الإيمان بالقدر
تعريف القدر حكم الإيمان بالقدر
أركانه ثمراته.
مقدمة: إنّ الله عز وجل خلق الخلق بعمله وقدَّر لهم أقدارا، وضرب لهم آجالا، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته، وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِتَقْدِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ، لَا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ إِلَّا مَا شَاءَ لَهُمْ، فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لم يكن، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلًا وَيُضِلُّ من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا، وَكُلُّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ، وهو متعال عن الأضداد والأنداد لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا غالب لأمره آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلًّا مِنْ عنده. (1)
وسُئِلَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رحمه الله-، عَنِ الْقَدَرِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أشأْ. . . وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ
خَلَقْتَ الْعِبَادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ. . . فَفِي الْعِلْمِ يَجْرِي الْفَتَى وَالْمُسِنْ
عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ. . . وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ. . . وَمِنْهُمْ قَبِيحٌ وَمِنْهُمْ حَسَنْ(2)
تعريف القدر:
هو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة وكتابته سبحانه لذلك ومشيئته لها ووقوعها على حسب
ما قدرها جلّ وعلا وخلقه لها. (3)
بعض الأدلة على أن جميع الأمور تجري بقدر الله
فقد وردت أدلة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، تدل على أن الأمور تجري بقدر الله تعالى، وأن الله تعالى علم الأشياء وقدرها في الأزل، وأنها ستقع على وفق ما قدرها ـ سبحانه وتعالى. قال تعالى{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]
وقال تعالى{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [الفرقان: 2]
وقال تعالى{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]
وعَنْ طَاوُسٍ -رحمه الله-، أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُونَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، قَالَ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-،: ((كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ)). (4)
والْمُرَادُ مِنَ الْعَجْزِ عَدَمُ الْقُدْرَةِ، أَوْ تَرْكُ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ، وَالتَّسْوِيفُ بِهِ، وَالتَّأْخِيرُ عَنْ وَقْتِهِ، أَوِ الْعَجْزُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَالْكَيْسُ ضِدُّ الْعَجْزِ، وَهُوَ النَّشَاطُ، وَالْحِذْقُ بِالْأُمُورِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعَاجِزَ قَدْ قُدِّرَ عَجْزُهُ، وَالْكَيِّسُ قَدْ قُدِّرَ كَيْسُهُ، فكُلّ شَيْءٍ لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا وَقَدْ سَبَقَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ وَمَشِيئَتُهُ. (5)
قال النووي -رحمه الله-: تَظَاهَرَتِ الْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّاتُ مِنَ الْكِتَابِ وِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى إِثْبَاتِ قَدَرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (6)
قال الحافظ -رحمه الله-: وَمَذْهَبُ السَّلَفِ قَاطِبَةً أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ
تَعَالَى (( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ الا بِقدر مَعْلُوم)). (7)
حكم الإيمان بالقضاء والقدر
الإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، فقد جاء في حديث جبريل: المشهور، لما سُئِل رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْإِيمَانِ قال: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)). (8) فالإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان الستة.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-،: ((لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وحَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ)). (9)
وعَنْ عَلِيّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-،: (( لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي بِالحَقِّ، وَيُؤْمِنُ بِالمَوْتِ، وَبِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، وَيُؤْمِنُ بِالقَدَرِ)). (10)
قال الإمام عبد الغني المقدسي -رحمه الله-: أجمع أئمة السلف من أهل الإسلام على الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قليله وكثيره، بقضاء الله وقدره، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يجري خير وشر إلا بمشيئته. (11)
مراتب الإيمان بالقدر:
أولاً: مرتبة العلم:
والمراد بالعلم: هو اعتقاد أن الله عز وجل علم أعمال العباد دقيقها وجليلها كما علم مصائرهم إلى الجنة أو إلى النار قبل وجودهم. والأدلة على ذلك كثيرة منها قَوله تَعالَى:
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الْحَشْرِ: 22]
وَقَالَ تَعَالَى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلَاقِ: 12]
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، عَنْ أَوْلاَدِ المُشْرِكِينَ، فَقَالَ: ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ)). (12)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-،: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُونَ البَهِيمَةَ، هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ، حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا؟ )) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ؟ قَالَ: ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ)). (13)
المرتبة الثانية: الكتابة:
والمراد بها: اعتقاد أن الله عز وجل قد كتب جميع أعمال العباد صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها ومن الأدلة على هذه المرتبة، قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج 70] وقوله عز وجل: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس 12]
وقال عز وجل: {عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ 3]
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: (( كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ )). (14)
وعَنْ عَلِيّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-،: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ، إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً)) قَالَ فَقَالَ رَجَلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. فَقَالَ: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ))، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}. (15)
وعن عُبَادَة بْن الصَّامِتِ -رضي الله عنه-، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: (( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ )). (16)
المرتبة الثالثة: المشيئة:
والمراد بالمشيئة؛ الإيمان بمشيئة الله النافذة في كل شيء، فلا يقع في هذا الكون شيء إلا بمشيئته، ولم يقع إلا لأن الله قد شاء وقوعه، وما لم يقع إنما لم يقع لأن الله لم يشأ وقوعه، وهذا شامل لكل شيء مما هو طاعة ومعصية وهداية وضلال وخير وشر، والأدلة على إثبات هذه المرتبة كثيرة، منها: قوله عز وجل: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} [التكوير 39] وقوله عز وجل: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام 39] وقوله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس 99]
وعن عَبْد اللهِ بْن عَمْرِو -رضي الله عنهما-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ)) ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-،: ((اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)). (17)
فهذه النصوص أثبتت أن كل شيء إنما هو بمشيئة الله عز وجل.
قال ابن القيم -رحمه الله-: أساس كل خير أَن تعلم أَن مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن فتيقن حِينَئِذٍ أَن الْحَسَنَات من نعمه فتشكره عَلَيْهَا وتتضرّع إِلَيْهِ أَن لَا يقطعهَا عَنْك وَأَن السَّيِّئَات من خذلانه وعقوبته فتبتهل إِلَيْهِ أَن يحول بَيْنك وَبَينهَا وَلَا يكلك فِي فعل الْحَسَنَات وَترك السَّيِّئَات إِلَى نَفسك وَقد أجمع العارفون على أَن كل خير فأصله بِتَوْفِيق الله للْعَبد وكل شَرّ فأصله خذلانه لعَبْدِهِ وَأَجْمعُوا أَن التَّوْفِيق أَن لَا يكلك الله نفسك وان الخذلان أَن يخلي بَيْنك وَبَين نَفسك. (18)
المرتبة الرابعة: خلق الله سبحانه وتعالى الأعمال وتكوينه وإيجاده لها:
وهو الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، فهو خالق كل عامل وعمله وكل متحرك وحركته، وكل ساكن وسكونه، وما من ذرة في السماوات ولا في الأرض إلا والله سبحانه وتعالى خالقها وخالق حركتها وسكونها سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه.
والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب، والسنة. فمن الكتاب: قوله تعالى: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62]
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات: 96]. وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].
ومن السنة: عَنْ حُذَيْفَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-،: ((إِنَّ اللَّهَ يَصْنَعُ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ)) وَتَلَا بَعْضُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]. (19) قال البخاري -رحمه الله-: فَأَخْبَرَ أَنَّ الصِّنَاعَاتِ وَأَهْلَهَا مَخْلُوقَةٌ. (20)
ثمرات الإيمان بالقدر:
1- الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك:
فالمجوس زعموا أن النور خالق الخير، والظلمة خالقة للشر، والقدرية قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد، فهم أثبتوا خالقين مع الله جل وعلا وهذا شرك، والإيمان بالقدر على الوجه الصحيح توحيد الله.
2- سبب في استقامة العبد واعتداله في حال السراء والضراء:
الإيمان بالقدر يجعل الإنسان يمضي في حياته على منهج سواء، لا تبطره النعمة، ولا تيأسه المصيبة، فهو يعلم أن كل ما أصابه من نعم وحسنات من الله، فيشكر ربه على ذلك، وإذا أصابته ضراء أو بلاء علم أن هذا بتقدير الله ابتلاء منه، فلا يجزع ولا ييأس، بل يحتسب ويصبر، فيكسب هذا الإيمان في قلب العبد المؤمن الرضا والطمأنينة.
عَنْ صُهَيْبٍ الرومي -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-،: ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)). (21)
3- المؤمن بالقدر دائماً على حذر لا يأمن مكر الله
المؤمنون بالقدر دائماً على حذر لأنهم لا يعلمون ما سبق لهم في علم الله من السعادة والشقاوة، ولا يدرون بما يُختم لهم. قال السري السقطي -رحمه الله-: قُلوب الأبرارِ معلّقَةٌ بالخَواتِيم يقولون: بماذا يُختَم لنَا؟ وقلوب المقرَّبين معلّقةٌ بالسوابق يقولون: ماذا سبَق لنا؟. (22)
وفي حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، أن رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قال: (( فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا )). (23)
فالمؤمن يحذر دائماً أن يأتيه ما يضله كما يخشى أن يختم له بخاتمة سيئة، وهذا لا يدفعه إلى التكاسل والخمول، بل يدفعه إلى المجاهدة الدائبة للاستقامة، والإكثار من الصالحات، ومجانبة المعاصي والموبقات، فيبقى قلب العبد معلقاً بخالقه، يدعوه ويرجوه ويستعينه، ويسأله الثبات على الحق، كما يسأله الرشد والسداد.
4- مواجهة الصعاب والأخطار بقلب ثابت:
إذا آمن العبد بأنَّ كل ما يصيبه مكتوب، وآمن أن الأرزاق والآجال بيد الله، فإنه يقتحم الصعاب والأهوال بقلب ثابت وهامة مرفوعة، لأنه يؤمن بقول الله تعالى { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]
ويؤمن بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-، لابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، (( وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ
بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ)). (24)
وعن زيْد بْن ثابتٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: (( اعْلَم أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ)). (25)
- الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تفتك بالمجتمعات، وتزرع الأحقاد بين الناس
وذلك مثل رذيلة الحسد، فالمؤمن لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ لإيمان منه بأن الله هو الذي رزقهم وقدر لهم ذلك، فأعطى من شاء ومنع من شاء ابتلاءً وامتحانًا
منه -عز وجل- وأنه حين يحسد غيره، إنما يعترض على القدر.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ)). (26)
- الجد والحزم في الأمور، والحرص على كل خير ديني أو دنيوي
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-،: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)). (27)
- سبب في الهداية القلبية واليقين الصادق
كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]
قال ابن كثير -رحمه الله-: أَيْ مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَعَلِمَ أَنَّهَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ وَاسْتَسْلَمَ لِقَضَاءِ اللَّهِ، هَدَى اللَّهُ قَلْبَهُ، وعَوَّضه عَمَّا فَاتَهُ مِنَ الدُّنْيَا هُدى فِي قَلْبِهِ، وَيَقِينًا صَادِقًا، وَقَدْ يُخْلِفُ عَلَيْهِ مَا كَانَ أَخَذَ مِنْهُ، أَوْ خَيْرًا مِنْهُ. (28)
- سبب في علو الهمة، وعدم الرضا بالدون، وعدم الرضا بالواقع الأليم:
فالْمُسْلِمُ مَأْمُورٌ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَيَدْفَعُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ أَسْبَابُهُ قَدْ قُدِّرَتْ فَيَدْفَعُ قَدَرَ اللَّهِ بِقَدَرِ اللَّهِ، فعن عَبْد اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه-، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ دَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ ورُقىً نَسْتَرْقِي بِهَا وَأَشْيَاءَ نَفْعَلُهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: ((يَا كَعْبُ بل هي من قدر الله)). (29)
فَهَذَا شَأْنُ الْعَارِفِينَ وَشَأْنُ الْأَقْدَارِ، لَا الِاسْتِسْلَامُ لَهَا، وَتَرْكُ الْحَرَكَةِ وَالْحِيلَةِ، فَإِنَّهُ عَجْزٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، فَإِذَا غَلَبَ الْعَبْدُ، وَضَاقَتْ بِهِ الْحِيَلُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَجَالٌ، فَهُنَالِكَ الِاسْتِسْلَامُ لِلْقَدَرِ. (30)
---
(1) متن الطحاوية بتعليق الألباني (ص: 36)
(2) الأسماء والصفات للبيهقي (1/ 450)
(3) شفاء العليل لابن القيم صـ 29، القضاء والقدر للمحمود صـ 40.
(4) رواه مسلم (2655)
(5) شرح النووي على مسلم (16/ 205)
(6) شرح النووي على مسلم (1/ 155)
(7) فتح الباري لابن حجر (11/ 478)
(8) رواه مسلم (8)
(9) رواه الترمذي (2144) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1258)
(10) رواه الترمذي (2145) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1258)
(11) الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي (ص: 151)
(12) رواه البخاري (6597)
(13) رواه البخاري (6599)
(14) رواه مسلم (2653).
(15) رواه مسلم (2647)
(16) رواه أبو داود (4700) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 405)
(17) رواه مسلم (2654)
(18) الفوائد لابن القيم (ص: 97)
(19) رواه البخاري في خلق أفعال العباد (ص: 46)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 366).
(20) خلق أفعال العباد للبخاري (ص: 46).
(21) رواه مسلم (2999).
(22) صفة الصفوة (1/ 499)
(23) رواه البخاري (3208) ومسلم (2643)
(24) رواه الترمذي (2516) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1318)
(25) رواه أبو داود (4699) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 930)
(26) رواه مسلم (1054)
(27) رواه مسلم (2664)
(28) تفسير ابن كثير (8/ 137)
(29) رواه ابن حبان (6068) وحسنه الألباني لغيره في تخريج مشكلة الفقر (ص: 13)
(30) مدارج السالكين (1/ 218)