حـق الـوالـديـن
-مقدمة. - فضل البر وخطر العقوق. - كيفية البر والإحسان.
- صور من بر الأنبياء عليهم السلام والسلف رحمهم الله. - ثمرات البر.
أولا: مقدمة:
إن نفوس بني آدم جُبِلَت على حبّ من أحسن إليها، وليس أعظم إحسانًا وتفضلاً بعد الله تبارك وتعالى من الوالدين، لذا نجد في القرآن الكريم الربط المباشر بين بر الوالدين وعبادة الله، إعلانًا لقيمة البر وعلو قدره ومكانته عند الله، وذلك أن رابطة الأبوة والبنوة هي أول رابطة بعد رابطة الإيمان في القوة والرفعة والأهمية والتأدب(1).
ثانيا: فضل بر الوالدين وخطر العقوق:
ومما يدل على عِظَمِ فَضلِ بر الوالدين: 1- أنه قُرن بتوحيد الله في كتابه: قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا )[النساء: 36]. وقال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) [الإسراء: 23].
قال ابن كثير -رحمه الله-: يَأْمُرُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى خَلْقِهِ فِي جَمِيعِ الْآنَاتِ وَالْحَالَاتِ، ثُمَّ أَوْصَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، جَعَلَهُمَا سَبَبًا لِخُرُوجِكَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَكَثِيرًا مَا يقرنُ اللَّهُ، سُبْحَانَهُ، بَيْنَ عِبَادَتِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ(2).
وقال القرطبي -رحمه الله-: قَرَنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ بِالتَّوْحِيدِ، لِأَنَّ النَّشْأَةَ الْأُولَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالنَّشْءَ الثَّانِيَ - وَهُوَ التَّرْبِيَةُ- مِنْ جِهَةِ الْوَالِدَيْنِ(3).
2-أنه وصية الله لعباده: قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ) [العنكبوت: 8]، وقال: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ) [لقمان: 14]، وقال عزو جل: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ) [الأحقاف: 15].
قال السعدى -رحمه الله-: أي: عهدنا إليه، وجعلناها وصية عنده، سنسأله عن القيام بها، وهل حفظها أم لا(4)؟.
3 - أنه من أفضل الأعمال بعد الصلاة: عَبْدِ اللَّهِ بن مسعُود -رضي الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: (الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا) قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (بِرُّ الوَالِدَيْنِ) قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الحديث(5).
4-أنه آكد من الجهاد ومقدمٌ عليه إذا لم يكن فرض عين: عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنُ الْعَاصِ -رضي الله عنه- قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ، قَالَ: فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلاَهُمَا، قَالَ: فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا(6).
قال ابن القيم -رحمه الله-: لَيْسَ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَنْ يَدَعَ الرَّجُلُ أَبَاهُ يَكْنُسُ الْكُنُفَ، وَيُكَارِي عَلَى الْحُمُرِ، وَيُوقِدُ فِي أَتُّونِ الْحَمَّامِ، وَيَحْمِلُ لِلنَّاسِ عَلَى رَأْسِهِ مَا يَتَقَوَّتُ بِأُجْرَتِهِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْغِنَى وَالْيَسَارِ وَسَعَةِ ذَاتِ الْيَدِ، وَلَيْسَ مِنْ بِرِّ أُمِّهِ أَنْ يَدَعَهَا تَخْدُمُ النَّاسَ، وَتَغْسِلُ ثِيَابَهُمْ، وَتُسْقِي لَهُمُ الْمَاءَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يَصُونُهَا بِمَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهَا(7).
ولئن كان بر الوالدين عملا عظيما، فالعقوق من أكبر الكبائر:
1-أن العقوق حرمه الله في كتابه ولو كان يسيرا: قال تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ) [الإسراء: 23].
قال القرطبي -رحمه الله-: وَإِنَّمَا صَارَتْ قولة: أف للأبوين أردأ شيء لِأَنَّهُ رَفَضَهُمَا رَفْضَ كُفْرِ النِّعْمَةِ وَجَحَدَ التَّرْبِيَةَ ورد الوصية التي أوصاه في التنزيل(8).
قال السعدى -رحمه الله-: وهذا أدنى مراتب الأذى نبه به على ما سواه، والمعنى لا تؤذهما أدنى أذية(9).
وعَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ)(10).
2-أنه من أكبر الكبائر: عَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ) قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ) الحديث(11).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: (يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ)(12).
قال ابن بطال -رحمه الله-: هذا الحديث أصل في قطع الذرائع، وأن من آل فعله إلى محرم وإن لم يقصده فهو كمن قصده وتعمده في الإثم، ألا ترى أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يلعن الرجل والديه؟ فكان ظاهر هذا أن يتولى الابن لعنهما بنفسه، فلما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا سب أبا الرجل وسب الرجل أباه وأمه، كان كمن تولى ذلك بنفسه، وكان ما آل إليه فعل ابنه كلعنه في المعنى؛ لأنه كان سببه(13).
3- العقوق يمنع من دخول الجنة: ففي حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ عاقٌّ)(14). أَيْ مَعَ الْفَائِزِينَ السَّابِقِينَ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَشَدُّ وَعِيدًا مِنْ لَوْ قِيلَ: يَدْخُلُ النَّارَ، لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْهُ الْخَلَاصُ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (عَاقٌّ) بِتَشْدِيدِ الْقَافِ أَيْ مُخَالِفٌ لِأَحَدِ وَالِدَيْهِ فِيمَا أُبِيحَ لَهُ بِحَيْثُ يَشُقُّ عَلَيْهِمَا(15).
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ وَالدَّيُّوثُ)(16).
كما تدين تدان، فإن من بذل البر لوالديه سَخَّرَ الله أبنائه يبروه، وإن عقهم سلط أبناؤه عليه، يجنى ثمرة العقوق في الدنيا قبل الآخرة غالبا، إن لم يتب إلى الله تعالى، ففي الحديث عن أبي بكرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: ((اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين)(17).
كيفية بر الوالدين والإحسان إليهما:
بر الوالدين في حياتهما: قال تعالى: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )[الإسراء: 23 - 24].
قال ابن كثير -رحمه الله-: أَمَر اللهُ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْفِعْلِ الْحَسَن، أي: للوالدين فَقَالَ: ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا﴾ أَيْ: لَيِّنًا طَيِّبًا حَسَنًا بِتَأَدُّبٍ وَتَوْقِيرٍ وَتَعْظِيمٍ. وقوله: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ )أَيْ: تَوَاضَعَ لَهُمَا بِفِعْلِكَ (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا) أَيْ: فِي كبرهما وعند وفاتهما (كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) (18).
قال ابن عثيمين -رحمه الله-: إن بر الوالدين يكون ببذل المعروف والإحسان إليهما بالقول والفعل والمال.
أما الإحسان بالقول فأن تخاطبهما باللين واللطف مستصحبا كل لفظ طيب يدل على اللين والتكريم.
وأما الإحسان بالفعل فأن تخدمهما ببدنك ما استطعت من قضاء الحوائج والمساعدة على شؤونهما وتيسير أمورهما وطاعتهما في غير ما يضرك في دينك أو دنياك، والله أعلم بما يضرك في ذلك فلا تفت نفسك في شيء لا يضرك بأنه يضرك ثم تعصهما في ذلك.
وأما الإحسان بالمال فأن تبذل لهما من مالك كل ما يحتاجان إليه طيبة به نفسك منشرحا به صدرك غير متبع له بمنة ولا أذى بل تبذله وأنت ترى أن المنة لهما في ذلك في قبوله والانتفاع به(19).
وإن بر الوالدين كما يكون في حياتهما يكون أيضا بعد مماتهما:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)(20).
قال النووي -رحمه الله-: أن عمل الميت ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها فإن الولد من كسبه وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف(21).
وعَن ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ، إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ الْحِمَارِ، إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: أَلَسْتَ ابْنَ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ، قَالَ: بَلَى، فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ، وَقَالَ: ارْكَبْ هَذَا وَالْعِمَامَةَ، قَالَ: اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ، فَقَالَ لَهُ: بَعْضُ أَصْحَابِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ أَعْطَيْتَ هَذَا الأَعْرَابِيَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْهِ، وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ. (22) الله أكبر ما أعظم بر الوالدين وأشمله حتى إكرام صديقهما وصلته من برهما.
صور من بر الأنبياء عليهم السلام والصالحين من السلف:
فهذا خليل الرحمن -عليه السلام- لما عارضه أبوه رد عليه بأدبٍ جَمٍ كما ذكر تعالى: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم: 47].
قال القرطبي -رحمه الله-: لَمْ يُعَارِضْهُ إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام- بِسُوءِ الرَّدِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِ عَلَى كُفْرِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِسَلَامِهِ: الْمُسَالَمَةُ الَّتِي هِيَ الْمُتَارَكَةُ لَا التَّحِيَّةُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ أَمَنَةٌ مِنِّي لَكَ(23).
وهذا إسماعيل الذبيح -عليه السلام- ضرب أروع الأمثلة في البر: قال تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].
قال السعدى -رحمه الله-: قوله تعالى: (فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) فإن أمر الله تعالى، لا بد من تنفيذه، (قَالَ) إسماعيل صابرا محتسبا، مرضيا لربه، وبارا بوالده: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أي: امض لما أمرك الله (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) أخبر أباه أنه موطن نفسه عـــــــــــلى الصبر، وقرن ذلك بمشيئة الله تعالى، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله تعالى(24).
وقال عن يحيي -عليه السلام-: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) [مريم: 12-14].
قال الطبري -رحمه الله-: يقول تعالى ذكره: وكان برّا بوالديه، مسارعا في طاعتهما ومحبتهما، غير عاقّ بهما (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) يقول جلّ ثناؤه: ولم يكن مستكبرا عن طاعة ربه وطاعة والديه، ولكنه كان لله ولوالديه متواضعًا متذللًا يأتمر لما أمر به، وينتهي عما نُهِي عنه، لا يَعْصِي ربه، ولا والديه(25).
وذكر سبحانه وتعالى عيسى -عليه السلام- فقال: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [مريم: 32].
قال ابن كثير -رحمه الله-: وَأَمَرَنِي بِبِرِّ وَالِدَتِي، وَقَوْلُهُ: (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) أَيْ: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَبِرِّ وَالِدَتِي، فَأَشْقَى بِذَلِكَ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ -رحمه الله-: الْجَبَّارُ الشقي: الذي يقبل على الغضب(26).
وهذا سيد الأنبياء وخاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي)(27).
وهذه صور من بر الصالحين من السلف: فَعَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ، أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَفَدُوا إِلَى عُمَرَ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنَ الْقَرَنِيِّينَ؟ فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ قَالَ: إِنَّ رَجُلاً يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ، لاَ يَدَعُ بِالْيَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ، قَدْ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ، فَدَعَا اللَّهَ فَأَذْهَبَهُ عَنْهُ، إِلاَّ مَوْضِعَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ، فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ(28).
عَنِ عَبدِ اللهِ بْنِ عَوْنٍ -رحمه الله-: أَنَّهُ نَادَتْهُ أُمُّهُ فَأَجَابَهَا فَعَلَا صَوْتُهَ صَوتَها فَأَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ(29).
وقيل لزين العابدين عليّ بن الحسين -رحمه الله-: أنت من أبرّ الناس ولا نراك تؤاكل أمّك؟ قال: أخاف أن تسير يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه فأكون قد عققتها.
وقيل لعمر بن ذرّ -رحمه الله-: كيف كان بر ابنك بك؟ قال: ما مشيت نهارا قط إلا مشى خلفي، ولا ليلا إلا مشى أمامي، ولا رقي سطحا وأنا تحته(30).
ثمرات بر الوالدين:
1-أنَّه سبب في تفريج الكُرُبات: ففي قصة أصحاب الغار الثلاثة، كان فيهم رجلاً باراً بوالديه فقال: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَامْرَأَتِي، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ، حَلَبْتُ، فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ، فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِيَّ، وَأَنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ، فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بِالْحِلاَبِ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُؤُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللَّهُ مِنْهَا فُرْجَةً، فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ(31).
2-سبب في إجابة الدعاء: وفى حديث عمر -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عن أويس القرني -رحمه الله-: (لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ)(32).
3-أنَّ البر سبب في زيادة العمر: عَنْ سَلْمَانَ الفارسي -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَلاَ يَزِيدُ فِي العُمْرِ إِلاَّ البِرُّ. (33)
5-تحصيل الخير بدعاء الوالدين: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ)(34).
4-أنَّ الوالدين سبب في دخول الجنة: عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ، أَنَّ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ -رضي الله عنه- جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: (هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ ) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا)(35).
وعن أبى الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْهُ)(36).
وعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ-رضي الله عنها-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ قَارِئًا، فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، كَذَلِكُمُ الْبِرُّ، كَذَلِكُمُ الْبِرُّ، وَكَانَ مِنْ أَبَرِّ النَّاسِ بِأُمِّهِ)(37).
---
(1) بروا آبائكم تبركم أبناؤكم لداود بن أحمد العلواني.
(2) تفسير ابن كثير (2/ 297).
(3) تفسير القرطبي (2/ 13).
(4) تفسير السعدي (ص: 648).
(5) أخرجه البخاري (5970) ومسلم(139).
(6) أخرجه مسلم (6599).
(7) زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 490).
(8) تفسير القرطبي (10/ 243).
(9) تفسير السعدي (ص: 456).
(10) أخرجه البخاري (5975).
(11) أخرجه البخاري (5631)، ومسلم (172).
(12) أخرجه البخاري(5628).
(13) شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 192).
(14) صحيح ابن حبان(3384)، وحسنه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (5/ 270).
(15) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 2389).
(16) أخرجه النسائي (2562)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (3071).
(17) أولادنا بين البر والعقوق للشيخ محمد حسان، والحديث رواه البخاري في التاريخ الكبير (494)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 90)
(18) تفسير ابن كثير (5/ 64).
(19) بر الوالدين، للشيخ محمد بن صالح العثيمين.
(20) أخرجه مسلم(4232).
(21) شرح النووي على مسلم (11/ 85).
(22) أخرجه مسلم (6607).
(23) تفسير القرطبي (11/ 111).
(24) تفسير السعدي (ص: 706).
(25) تفسير الطبري (18/ 160).
(26) تفسير ابن كثير (5/ 229).
(27) أخرجه مسلم (2218).
(28) أخرجه مسلم (6582).
(29) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 39).
(30) عيون الأخبار (3/ 111).
(31) أخرجه البخاري (2208)، ومسلم ( 7049).
(32) أخرجه مسلم (6584).
(33) أخرجه الترمذي(2139)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير(7687).
(34) أخرجه ابن ماجه (3862)، وحسنه الألباني في الصحيحة (569).
(35) أخرجه النسائي (3104)، وقال الألباني في إرواء الغليل (5/ 21) الحديث بمجموع طرقه صحيح.
(36) أخرجه الترمذي (1900)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (7145).
(37) البر والصلة للحسين بن حرب (20)، وصححه الألباني في الصحيحة (3371).