكسو الوجه نضرة في الدنيا ونورا في الآخرة، وفي دوام الذكر في الطريق والبيت والحضر والسفر والبقاع تكثيرا لشهود العبد يوم القيامة، فإن البقعة والدار والجبل والأرض تشهد يوم القيامة بما عمل عليها(6).

هذه بعض وظائف اليوم والليلة التي قد يقع فيها تقصير من بعض الدعاة، والتقصير في مثل هذه الوظائف يؤثر على الداعية معنويًّا، وروحانيًّا، وإنما الداعية بقلبه وروحه لا ببدنه ولسانه، ولذلك كانت هذه الوظائف من أهم الوظائف التي أمر الله -تبارك وتعالى- بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- في أول ما كلّفه بالدعوة، اقرءوا إن شئتم: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِـي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾ [المزمل: 1 – 9].

نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعلنا من الدعاة إليه بسلوكنا وعملنا قبل أن نكون دعاة بأقوالنا، فإن عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل، وحسبنا قول شعيب -عليه السلام-: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88].

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-

وعلى آله وصحبه أجمعين

---

(1) بحث بعنوان: أصول الدعوة جامعة المدينة.

(2) البخاري (6318).

(3) أحمد (740)، إسناده صحيح على شرط الشيخين.

(4) تنبيه الغافلين للسمرقندي 400.

(5) الداء والدواء لابن القيم 107.

(6) الوابل الصيب لابن القيم 41 – 82.

عدد المشاهدات 9445