باب قطوف من بستان الواعظين: جملة مختارة من أقوال الذهبي من كتابه سير أعلام النبلاء (سلسلة الواعظ عدد ربيع الآخر1437هـ)
2016-01-24
جملة مختارة من أقوال الذهبي من كتابه سير أعلام النبلاء
ما أحوج الدعاة لعبادة ترسخ في قلوبهم
قال الذهبي رحمه الله: ولو تلا ورتل في أسبوع ولازم ذلك، لكان عملا فاضلا، فالدين يسر فوالله إن ترتيل سبع القرآن في تهجد قيام الليل مع المحافظة على النوافل الراتبة، والضحى، وتحية المسجد مع الأذكار المأثورة الثابتة، والقول عند النوم واليقظة ودبر المكتوبة، والسحر مع النظر في العلم النافع، والاشتغال به مخلصا لله مع الأمر بالمعروف وإرشاد الجاهل، وتفهيمه وزجر الفاسق ونحو ذلك، مع أداء الفرائض في جماعة بخشوع وطمأنينة وانكسار وإيمان، مع أداء الواجب واجتناب الكبائر، وكثرة الدعاء والاستغفار، والصدقة وصلة الرحم والتواضع، والإخلاص في جميع ذلك لشغل عظيم جسيم، ولمقام أصحاب اليمين وأولياء الله المتقين فإن سائر ذلك مطلوب. فمتى تشاغل العابد بختمة في كل يوم، فقد خالف الحنيفية السمحة، ولم ينهض بأكثر ما ذكرناه ولا تدبر ما يتلوه. اهـ [السير 3/84]
ما أحسن الصدق
قال الوليد بن مسلم سألت: الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وابن جريج لمن طلبتم العلم كلهم يقول لنفسي غير أن ابن جريج فإنه قال: طلبته للناس.
فقال الذهبي رحمه الله معلقاً على كلامه: ما أحسن الصدق! ! واليوم تسأل الفقيه الغبي: لمن طلبت العلم فيبادر ويقول: طلبته لله، ويكذب إنما طلبه للدنيا، ويا قلة ما عرف منه. [ السير 6/328]
من لازم قرع الباب فتح له
روى مسعر عن ابن عون قال: ذكر الناس داء، وذكر الله دواء.
فقال الذهبي رحمه الله معلقاً على كلامه: إي والله، فالعجب منا ومن جهلنا كيف ندع الدواء ونفتحم الداء؟! قال الله تعالى [ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ] [ البقرة 15 [ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ] [ العنكبوت 46 ] وقال: [ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ] [ الرعد 29 ]. ولكن لا يتهيأ ذلك إلا بتوفيق الله. ومن أدمن الدعاء ولازم قرع الباب فتح له. [ السير 6/369]
طلب العلم لله
قال عون بن عُمارة: سمعت هشاما الدستوائي يقول: والله ما أستطيع أن أقول: أني ذهبت يوما قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل.
فقال الذهبي رحمه الله معلقاً على كلامه: والله ولا أنا فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولا لا لله، وحصلوه، ثم استفاقوا، وحاسبوا أنفسهم فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعدُ، وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله. فهذا أيضا حسن. ثم نشروه بنية صالحة.
وقوم طلبوه بنية فاسدة، لأجل الدنيا وليثنى عليهم، فلهم ما نووا. وترى هذا الضرب لم يستضيؤوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله تعالى. وقوم نالوا العلم، وولوا به المناصب، فظلموا، وتركوا التقيد بالعلم، وركبوا الكبائر والفواحش، فتبا لهم فما هؤلاء بعلماء! ! وبعضهم لم يتق الله في علمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار. وبعضهم أجترأ على الله، ووضع الأحاديث فهتكه الله وذهب علمه، وصار زاده إلى النار. وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئا كبيرا، وتضلعوا منه في الجملة، فخلف من بعدهم خلف بأن نقصهم في العلم والعمل، وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر، ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير، أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يدر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله، لأنهم ما رأوا شيخا يفتدى به في العلم، فصاروا همجا رعاعا، غاية المدرس منهم أن يحصل كتبا مثمنة يخزنها وينطر فيها يوما ما، فيصحف ما يورده ولا يقرره. فنسأل الله النجاة والعفو كما قال: بعضهم ما أنا عالم ولا رأيت عالما. [ السير 7/152-153]
الشبهة خطافة
وعن سفيان الثوري: من يسمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقيها في قلوبهم.
فقال الذهبي رحمه الله معلقاً على كلامه: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة. [ السير 7/261]
السني مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم
قال الذهبي رحمه الله: م كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية، لا يلتفت إليه، بل يطوى ولا يروى، كما تقرر عن الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه، وإخفاؤه بل إعدامه لتصفو القلوب، وتتوفر على حب الصحابة، والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء، وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم كما علمنا الله تعالى حيث يقول: [ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ ] [الحشر: 10].
فالقوم لهم سوابق، وأعمال مكفرة لما وقع منهم، وجهاد محاء، وعبادة مُمَحصة، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة، نقطع بأن بعضهم أفضل من بعض، ونقطع بأن أبا بكر وعمر أفضل الأمة، ثم تتمة العشرة المشهود لهم بالجنة، وحمزة وجعفر ومعاذ وزيد، وأمهات المؤمنين، وبنات نبينا صلى الله عليه وسلم، وأهل بدر مع كونهم على مراتب، ثم الأفضل بعدهم مثل أبي الدرداء وسلمان الفارسي وابن عمر وسائر أهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم بنص آية سورة الفتح، ثم عموم المهاجرين والأنصار كخالد بن الوليد والعباس وعبد الله بن عمرو، وهذه الحَلبة، ثم سائر من صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجاهد معه، أو حج معه، أو سمع منه، رضي الله عنهم أجمعين وعن جميع صواحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المهاجرات والمدنيات وأم الفضل وأم هانئ الهاشمية وسائر الصحابيات. فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك، فلا نعرج عليه ولا كرامة، فأكثره باطل وكذب وافتراء، فدأب الروافض رواية الأباطيل، أو رَدُ ما في الصحاح والمسانيد، ومتى إفاقة من به سكران؟ [ السير 10/92-93]
الرجوع إلى الحق
محمد بن الحسن بن علي بن بحر: حدثنا الفلاس قال: رأيت يحيى يوما حدث بحديث، فقال له عفان: ليس هو هكذا. فلما كان من الغد، أتيت يحيى فقال: هو كما قال عفان، ولقد سألت الله أن يكون عندي على خلاف ما قال عفان.
فقال الذهبي رحمه الله معلقاً على كلامه: هكذا كان العلماء، فانظر يا مسكين كيف أنت عنهم بمعزل. [ السير 10/248-249]
الجاهل لا يعلم رتبة نفسه فكيف بغيره
قال ابن عقيل: من عجيب ما سمعته عن هؤلاء الأحداث الجهال، إنهم يقولون:
أحمد ليس بفقيه، لكنه محدث. قال: وهذا غاية الجهل، لأن له اختيارات بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفه اكثرهم، وربما زاد على كبارهم.
فقال الذهبي معلقاً على كلامه: احسبهم يظنونه كان محدثا وبس، بل يتخيلونه من بابه محدثي زماننا. ووالله لقد بلغ في الفقه خاصة رتبة الليث، ومالك، والشافعي، وأبي يوسف، وفي الزهد والورع رتبة الفضل، وابراهيم بن أدهم، وفي الحفظ رتبة شعبة، ويحيى القطان، وابن المديني، ولكن الجاهل لا يعلم رتبة نفسه، فكيف يعرف رتبة غيره؟! ! [ السير 11/321]
من يحق له الاجتهاد
قال الذهبي رحمه الله: نعم من بلغ رتبة الاجتهاد، ويشهد له بذلك عدة من الأئمة، لم يسغ له أن يقلد، كما أن الفقيه المبتدئ والعامي الذي يحفظ القرآن أو كثيرا منه لا يسوغ له الاجتهاد أبدا، فكيف يجتهد، وما الذي يقول؟ ؟ وعلام يبني؟ ؟ وكيف يطير ولما يريش؟ ؟ والقسم الثالث: الفقيه المنتهي اليقظ الفهم المحدث، الذي قد حفظ مختصرا في الفروع وكتابا في قواعد الأصول، وقرأ النحو، وشارك في الفضائل مع حفظه لكتاب الله وتشاغله بتفسيره وقوة مناظرته، فهذه رتبة من بلغ الاجتهاد المقيد، وتأهل للنظر في دلائل الأئمة، فمتى وضح له الحق في مسألة، وثبت فيها النص، وعمل بها أحد الأئمة الأعلام كأبي حنيفة مثلا، أو كمالك، أو الثوري، أو الأوزاعي، أو الشافعي، وأبي عبيد، وأحمد، وإسحاق، فليتبع فيها الحق ولا يسلك الرخص، وليتورع، ولا يسعه فيها بعد قيام الحجة عليه تقليد، فإن خاف ممن يشغب عليه من الفقهاء فليتكتم بها ولا يتراءى بفعلها، فربما أعجبته نفسه، وأحب الظهور، فيعاقب ويدخل عليه الداخل من نفسه، فكم من رجل نطق بالحق، وأمر بالمعروف، فيسلط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده، وحبه للرئاسة الدينية، فهذا داء خفي سار في نفوس الفقهاء. [ السير 18/190- 191]. (1)
----
([1]) هذا وقد رتب شيخنا فضيلة الشيخ أحمد بن سليمان كتاب السير ترتيبا موضوعيا( كالعلم، والتقوى، والصدق. . . . ) جمع فيه شتات ما فرق في التراجم ليصلح مادة يستطيع القارئ الاستفادة منها، أسماه بتحفة العلماء بترتيب سير أعلام النبلاء.