الافتتاحية: أهمية الأخلاق في حياة الدعاة (سلسلة الواعظ عدد جمادى الأولى 1437هـ)
2016-02-23
أهمية الأخلاق في حياة الدعاة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد
فإن الدعوة إلى الله تعالى رسالةٌ عظيمةٌ وشرفٌ كبيرٌ اختص الله به من شاء من عباده الذين حملوا شرف هذه المهمة، وقاموا بها على منهج الأنبياء والرسل الكرام - عليهم أفضل الصلاة والسلام -، فهم يجتهدون في تبليغ دين الله تعالى للآخرين في كل زمانٍ وأي مكان تحقيقاً لقوله عز وجل: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (يوسف: 108 ).
ولا يكتمل هذا الشرف إلا بأوصاف طيبة وأخلاق حسنة تزيد من مكانة الدعاة وترفع من شأنهم عند رب العالمين سبحانه وتعالى
فالخلق الحسن من أجمل ما يتحلى به الدعاة، وهو أقصر طريق لقلوب الناس، بل إن شئت هو في نفسه دعوة، وقد وصف الله تعالى به نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }(القلم: 4).
وقد جُمع حسن الخلق في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قال -صلى الله عليه وسلم-: " وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ " وَهُوَ حَقُّ النَّاسِ. وَجِمَاعُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ مَعَ النَّاسِ: أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك بِالسَّلَامِ وَالْإِكْرَامِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالزِّيَارَةِ لَهُ وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك مِنْ التَّعْلِيمِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِ وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ. وَبَعْضُ هَذَا وَاجِبٌ وَبَعْضُهُ مُسْتَحَبٌّ. وَأَمَّا الْخُلُقُ الْعَظِيمُ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ الدِّينُ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُطْلَقًا هَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ كَمَا {قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ} وَحَقِيقَتُهُ الْمُبَادَرَةُ إلَى امْتِثَالِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِطِيبِ نَفْسٍ وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي وَصِيَّةِ اللَّهِ فَهُوَ أَنَّ اسْمَ تَقْوَى اللَّهِ يَجْمَعُ فِعْلَ كُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ إيجَابًا وَاسْتِحْبَابًا وَمَا نَهَى عَنْهُ تَحْرِيمًا وَتَنْزِيهًا وَهَذَا يَجْمَعُ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُقُوقَ الْعِبَادِ. لَكِنْ لَمَّا كَانَ تَارَةً يَعْنِي بِالتَّقْوَى خَشْيَةَ الْعَذَابِ الْمُقْتَضِيَةَ لِلِانْكِفَافِ عَنْ الْمَحَارِمِ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ: {قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ. قِيلَ: وَمَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ قَالَ: الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- {أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا} فَجَعَلَ كَمَالَ الْإِيمَانِ فِي كَمَالِ حُسْنِ الْخُلُقِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ كُلَّهُ تَقْوَى اللَّهِ. (1).
وقال ابن القيم رحمه الله: (حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر والعفة والشجاعة والعدل) (2).
والخلق الحسن من العوامل المهمة في جذب الناس إلى الداعية وتأثرهم به وقبولهم لدعوته -إضافة إلى أجره في الآخرة-، فالناس مفطورون على محبة الفضائل والانجذاب إليها، والنفور من القبائح والابتعاد عنها، والدعية إلى الله أحوج ما يكون إلى التخلق والاتصاف بالأمور المحببة إلى قلوب الناس، فضلا عن أنها من واجبات المسلم.
قال أبو حاتم البستي رحمه الله: الواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حسن الخلق، لأن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخلق السيء ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل، وقد تكون في الرجل أخلاق كثيرة صالحة
كلها وخلق سيء فيفسد الخلق السيء الأخلاق الصالحة كلها (3).
وإني لأتعجب من بعض الأدعياء حينما يتصفون بصفات السوء كيف يقبل الناسُ منهم نصحًا، فالناس إذا لاحظوا من الداعية سوءا في أخلاقه نفروا من دعوته، خوفا من تضررهم بأخلاقه السيئة، وقد يميلون إلى تفضيل أهل الفسق والضلال ومجالستهم، إذا آنسوا منهم حسنا في الخلق ورفقا في المعاملة، ولعل السنوات الأخيرة التي عايشناها ولا زلنا خير شاهد على هذا
قال الفضيل بن عياض: " إذا خالطت فخالط حسن الخلق، فإنه لا يدعو إلا إلى خير، وصاحبه منه في راحة، ولا تخالط سيء الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى شر وصاحبه منه في عناء، ولأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني قارئ سيء الخلق إن الفاسق إذا كان حسن الخلق عاش بعقله، وخفَّ على الناس وأحبوه وإن العابد إذا كان سيء الخلق ثقل على الناس ومقتوه. "(4)
وحسن الخلق يبذل حتى مع الأعداء، فإنه يقلب البغض حبا، ويبدل العداوة بالولاية الحميمة، وقد قال تعالى: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [فصلت: 34]، فَإِذَا حَسُنَتْ أَخْلَاقُ الْإِنْسَانِ كَثُرَ مُصَافُوهُ، وَقَلَّ مُعَادُوهُ، فَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ الصِّعَابُ، وَلَانَتْ لَهُ الْقُلُوبُ الْغِضَابُ، والسيئ الخلق الناس منه في بلاء، وهو من نفسه في عناء (5).
فالله نسأل أن يحسن أخلاقنا وأن يرزقنا الإخلاص والتوفيق والسداد
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
وكتبه
أبو محمد/ صـالح حسـون
---
(1)مجموع فتاوى ابن تيمية 10/ 658-659.
(2)مدارج السالكين 2/ 308.
(3)روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص 64.
(4) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 64).
(5) أدب الدنيا والدين ص 243بتصرف.