قطوف من بستان الواعظين: من آفات الدعاة الاستعجال (سلسلة الواعظ عدد جمادى الأولى 1437هـ)

2016-02-23

اللجنة العلمية

من آفات الدعاة (الاستعجال)

قطوف من بستان الواعظين من آفات الدعاة الاستعجال

لما كان الدعاة إلى دين الله -عز وجل- أكثر الناس اتصالا بشرائح المجتمع، وأكثر الناس تفاعلا وتواصلا معهم، وتأثيرًا فيهم وتأثرًا بهم، وطريق الدعوة شاق طويل، ومليء بالآفات والمعوقات، وربما يرجعون بسببها عن الطريق، ويقعدون عن الدعوة، ويتخلفون عن المسير، فتحرمهم الوصول إلى غايتهم، وإصابة هدفهم، ومَنْ استوحش المضي في هذا السبيل بسبب قلَّة الناصر أو المعين، أو استثقل مطارق الأذى؛ فليس له في الريادة نصيب.

هذه الآفة هي "العجلة"، أو إرادة تغيير الواقع في أقل من طرفة عين، دون نظر في العواقب، ودون فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع، ودون إعداد جيد للمقدمات، أو للأساليب، والوسائل، بحيث يغمض الناس عيونهم ثم يفتحونها، أو ينامون ليلة ثم يستيقظون، فإذا بهم يرون كل شيء عاد إلى وضعه الطبيعي في حياتهم، ووجد كل إنسان إنسانيته، وخلصت الفطرة من كل ما يكدرها ويعكر صفوها!.

ومن هنا قيل: من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.

والاستعجال معناه: طلب الأمر قبل مجيئه، وتحريه قبل أوانه(1).

ثالثا: مــن مظاهـر الاستعجــال:

1- ضم أشخاص إلى قافلة الدعاة قبل الاستيثاق، والتأكد من مواهبهم، وقدراتهم، واستعداداتهم.

2- الارتقاء ببعض الدعاة إلى مستوى رفيع قبل اكتمال نضجهم، واستواء شخصيتهم.

3- القيام بتصرفات طائشة صغيرة تضر بالدعوة، ولا تفيدها.

أسباب الاستعجال:

1- النشأة الأولى: والتي يمكن أن تكون الطبيعة التي خلق عليها، أو البيئة التي نشأ فيها.

أما عن الطبيعة التي خلق عليها: فإن الاستعجال طبيعة مركوزة في فطرة الإنسان كما قال المولى تبارك وتعالى: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) [الأنبياء: 37]. وقال: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) [الإسراء: 11]. وإذا لم يعمل الداعية على ضبط نفسه، وإلجامها بلجام الشرع دفعته إلى الاستعجال غالبا.

وأما عن البيئة التي نشأ فيها: فقد ينشأ المرء في بيئة يغلب عليها التسرع وعدم التثبت، والعجلة في اتخاذ القرارات والمواقف، والمرء في صغره يتأثر أيما تأثُّر، وينطبع في ذهنه ومخيلته هذا السلوك، ويصبح سمتًا لازمًا له طوال حياته، لذلك قالوا قديمًا: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، والرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الكذب على الصغير عندما رأى الأنصارية تنادي على ولدها لتعطيه؛ لأن ذلك سيؤثر سلبًا على الطفل الصغير، فينشأ معتادًا على الكذب وأجوائه.

2- الحماس الزائد، والعاطفة غير الراشدة: مثل هذه الأمور إن لم تكن موزونة بميزان الشرع كانت ضارة على صاحبها؛ لأنها تسلبه الحكمة والإدراك، وتجعله أهوج كثير الخطأ، وربما أدت إلى أعمال تؤذي أكثر مما تفيد، وتضر أكثر مما تنفع، لذا كان مثل هذا التوجيه: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) [الروم: 60].

3- طبيعة العصر: قد تكون طبيعة العصر هي الباعث على الاستعجال، إذ إننا نعيش في عصر يمض بسرعة ويتحرك فيه كل شيء بسرعة، فالإنسان يكون هنا وبعد ساعات يكون في أقصى أطراف الأرض، بسبب التقدم في وسائل المواصلات، والإنسان يضع أساس بيت اليوم ويسكنه غدا بسبب التمكن من وسائل العمارة الحديثة، وقس على ذلك أشياء كثيرة في حياة الإنسان، فلعل ذلك مما يحمل بعض العاملين على الاستعجال لمواكبة ظروف العصر و التمشي معه.

4- شيوع المنكرات مع الجهل بأسلوب تغييرها: واجب المسلم حين يرى منكرا أن يعمل على تغييره وإزالته، قال الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]. وعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ –رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا)(2).

بيد أنه ليس كل منكر تجب إزالته أو تغييره على الفور، وإنما ذلك مشروط بألا يؤدى إلى منكر أكبر منه، فإن أدى إلى منكر أكبر منه وجب التوقف بشأنه، مع الكراهة القلبية له، ومع مقاطعته، ومع البحث عن أنجع وأنجح الوسائل لإزالته، والأخذ بها، والعزم الصادق على الوقوف في أول الصف حين تتاح فرصة التغيير.

5- العجز عن تحمل المشاق، ومتاعب الطريق: بعض الدعاة يملك جرأة وشجاعة وحماسا لعمل وقتي، لكنه لا يملك القدرة على تحمل مشاقّ ومتاعب الطريق لزمن طويل، مع أن الرجولة الحقة هي التي يكون معها صبر، وجلد، وتحمل، ومثابرة، وجد، واجتهاد حتى تنتهي الحياة. لذلك تراه دائماً مستعجلاً ليجنب نفسه المشاق و المتاعب، وإن تزرَّع بغير ذلك. وقد أفرزت الحركة الإسلامية في العصر الحاضر صنفاً من هذا، عجز عن التحمل والاستمرار فاستعجل وانتهي، وصنفاً آخر أوذي في الله عشرات السنين فصبر، وتحمل واحتسب لأن الظروف غير ملائمة، و الفرص غير مواتية، و العواقب غير محمودة و المقدمات ناقصة أو قاصرة، وكانت العاقبة أن وفقهم الله وأعانهم فثبتت أقدام على الطريق ولا تزال.

6- الانبهار والاغترار بشخصية المتكلِّم، والالتفات لسمته ودَلِّهِ الظاهر، وترك تقييم الكلام وزنته وفحصه: فالناس من طبائعها تصديق ذوي الهيئات التي تدل على الصلاح، والثقة فيما يقولون، وقد لا يدركون أن النفوس محتقنة، والثارات قديمة بين المتكلِّم والمتكلَّم فيه، وأيضًا قد يدرون طبيعة كلام الأقران في بعضهم البعض.

7- عدم وجود منهج يمتص الطاقات، ويخفف من حدتها: نفس الإنسان التي بين جنبيه إن لم يشغلها بالحق شغلته بالباطل. ولعل ذلك هو السر في أن الإسلام غمر المسلم ببرنامج عمل في اليوم و الليلة، وفي الأسبوع وفي الشهر و في السنة وفي العمر كله، بحيث إذا حافظ عليه كانت خطوته دقيقة، وكانت جهوده مثمرة، قال الله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) [الشرح: 7].

8- الاندفاعُ والانفعال، فقد يؤمن البعضُ بفكرةٍ ما، أو بعدلِ قضيةٍ مُعينة، فيدفعه ذلك للعجلة في السير إلى تحقيقها على أرض الواقع، غافلا عن السنن الكونية، والإعداد السابق لتقبل المجتمع لما يؤمن به ويعتقده إن كان صوابا.

9- العمل بعيدا عن ذوي الخبرة والتجربة: الإنسان يولد ولا علم له بشيء في هذه الحياة كما قال سبحانه: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [النحل: 78]. ثم يبدأ التعلم من الكتب وبواسطة التجربة، و الممارسة، وبكل طريق يستطيع من خلاله أن يحصل العلم النافع الجاد المثمر.

يقرأ البعض أو يتصور معنى معينا، ويسعى لتطبيقه على المجتمع أو على نفسه؛ ولكنه لا يعلم أنَّ هذا التصور يحتاج إلى إعداد مناط معين يتكيَّف معه ويعيش فيه، فقيام الأخلاق والمجتمع الإسلامي يحتاج إلى نفوس طيبة مزكاة، تربَّتْ على معاني الانقياد للشَّرع.

والداعية الواعي، ينتفع بخبرات وتجارب من سبقوه على الطريق؛ ليوفر على نفسه الجهد، والوقت والتكاليف، أما إذا شمخ بأنفه، ونأي بنفسه، وبدأ العمل بعيدا عن ذوى الخبرة والتجربة فستكون له أخطاء جسيمة، وربما مميتة قاتلة، تصرعه من الجولة الأولى.

10- الغفلة عن سنن الله فـي الكون، وفـي النفس، وفـي التشريع:

من سنن الله فـي الكون: خلق السموات والأرض في ستة أيام، وخلق الإنسان والحيوان والنبات على مراحل، مع أنه جل وعلا قادر على خلق كل ذلك وغيره بقوله "كن".

ومن سنن الله فـي النفس: أنها لا تضحي ولا تبذل ولا تعطى إلا إذا عولجت من داخلها، واقتلعت منها كل الحظوظ، وأدركت قيمة وفائدة التضحية والبذل والعطاء (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) [الشمس: 9، 10]. وذلك لا يتم بسهولة ويسر، وإنما لابد له من جهد ووقت وتكاليف.

ومن سنن الله فـي التشريع: أن الخمر حرمت على مراحل وكذلك غيرها.

إذا نسي الداعية هذه السنن كانت السرعة والعجلة، أما حين تظل ماثلة أمام عينيه، حاضرة في ذهنه وفؤاده، فإنها تهديء من نفسه، وتضبط حركته، وتبصره بموضع قدميه.

11- الغفلة عن سنة الله مع العصاة و المكذبين: من سنة الله مع العصاة و المكذبين، الإمهال، وعدم الاستعجال، قال ربنا تعالى وتقدس: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) [الأعراف: 182، 183]. وقال سبحانه: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ) [الأنفال: 59].

وإذا غفل الداعية عن هذه السنن استعجل قائلاً: نناجزهم قبل أن يستفحل شأنهم، وقبل أن يمسكوا بزمام الأمور، فتستحيل إزاحتهم بعد ذلك من طريق الناس.

12- الاغترار ببريق الألفاظ: فقد يقرع أذن الداعية طائفة من الألفاظ المعسولة، والعبارات الخلابة، وإذا به يغتر بها، فيحسبها ذهبًا وهي تراب، فإذا ما أصغى السمع وحرص على مثل هذه الألفاظ وعلى الاستزادة منها، كانت هلكته من حيث يظن النجاة والنفع، فيتعجل في الحكم على أمور أو فعل أشياء نهى الله عنها، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، أو أنهم على شيء.

13- صحبة نفر من ذوي العجلة، وعدم التأني: المرء على دين خليله، والصاحب ساحب، والطباع سرّاقة، وكلما كان المرء ضعيف الشخصية كان إمعة في سلوكه، فيحاكي ويقلد بلا روية ولا بصيرة، والطبع يعدى، وإذا لم يحسن المسلم اختيار صاحبه، فإنه يقتدي به لا محالة في ما يعتنق وفي كل ما يسلك - سيما إذا كان هذا الصاحب قوى الشخصية -.

14- الولاء والبراء للمشايخ وغيرهم فـي المجال الدعوي: بحيث لا يمكن مراجعة قراراتهم وتصنيفاتهم الدعوية، لهذا الداعية أو هذا الخطيب، فيكون الدليل والحجة عند كثيرين: هذا ما قاله الشيخ فلان. أو هذا ما ذهب إليه.

وهذا الأمر من أكثر أسباب شيوع حالة التنافر والتجاذب بين العاملين في مجال الدعوة، فكم من داعية أو خطيب وأدته الشائعات، وقتلته الكلمات، وقُضي على علمه وخيره، بسبب الوشايات والشائعات والتسرع في الحكم عليه.

15- الجهل بأساليب التثبت؛ فقد يجهل الداعية أساليب وطرق التثبت، فيعجل ويتسرع في إصدار القرارات أو يحاكي المتعجلين، ذلك أن للتثبت العديد من الوسائل والطرق؛ منها:

أولا: رد الأمر إلى الله ورسوله، وإلى أولي العلم وأهل الذكر، كما قال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83].

ثانيا: سؤال صاحب الشأن عن صحة الخبر وبواعثه وأسبابه، ولنا فيما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع حاطب بن أبي بلتعة يوم فتح مكة الأسوة الحسنة في ذلك، حيث لم يبادر بعقوبته رغم جسامة ما اقترافه، إنما أحضره وقرره بما فعل، فأقر حاطب، ثم سأله -صلى الله عليه وسلم- عن دوافعه عن الفعل ومبرراته، ورغم أن المبررات لم تكن مقنعة، إلا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد عذره، ووهب فعلته الرديئة لسالف إحسانه(3).

ثالثا: حسن الإصغاء والاستماع الجيد؛ وذلك بالمراجعة والاستفهام لفحوى الكلام وحقيقة الخبر، فقد يتردد كلام وأخبار لا يراد ظاهرها، ولا تدل على معناها الحقيقي، فعندها يحتاج الكلام للإيضاح، حتى لا ينتج عنه آثار ضارة وربما تكون قاتلة.

رابعا: التجربة والخبرة، والمشاهدة والمقارنة، فمعايشة الأحداث، ومعرفة الأشخاص، تعطي الداعية رصيدًا كبيرًا للتجربة من الفهم والبصيرة بمرامي الكلام وطبائع الأشخاص، والمنافسة بين الأقران، وتمكنه من الحكم ببصيرة على الأخبار والآراء بحق الأشخاص والهيئات.

الداعيــة بيـن الفتــور والاستعجـال:

المقصود من هذا هو تحديد موقع الداعية، أن يكون وسطا بين الفتور والاستعجال، على معنى أنه مع المقدمات كخلية النحل؛ دائب النشاط والحركة، لا يقصر ولا يتوانى لحظة من ليل أو من نهار، ولا يضيع فرصة تتاح له، أما أوانه مع النتائج؛ فهو هاديء متريث متأن غير متهور، لا يستعجل شيئا قبل أوانه وإلا عوقب بحرمانه.

إن ميدان القول غير ميدان الخيال، وميدان العمل غير ميدان القول، يسهل على كثيرين أن يتخيلوا، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوالا باللسان، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا، ولكن قليلا من هذا الكثير يثبت عند العمل.

رَبِّ وَا مُعْتَصِمَاهُ انْطَلَقَتْ مِـلْءَ أَفْوَاهِ السَّبَايَا اليُتَّمِ

لاَمَسَتْ أَسْمَاعَهُمْ لَكِنَّهَا لَـمْ تُلاَمِسْ نَخْوَةَ الْمُعْتَصِمِ

ذكر الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله -: إن الأمة الخاملة صفرٌ من الأصفار، لكن إن بعث الله لها مؤمنًا صادق الإيمان داعيًا إلى الله، صار صفُّ الأصفار مع الواحد مائةَ مليون، والتاريخ مليء بالشواهد على ما أقول.

على الدعاة إلى الله -عز وجل- أن يبذلوا جهدهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وألا يستعجلوا جني ثمار ما بذلوه من الجهد في الدعوة إلى الله عز وجل، فإن الله -تبارك وتعالى- أكثر على نبيه -صلى الله عليه وسلم- من الأمر بالصبر، والنهي عن الاستعجال قال الله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ) [الأحقاف: 35]، فعليك أيها الداعية أن تغرس وتحرث، وأن تترك الإنبات لله -عز وجل-: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) [القصص: 56](4).

فما أجدر رواك الصبيح أن تحصِّل وراءه الرأي الصحيح.

حتى تصادف أُترجًّا يطيب معًا. . . حملًا ونَورًا فطاب العود والورق

فما أقبح المرء أن يكون حسن جسمه باعتبار قبح نفسه جنة يعمرها بوم، كما قال حكيم لجاهل صبيح الوجه: أما البيت فحسنٌ وأما ساكنه فرديءٌ.

فكن أيها الأخ عالمًا، وبعلمك عاملًا، تكن من أولياء الله الذين (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس: 62]، واحذر الشيطان أن يسبيك، ويغريك بأعراض الدنيا وزخارفها، فيجعلك من أوليائه ويخوفك بوساوسه، كما قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175].

ولا يخدعنك عن طلب ذلك وإدراكه (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) [الأعراف: 45].

فقد وصفهم الله تعالى بالصمم والعمى إذ قال: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) [هود: 20].

ثم ذمهم بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [هود: 21].

ثم فرق بينهم وبين من ضادهم فقال: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [هود: 24].

فمن عمل لآخرته بورك في كيله ووزنه، وحصل له منه زاد الأبد كما قال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) [الإسراء: 19].

ومن عمل للدنيا خاب سعيه، وبطل عمله كما قال الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 15- 16].

قيل: لا يستطع الوصول من ضيع الأصول.

فمن شغله الفرض عن الفضل فمعذور، ومن شغله الفضل عن الفرض فمغرور(5).

---

(1) التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (48).

(2) البخاري (2493).

(3) أخرج البخاري (3007)، ومسلم (2494/161) من حديث عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ، وَالمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ، قَالَ: (انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا)، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا أَخْرِجِي الكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ المُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ )، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا، وَلاَ رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ صَدَقَكُمْ)، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، قَالَ: " إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ "، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) [الممتحنة: 1].

(4) انظر غير مأمور: آفة الاستعجال: للشيخ حسن عبدالعال محمود، والعجلة: د. أمين بن عبدالله الشقاوي، والأناة: د. محمد بن لطفي الصباغ، والاستيعاب والاقتباس في الدعوة: د/عمر بادحدح، ولكنكم قوم تستعجلون: إيهاب إبراهيم.

(5) الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني (ص: 60).

عدد المشاهدات 9672