الــولاء والبــراء في الإســلام
عناصر الخطبة:
1- معنى الولاء والبراء. 2- مراتب الولاء والبراء وضوابطه.
3- منزلة الولاء والبراء في الإسلام. 4- مظاهر الولاء والبراء.
5- نماذج مضيئة من واقع السلف.
مقدمة: إن الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان؛ فإذا انْتقَضت تلك العروة فلا تَسَلْ عن محل الإيمان من أهل الزمان، قَالَ ابن عقيل الحنبلي -رحمه الله-: إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْلَمَ مَحَلَّ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ فَلَا تَنْظُرْ إلَى زِحَامِهِمْ فِي أَبْوَابِ الْجَوَامِعِ، وَلَا ضَجِيجِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ بِلَبَّيْكَ، وَإِنَّمَا اُنْظُرْ إلَى مُوَاطَأَتِهِمْ أَعْدَاءَ الشَّرِيعَةِ(1).
فما كان لشعيرة الولاء والبراء أن تندرس وتضعف في واقع الكثير من المسلمين إلا بسبب ضعف عبوديتهم ومحبتهم لله تعالى؛ فإن عبادة الله ومحبته هي الأصل، ويتفرع عنها الحبّ والولاء في الله، والبغض والبراء في الله تعالى؛ فكلما كان الشخص أكمل عبودية ومحبة لله تعالى كان أكثر تحقيقاً للولاء والبراء(2).
معنى الولاء والبراء:
الولاء: هو حب الله ورسوله والصحابة والمؤمنين الموحدين ونصرتهم.
والبراء: هو بغض من خالف الله ورسوله والصحابة والمؤمنين الموحدين، من الكافرين والمشركين والمنافقين والمبتدعين والفساق(3).
مراتب الولاء والبراء وضوابطه:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وَالْمُؤْمِنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَادِيَ فِي اللَّهِ وَيُوَالِيَ فِي اللَّهِ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُؤْمِنٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوَالِيَهُ وَإِنْ ظَلَمَهُ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ لَا يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ الْإِيمَانِيَّةَ. فالْمُؤْمِنَ تَجِبُ مُوَالَاتُهُ وَإِنْ ظَلَمَك وَاعْتَدَى عَلَيْك وَالْكَافِرُ تَجِبُ مُعَادَاتُهُ وَإِنْ أَعْطَاك وَأَحْسَنَ إلَيْك؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَيَكُونُ الْحَبُّ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْبُغْضُ لِأَعْدَائِهِ وَالْإِكْرَامُ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْإِهَانَةُ لِأَعْدَائِهِ وَالثَّوَابُ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْعِقَابُ لِأَعْدَائِهِ(4).
الولاء والبراء مُصْطَبِغٌ بسماحة الإسلام ورحمته ووسطيّته، وليس معتقدا يخجل منه المسلمون، بل هو مطلبٌ عادل، لا تخلو أمةٌ تريدُ العزّةَ لأبنائها مِنْ أن تعتقدَه وتتبنّاه منهجا لها، وهو فِطْرةٌ رُكّبَ عليها البشر كلّهم، ولا بُدّ من بقائه على وجه الأرض، ما دام بين الناس اختلافُ عقائد ومناهج، فكل مؤمن موحد ملتزم للأوامر والنواهي الشرعية، تجب محبته وموالاته ونصرته، وكل من حادّ الله ورسوله والصحابة والمؤمنين، من الكافرين والمشركين والمنافقين فيجب بغضه وكرهه، فالمرء يوالى ويعادي على قدر ما عنده من خير وإيمان، أو فسوق وعصيان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: إِذَا اجْتَمَعَ فِي الرَّجُلِ الْوَاحِدِ خَيْرٌ وَشَرٌّ وَفُجُورٌ وَطَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ وَسُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ: اسْتَحَقَّ مِنْ الْمُوَالَاةِ وَالثَّوَابِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَاسْتَحَقَّ مِنْ الْمُعَادَاتِ وَالْعِقَابِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ(5).
- لا يدخل في الموالاة معاملة الكفار في الأمور الدنيوية: فقد دلت النصوص الصحيحة على جواز التعامل مع الكفار في المعاملات الدنيوية كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار والاستعانة بهم عند الحاجة والضرورة على أن يكون ذلك في نطاق ضيق وأن لا يضر بالإسلام والمسلمين. فقد استأجر النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن أرَيْقط هاديًا خِرِّيتًا. والخريت هو الخبير بمعرفة الطريق.
ورهن النبي -صلى الله عليه وسلم- درعه عند يهودي في صاع من شعير، واستعان باليهود الذين كانوا في المدينة في قتال المشركين، وهذا لا يؤثر على الولاء والبراء على أن يلتزم الكفار الذين يقيمون بين المسلمين بالآداب العامة وأن لا يدعوا إلى دينهم(6).
مكانة الولاء والبراء في دين الإسلام:
الولاء والبراء جزء من معنى الشهادة وهي قول: "لا إله" من "لا إله إلا الله".
فإن معناها البراء من كل ما يعبد من دون الله. قال تعالى: »لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ« [البقرة: 256].
قال ابن عثيمين -رحمه الله-: لا يتم الإخلاص لله إلا بنفي جميع الشرك؛ فمن آمن بالله، ولم يكفر بالطاغوت فليس بمؤمن(7).
- عقيدة الولاء والبراء شرط للإيمان: قال تعالى: »تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ« [المائدة: 80، 81].
قال ابن تيمية -رحمه الله-: فَذَكَرَ جُمْلَةً شَرْطِيَّةً تَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْمَشْرُوطُ بِحَرْفِ لَوْ الَّتِي تَقْتَضِي مَعَ الشَّرْطِ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ فَقَالَ: »وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ «فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَذْكُورَ يَنْفِي اتِّخَاذَهُمْ أَوْلِيَاءَ وَيُضَادُّهُ وَلَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَاِتِّخَاذُهُمْ أَوْلِيَاءَ فِي الْقَلْبِ(8).
- عقيدة الولاء والبراء أوثق عرى الإيمان: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «أوثَقُ عُرى الإيمان: الْمُوَالَاةُ فِي اللهِ، وَالْمُعَادَاةُ فِي اللهِ، وَالْحُبُّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللهِ». (9)
- لن يَصِلَ العبدُ إلى كمال الإيمان ولن ينالَ ولايةَ اللهِ إلا بالولاء والبراء: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ». (10) قال المناوي -رحمه الله-: فدلَّ هذا الحديث على أنَّ من لم يحب لله ويبغض لله لم يستكمل الإيمان(11).
قال ابن رجب -رحمه الله-: فَيَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَمَحَبَّةُ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ عُمُومًا، وَيَحْرُمُ مُوَالَاةُ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَمَنْ يَكْرَهُهُ اللَّهُ عُمُومًا، وَبِهَذَا يَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. وَمَنْ كَانَ حُبُّهُ وَبُغْضُهُ وَعَطَاؤُهُ وَمَنْعُهُ لِهَوَى نَفْسِهِ، كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي إِيمَانِهِ الْوَاجِبِ(12).
من مظاهر الولاء للمؤمنين:
1 - مناصرتهم ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان فيما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم: قال تعالى: »وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ« [الأنفال: 72].
2 - التألم لآلامهم والسرور بسرورهم: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَـــــــــــــــى لَــــــــــهُ سَائِـــرُ الْجَسَدِ
بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)(13).
3 - النصح لهم ومحبة الخير لهم وعدم غشهم وخديعتهم: عن أنس -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ)(14).
4- احترامهم وتوقيرهم وعدم تنقصهم وعيبهم: قال تعالى: »يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ« الآية.
5- الرفق بضعفائهم والدعاء لهم والاستغفار لهم(15).
من مظاهر البراء من الكفار:
بغض الشرك والكفر والنفاق وأهله عموما، أن لا يناصر الكفار ولا يعينهم على المسلمين، أن لا يستعين بهم من غير حاجة ولا يتخذهم بطانة له يحفظونه سره، أن لا يشاركهم في أعيادهم وأفراحهم ولا يهنئهم بها وأن لا يستغفر لهم ولا يترحم عليهم، عدم المداهنة والمجاملة لهم على حساب الدين، أن لا يعظم الكافر بلفظ أو فعل، ترك التشبه بالكفار في الأفعال الظاهرة. (16)
من مظاهر الولاء المحرم للكفار:
- الرضى بكفر الكافرين وعدم تكفيرهم أو الشك في كفرهم أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة: قال تعالى: »يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ« [المائدة: 51].
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ -رحمه الله-: لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. قَالَ: فَظَنَنَّاهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ. (17).
قال ابن جرير الطبري -رحمه الله-: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا أَنْ يَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَنْصَارًا وَحُلَفَاءَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنِ اتَّخَذَهُمْ نَصِيرًا وَحَلِيفًا وَوَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فِي التَّحَزُّبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ(18).
- ومن هذه المظاهر أيضا: الاستعانة بهم والثقة بهم وتوليتهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، التسمي بأسمائهم، والتشبه بهم في الملبس والكلام ومما هو من خصائصهم دينا ودنيا، مشاركتهم في أعيادهم الدينية أو مساعدتهم في إقامتها أو تهنئتهم بمناسبتها أو حضور إقامتها(19).
- ثمرات تحقيق الولاء والبراء:
- النجاة من سخط الله تعالى في الدنيا ومن العذاب في الآخرة: قال تعالى: »تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ« [المائدة: 80].
قال ابن كثير -رحمه الله-: يَعْنِي بِذَلِكَ مُوَالَاتِهِمْ لِلْكَافِرِينَ، وَتَرْكَهُمْ مُوَالَاةَ الْمُؤْمِنِينَ، الَّتِي أَعَقَبَتْهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَسْخَطَتِ اللَّهَ عَلَيْهِمْ سُخْطًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ مَعَادِهِمْ. (20)
وقال تعالى محذرا من الركون إلى أهل الكفر قائلاً: »وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ« [هود: 113].
- الأمن من الفتن: قال تعالى: »وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ « [الأنفال: 73].
- حصول النعم والخيرات في الدنيا، والثناء الحسن في الدارين: تأمل قوله تعالى: »فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا« [مريم: 49 - 50].
- تميز المؤمنين وحصول الفرقان بين أولياء الله تعالى وأولياء الشيطان: قال تعالى: »يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ« [المائدة: 51 - 53].
قال السعدي -رحمه الله-: يرشد تعالى عباده المؤمنين حين بيَّن لهم أحوال اليهود والنصارى وصفاتهم غير الحسنة، أن لا يتخذوهم أولياء. فإن بَعْضهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يتناصرون فيما بينهم ويكونون يدا على من سواهم، فأنتم لا تتخذوهم أولياء، فإنهم الأعداء على الحقيقة ولا يبالون بضركم، بل لا يدخرون من مجهودهم شيئا على إضلالكم، فلا يتولاهم إلا من هو مثلهم(21).
- حصول النصر والتمكين والغلبة على الأعداء: قال تعالى: »إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ« [المائدة: 55 - 56].
قال الطبري -رحمه الله-: وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ جَمِيعًا، الَّذِينَ تَبَرَّءُوا مِنَ
الْيَهُودِ وَحِلْفِهِمْ رِضًا بِوَلَايَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِينَ تَمَسَّكُوا بِحِلْفِهِمْ، بِأَنَّ مَنْ وَثِقَ بِاللَّهِ وَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَهُمُ الْغَلَبَةُ وَالدَّوَائِرُ وَالدَّوْلَةُ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ وَحَادَّهُمْ، لِأَنَّهُمْ حِزْبُ اللَّهِ، وَحِزْبُ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ دُونَ حِزْبِ الشَّيْطَانِ(22).
نماذج مضيئة في تحقيق عقيدة الولاء والبراء:
كان لسلف هذه الأمة مواقف أعلنوا فيها بوضوح محبتهم لأهل الإيمان، وبراءتهم من أهل الكفر، وعدواتهم وبغضهم لهم. وهاك بعضها:
1 - إظهار البراءة من المشركين: قال تعالى: »قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ« [الممتحنة: 4].
والتأسي بإبراهيم والذين معه صرح فيه بذكر ثلاثة أمور: الأول: التبرؤ من الكافرين ومما يعبدونه. والثاني: الكفر بهم. والثالث: إظهار العداوة وإعلانها أبداً حتى يؤمنوا بالله وحده.
عَنْ أَبِى مُوسَى -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْت لِعُمَر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إنَّ لِي كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا قَالَ: ما لَك قَاتَلَك اللَّهُ، أَمَا سَمِعْت اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: »يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ« أَلَا اتَّخَذْت حَنِيفِيًّا قَالَ: قُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِي كِتَابَتُهُ وَلَهُ دِينُهُ قَالَ: لَا أُكْرِمُهُمْ إذْ أَهَانَهُمْ اللَّهُ وَلَا أُعِزُّهُمْ إذْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ وَلَا أُدْنِيهِمْ إذْ أَقْصَاهُمْ اللَّهُ(23).
وها هي قصة أبي بكر النابلسي -رحمه الله- لما قام بين يدي جوهر القائد وسأله عن مقالة
بلغته عنه لم تعجبه فأراد أن يستوثق منها فسأل جوهر القائد أبا بكر النابلسي قائلا: بَلَغَنَا أَنَّكَ قُلْتُ: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ عَشْرَةُ أَسهُمٍ، وَجبَ أَنْ يَرْمِيَ فِي الرُّوْمِ سَهْماً، وَفينَا تِسْعَةً. قَالَ: مَا قُلْتُ هَذَا، بَلْ قُلْتُ: إِذَا كَانَ مَعَهُ عَشْرَةُ أَسهُمٍ، وَجبَ أَنْ يرمِيَكُمْ بِتِسعَةً، وَأَنْ يَرمِيَ العَاشرَ فِيْكُمْ أَيْضاً، فَإِنَّكُم غيَّرْتُم الملَّةَ، وَقَتَلْتُم الصَّالِحِيْنَ، وَادَّعَيْتُم الإِلهيَّةِ، فشهرَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ، ثُمَّ أَمرَ يَهُودِيّاً فَسَلَخَهُ، مِنْ مفرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى بُلِغَ الوَجْهُ، فَكَانَ يذكُرُ اللهَ وَيَصْبرُ حَتَّى بلغَ الصَّدْرَ فَرَحمَهُ السَّلاَّخُ، فوكزَهُ بِالسِّكِّينِ مَوْضِعَ قلبِهِ فَقضَى عَلَيْهِ، وَحُشِيَ تِبْناً، وَصُلبَ(24).
2- البراءة من أهل الكفر والمشركين وإن كانوا من الأقربين: لما بلغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ما قاله المنافق عبد الله ابْنُ أُبَيٍّ: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. فقال -صلى الله عليه وسلم- (ادْعُوا لِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ). فَدَعَاهُ، فَقَالَ: (أَلَا تَرَى مَا يَقُولُ أَبُوكَ؟ ) قَالَ: وَمَا يَقُولُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: (يَقُولُ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)؛ فَقَالَ: فَقَدْ صَدَقَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ وَاللَّهِ الْأَعَزُّ وَهُوَ الْأَذَلُّ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ قَدِمْتَ الْمَدِينَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ أَهْلَ يَثْرِبَ لَيَعْلَمُونَ مَا بِهَا أَحَدٌ أَبَرَّ مِنِّي، وَلَئِنْ كَانَ يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَنْ آتِيَهُمَا بِرَأْسِهِ لَآتِيَنَّهُمَا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا). فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ عَلَى بَابِهَا بِالسَّيْفِ لِأَبِيهِ؛ ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ الْقَائِلُ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، أَمَا وَاللَّهِ لَتَعْرِفَنَّ الْعِزَّةُ لَكَ أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَا يَأْوِيكَ ظِلُّهُ، وَلَا تَأْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَقَالَ: يَا لِلْخَزْرَجِ ابْنِي يَمْنَعُنِي بَيْتِي يَا لِلْخَزْرَجِ ابْنِي يَمْنَعُنِي بَيْتِي فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تَأْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ؛ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ فَكَلَّمُوهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَتَوُا النَّبِيّ-صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: (اذْهَبُوا إِلَيْهِ، فَقُولُوا لَهُ خِلِّهِ وَمَسْكَنَهُ)؛ فَأَتَوْهُ، فَقَالَ: أَمَا إِذَا جَاءَ أَمْرُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَنَعَمْ(25). وعند الترمذي: وَاللَّهِ لَا تَنْقَلِبُ حَتَّى تُقِرَّ أَنَّكَ الذَّلِيلُ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- العَزِيزُ، فَفَعَلَ(26).
3 - ثبات المؤمن على عقيدته مع شدة إغراءات أهل الباطل: في قصة عبد الله بن حذافة السهمي -رضي الله عنه- ما يدل على ذلك: فعَنِ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: وَجَّهَ عُمَرُ جَيْشاً إِلَى الرُّوْمِ، فَأَسَرُوا عَبْدَ اللهِ بنَ حُذَافَةَ، فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِم، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ. فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَتَنَصَّرَ، وَأُعْطِيَكَ نِصْفَ مُلْكِي؟ قَالَ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي جَمِيْعَ مَا تَمْلِكُ، وَجَمِيْعَ مُلْكِ العَرَبِ مَا رَجَعْتُ عَنْ دِيْنِ مُحَمَّدٍ طَرْفَةَ عَيْنٍ. قَالَ: إِذاً أَقْتُلُكَ. قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ. فَأَمَرَ بِهِ، فَصُلِبَ، وَقَالَ لِلرُّمَاةِ: ارْمُوْهُ قَرِيْباً مِنْ بَدَنِهِ. وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ، وَيَأْبَى، فَأَنْزَلَهُ، وَدَعَا بِقِدْرٍ، فَصَبَّ فِيْهَا مَاءً حَتَّى احْتَرَقَتْ، وَدَعَا بِأَسِيْرَيْنِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ، فَأَمَرَ بِأَحَدِهِمَا، فَأُلْقِيَ فِيْهَا، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ، وَهُوَ يَأْبَى، ثُمَّ بَكَى. فَقِيْلَ لِلْمَلِكِ: إِنَّهُ بَكَى. فَظَنَّ أَنَّه قَدْ جَزِعَ، فَقَالَ: رُدُّوْهُ. مَا أَبْكَاكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: هِيَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ تُلْقَى السَّاعَةَ فَتَذْهَبُ، فَكُنْتُ أَشْتَهِي أَنْ يَكُوْنَ بِعَدَدِ شَعْرِي أَنْفُسٌ تُلْقَى فِي النَّارِ فِي اللهِ. فَقَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ: هَلْ لَكَ أَنْ تُقَبِّلَ رَأْسِي، وَأُخَلِّيَ عَنْكَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: وَعَنْ جَمِيْعِ الأُسَارَى؟. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَقُلْتُ فِي نفسي: عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ، أُقَبِّلُ رَأْسَهُ يُخَلِّي عَنْي وَعَنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، لا أُبَالِي فَدَنَا مِنْهُ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وَقَدِمَ بِالأُسَارَى عَلَى عُمَرَ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ. فَقَالَ عُمَرُ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ ابْنِ حُذَافَةَ، وَأَنَا أَبْدَأُ. فَقَبَّلَ رَأْسَهُ(27).
إنها عزة المسلم الحق، وثباته عند الشدائد، وعدم تنازله عن دينه؛ حتى لو أدى ذلك إلى موته.
والله من ورائه القصد
---
(1) الآداب الشرعية (1/ 237)
(2) مجلة البيان (169/ 33)
(3) موسوعة المفاهيم الإسلامية (386/ 2)
(4) مجموع الفتاوى (28/ 208)
(5) مجموع الفتاوى (28/ 208)
(6) أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة بتصرف (268)
(7) تفسير العثيمين (3/268)
(8) مجموع الفتاوى (7/ 17)
(9) رواه الطبراني (11587) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 497)
(10) رواه أبو داود (4681) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1034)
(11) فيض القدير (1/ 167)
(12) جامع العلوم والحكم (2/ 398)
(13)صحيح البخاري (6011)، ومسلم (2586).
(14)صحيح البخاري (6065)، ومسلم (2558).
(15) الولاء والبراء والعداء في الإسلام (ص: 47)
(16) الولاء والبراء والعداء في الإسلام (ص: 48)
(17) تفسير ابن كثير(3/132)
(18) تفسير الطبري (8/507)
(19) الولاء والبراء والعداء في الإسلام ( 48)
(20) تفسير ابن كثير (3/ 164)
(21) تفسير السعدي (ص: 235)
(22) تفسير الطبري (8/ 532)
(23) السنن الكبرى للبيهقي (10/ 127)
(24) سير أعلام النبلاء (16/ 149)
(25) تفسير الطبري (22/ 666)
(26) الترمذي (3315)
(27) سير أعلام النبلاء (2/ 14)