باب قطوف من بستان الواعظين: كتاب التبصرة وفن الوعظ (سلسلة الواعظ عدد ربيع الأول1437هـ)
2015-11-10
كتاب التبصرة. . وفن الوعظ
يعتبر كتاب "التبصرة" للإمام ابن الجوزي هو أجمع ما ترك ذلك الإمام العلم في علم الوعظ الذي اشتهر به وغلب عليه. فقد كان ابن الجوزي صاحب ملكة في الوعظ جعلته يؤثر في الناس ويجمع حوله القلوب، وقد صاحبته هذه النزعة منذ نشأته.
وقد كتب الدكتور مصطفى عبد الواحد حول هذا الكتاب القيم مبينا قيمته فقال: أراد ابن الجوزي أن يسجل ملامح هذه الموهبة في كتاب التبصرة الذي أراد منه أن يكون كتابا في "علم الوعظ" يغني عن النظر فيما صنعه بعض الأعاجم من كتب في هذا الموضوع، كما يذكر هو نفسه في مقدمة كتابه.
ومن هنا أراد ابن الجوزي أن يجعل من كتابه مرجعا في هذا العلم يُغني عن النظر فيما سواه فتوسّع فيه ما شاء وتفنن، وجمع فيه بين مواد من الثقافة الإسلامية ونظَمها في سياق لا اضطراب فيه ولا اختلاف.
وقد قسم ابن الجوزي كتابه إلى تسع طبقات تجمع أبوابا كثيرة من جوانب العقيدة والتشريع والأخلاق والقصص والسير، وكلها تحوي مائة مجلس، معظم صدورها تقوم على خبر أو رواية، وأعجازها تقوم على آيات مختارات مما يرقق القلوب ويهذب النفوس والأخلاق.
ولا يذكر لنا ابن الجوزي في مقدمته شيئا عن كتب الوعظ التي ألفت من قبل، وأظن أنه ما سبق ابن الجوزي أحد في هذا الباب إلا أبو حامد الغزالي في كتبه المعروفة، إلا أنه لم ينح بها منحى الصنعة والتفنن في علم بعينه، ولكنه جعلها كتب حقائق ومعارف.
أما ابن الجوزي فإن كتابه هذا يمثل تطور صناعة الوعظ كفن مستقل له خصائصه الأسلوبية وملامحه البديعية التي أثرت فيه وميّزته إلى عهد قريب.
إلا أن كتاب التبصرة لا يمكن اعتباره كتابا خالصا في الوعظ، رغم ما يجمعه من فنونه المتنوعة، ففيه ـ كما أشرت ـ مواد من الثقافة العربية تجعل له قيمة علمية إلى جانب غايته الخلقية:
1- ففيه مادة واسعة من التفسير، تستعرض الأقوال وتحشد الروايات وتفصل الآراء، إذ إن ابن الجوزي في آياته المختارة وفي شرحه لما يبنى عليه مجالسه، يعنى بإيراد أقوال المفسرين على نحو مفصل، ويذكر لكل قول ما يؤيده من رواية، مما نرى فيه نموذجا للتفسير بالنقل والأثر.
2- وفيه مادة لغوية أصيلة ينقلها عن أئمة اللغة والنحو كسيبويه والزجاج والفراء وابن الأنباري وأبو عبيدة، وعمن سبقهم من الصحابة والأئمة، وكذلك يستعين بما يشيع من وجوه القراءات.
3 - وفيه مادة أدبية، هي أوسع ما تضمنه الكتاب، وهي ذلك الشعر الذي جعله ابن الجوزي وسيلته في التأثير والإيحاء.
وهذا الشعر هو أهم مادة قدمها إلينا الكتاب في نظري، من حيث إنه حفظ لنا تراثا أدبيا إسلاميا لم يعن به أصحاب المجموعات والمختارات الأدبية، هو شعر الزهد والرقائق والتأمل والاعتبار، وبعض هذا الشعر معروف النسبة، وهو قليل، مما ينسب إلى أصحابه كأمية بن أبي الصلت وسابق البربري وأبو العتاهية وابن مناذر، وكثير منه لا يعرف قائلة، ولم يرد في المصادر الأدبية المتداولة بين يدي.
ومما يزيد في قيمة هذا الشعر الوارد في كتاب التبصرة، أنه ليس نظما سخيفا ولا تكلفا متمحّلا، وإنما هو ـ في أغلبه ـ شعر يجمع مقاييس الجودة في شكله ومضمونه ويصدر عن عاطفة صادقة ونظرة حكيمة، وما يبطل الوهم الذي كان يسود بين النقاد الأقدمين من أن أعذب الشعر أكذبه! وأن الشعر نَكِد يَضْعف في الخير ويقوى في الشر!
والحق أن ابن الجوزي قد أسدى إلى الأدب الإسلامي صنيعة لا تنكر حين جمع في كتابه هذا الحشد الضخم من المختارات الشعرية التي تصور كيف تمثّل الأدب العربي معاني الإسلام وكيف عبر عن الحقائق التي آمن بها الوجدان العربي، ولو أن ابن الجوزي عُني بنسبة هذا الشعر إلى قائليه لتمت الفائدة ولاستطعنا أن نصدر حكمنا في مواقف العصور الأدبية في قضية الأدب الإسلامي على نحو دقيق.
ويقوى في ظني أن ابن الجوزي قد أورد في هذا الكتاب شيئا من أشعاره هو؛ إذ كان ينظم الشعر، كما ذكر ذلك ابن العماد وابن خلكان، وما كان ليقصر عن النظم في هذا الموضوع الذي ملك عليه اهتمامه وجرى مع طبيعته.
ويمتاز ابن الجوزي في استشهاده بالشعر بحاسة مرهفة تجعله يضع كل شاهد في موضعه الذي يؤثّر فيه غاية التأثير، وذلك دليل على القدرة على الرواية والتذوق الأدبي الصحيح.
4 - ويبقى بعد ذلك مادة الوعظ في الكتاب، وهي تلك المقالات الإنشائية المسجوعة في الغالب، التي ضمنها ابن الجوزي معانيه في الحث على الزهادة والتذكير بالآخرة والتحذير من الذنوب، وهي أغلب المعاني التي ترد في هذه المقالات.
واختيار ابن الجوزي للسجع في هذا الجانب دليل على ما كان للسجع من تأثير على الأسماع، وقد أتى بسجعه طبيعيا غير مستكره، مما يدل على تفننه وامتلاكه لزمام أسلوبه، كما عنى ابن الجوزي في هذه المقالات بالصور البيانية من استعارة وتشبيه وكناية، قصدا إلى التأثير أو الإيضاح.
ولإن كان ذوقنا الأدبي في العصر الحديث لا يرضى عن السجع ولا يؤثره في التعبير، إلا أنه لا يمكن تطبيق هذا المقياس على عصر ابن الجوزي الذي كان يرى في السجع قدرة أسلوبية وخاصة في مواطن التأثير والتحذير.
وابن الجوزي قد عرف في أسلوبه كلا اللونين: المرسل والمسجوع، ويمثل أسلوبه المرسل كتابه: "صيد الخاطر" الذي جعله تأملات طليقة في جوانب الدين والفكر والحياة، فلم يكن يلتزم السجع في كتبه ولكنه رأى ذلك اللون البديعي مناسبا لمجال الوعظ الذي يتطلب التفنن في التأثير والإيحاء، ونحن نعلم أن السجع ليس معيبا لذاته، وإنما يعاب حين يستكره الأسلوب عليه وتضطرب المعاني من أجل الإتيان به، أما حين يأتي مطاوعا للفكرة موائما للسياق فهو محمود مرغوب.
وهكذا نرى في كتاب "التبصرة" مجموعة من ألوان الثقافة الإسلامية والعربية الأصيلة إلى جانب لونه الأدبي الطريف، علاوة على ما فيه من صون لتراث ابن الجوزي وإحياء آثاره.(1)
رحم الله الإمام ابن الجوزي ونفع بعلومه ومؤلفاته
والحمد لله رب العالمين
----
(1) انظر: مقدمة الدكتور مصطفي عبد الواحد لكتاب التبصرة