وقفات مع سورة الماعون
ليس هذا الدين أجزاء يؤدي منها الإنسان ما يشاء، ويدع منها ما يشاء، إنما هو منهج متكامل، تتعاون عباداته وشعائره، وتكاليفه الفردية والاجتماعية، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعود على البشر، غاية تتطهر معها القلوب، وتصلح الحياة، ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء.
وحقيقة الإيمان حين تستقر في القلب تتحرك من فورها كي تحقق ذاتها في عمل صالح، وقد لفت القرآن الانتباه لمثل هذا، وكرر على أسماعنا ما يصحح المفاهيم، ويضع الأمور في نصابها، لكنه يحتاج منا إلى تأمل وتدبر، فمع سورة مع وجازتها، وقصر آياتها، إلا أنها جمعت فأوعت، لم لا، وهو كلام الحكيم الخبير، هذه السورة الكريمة:
تكشف النقاب عن سريرة المكذبين بالبعث والجزاء، وأن الدافع لهم إلى التكذيب بالآخرة علمهم بأنهم ليسوا على شيء، وخوفهم من سوء العاقبة، لما هم عليه من قبض في اليد، وغفلة وقسوة في القلب، ورياء للناس، وتعالج جوانب عديدة من حياة المسلم المعاصر هو يعترف بها نظرا، ولكن حين الممارسة العملية لا يوجد لها واقعا، وتصحح الفهم في مفهوم العبادة وأنه ليس عبادة تتوقف عند أداء الصلاة والصوم والزكاة والحج، بل العبادة: أداء حق الله، وأداء حق المخلوق، وهما: تقوى الله، والإحسان إلى خلقه.
هذه هي سورة الماعون، قال تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ(6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) ).
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) تفتح السورة بهذا الاستفهام الذي يشوق إلى معرفة من سيق له الكلام، لأَنَّ ذلك مِمَّا يجب على المسلم معرفته، ليحترز عنه وعن فعله، والتعجب من حال المكذبين بالجزاء، وما أورثهم التكذيب من سوء الصنيع والخسران، فالتعجب من تكذيبهم بالدين وما تبع ذلك من الذنوب التي ستأتي.
والدِّين: الجزاء والحساب، أو الثواب والعقاب، أو القرآن، هؤلاء هم الذين ينكرون البعث، فلا يؤمنون بما جاءت به الرسل (وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الواقعة: 47]؟.
حكم في الظاهر على الإنسان في خُلُقِهِ وتعامله مع الناس في مدى صدقه، وحسن تعامله ووفائه، ما الذي يجعله يكذب ويغش ويفعل أفعالاً نكراء لا يبالي بحقوق الناس؟! ليس السبب أنهم لا يؤمنون بالدين، لكن الإيمان بالدين قد غاب عن أذهانهم، لا يشاهد الجنة ولا يشاهد النار كأنه يراها رأي العين، فهو يعيش لدنياه، لذا يظلم ويسرق ويأكل مال الناس ويرتشي، يفعل المنكرات والمحرمات، هناك غفلة، وهناك تغطية على القلب، يراد منه خلع الاعتقاد الباطل، وغرس الاعتقاد الحق.
إن الإيمان بالبعث والجزاء؛ وازع حق يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة، حتى يصير ذلك لها خلقا، تطهر وتنساق للخير لا تحتاج إلى من يراقب أو يعاقب.
ثم تأتي الآية الثانية وكأنها تقول لنا فإن كنتم لا تعرفون المكذب بالدين بذاته، فاعرفوه بصفاته، فمن هذه الصفات: ( فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) يظلمه ويقهره ولا يحسن إليه، يدفعه دفعًا عنيفًا ويزجره زجرًا قبيحًا، مع إظهار الاحتقار له والتَّعالي عليه.
الأيتام الذين مات آباؤهم قبل البلوغ -إذ لا يتم بعد احتلام كما قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-(1)-، في حاجة شديدة إلى من يعطف عليهم، ويرحمهم، ويواسيهم، ويدخل عليهم السرور بما يسديه إليهم من نفقة؛ أو كسوة؛ أو كلمة طيبة، بحاجة إلى من يحفظ أموالهم حال الصغر، ليجدوا ثمرتها في حال الكبر.
فمن كان عنده يتيم فليصبر عليه، وليرحمه، وليقم بحقوقه، لينال الأجر على ذلك، وإن أغلظ لهم القول، وآذاهم -لغير تأديب مشروع- وحرمهم، أو أكل أموالهم ظلما، فقد تعرض لخطر عظيم.
وحقوق الأيتام كثيرة منها على سبيل المثال:
- الرفق بهم وعدم الغلظة، التي تدخل عليهم الهم والحزن، إذ ما هم فيه كاف، والرفق مطلوب في كل وقت، لكنه مع اليتيم آكد، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ)(2).
- تعليمه القراءة والكتابة وأمور الدين، وحسن السلوك، كالصدق والأمانة والشجاعة والكرم، وألا يتكلم إلا بخير، ويعلمه ما لابد منه مما ينفعه ويستطيع فعله، حتى لا يكون عالة على المجتمع، وما يحبه القائم على شأنه لنفسه ولأولاده من الخير، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)(3).
- أن ينفق على اليتيم من ماله الخاص به إن كان له مال، وإلا أنفق عليه من ماله هو ففي ذلك من الأجر والخير ما أخبر به نبينا -صلى الله عليه وسلم- في حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه-: (كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ)(4). والكفالة القيام بأموره من نفقة وكسوة وتربية وغيرها.
- أن يحفظ ماله، وينميه ولا يفرط فيه حتى لا يضيع، ولا يأخذ منه شيئا ظلما، قال الله سبحانه: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفي بِاللَّهِ حَسِيبًا ) [النساء: 6]، وحذر سبحانه من الاعتداء على مال اليتيم بغير حق بأي صورة، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ). [النساء: 9-10].
- لا يُمَكِّن اليتيم من التصرف في ماله، إلا بعد رشده واختباره في التصرف، أيحسنه أم لا؟ قال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا) [النساء: 6]، وليُشهد على دفع أمواله إليه، حتى لا يحصل نزاع وخصومة، قال تعالى: (فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفي بِاللَّهِ حَسِيبًا) [النساء: 6]. إلى غيرها مما يكون فيه الصلاح والنفع، قال سبحانه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ) [البقرة: 220].
لقد أوجب الله عز وجل لليتيم الاحترام والعطف ولذا قال: (فَذَلِكَ) وأشار إليه إشارة إلى البعيد؛ كأنه أبعد عن رحمة الله ومعيته سبحانه وتعالى، والجزاء من جنس العمل، فعلينا أن نرحم اليتيم ونعامله كما نحب أن يعامل أولادنا لو كانوا كذلك.
ومن صفات المكذب بيوم الدين أيضا: ( وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) الحض: الحث، لا يحث على إطعام المسكين أحدا من أهله أو غيرهم من الموسرين، ولا يدعو الناس إلى ذلك، وكني بنفي الحض عن نفي الإطعام؛ لأن الذي يشح بالحض على الإطعام هو بالإطعام أشح.
إن مــن مـحـاسن الإسلام العطف عــــــــلى الضعفــــاء، والشفقة عـلى الفقراء والمساكين، والرأفة باليتامى والمحتاجين، والإحسان إليهم، ودفع الأذى عنهم، وحسن معاملتهم، والتواضع معهم، قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [الشعراء: 215]، وقال: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ )[الضحى 9 -10].
إن حرمان المساكين، ومنع العون للمحتاجين، لا يتصور أن تصدر هذه الأفعال ممن يؤمن بيوم الدين والجزاء، ويخشى الحساب والعقاب! فأهل الإيمان كما قال الله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا )[الإنسان: 8 - 9]، ثم قالوا: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) [الإنسان: 10]، فعلى الإنسان إذا عجز عن مساعدة المسكين أن يحث غيره من القادرين على ذلك ويدعوه إلى فعل الخير، فكلما اقترب المسلم من المساكين كان أدل على صدق إيمانه، وقوة دينه، والتماسا للرزق والنصرة، فعن مصعب بن سعد قال: رَأَى سَعْدُ بنُ أبِي وقَاصٍ -رضي الله عنه- أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ)(5).
فالإحسان إلى الفقير لا يتأتى -غالبا- من النفوس التي لا تبذل إلا بعوض، ولا تكف إلا من خوف، واليتيم والمسكين ضعفاء مجردون من كل ما يمكن أن يمنحونك من مصالح، وليس هناك من يدفع عنهم، وليس لديهما الجزاء الذي ينتظره أولئك منهم على الإحسان إليهم، فإذا لم نستطع مساعدة المسكين، فلنطلب من غيرنا معونته إن استطعنا.
ثم قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) هذه الآية عندما تقرؤها تستوقفك، تأمل كيف افتتحها الله عز وجل بالويل، وهو الهلاك، أو العذاب، أو واد في جهنم؟! فيقف القارئ متدبرا كيف يتوعد الله المصلين بجنهم؟ ثم تأتي الآية الأخرى مجيبة على هذا التساؤل في ذهن الإنسان المتدبر (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ) قال عبد الله ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره: يعني المنافقين، الذين يصلون في العلانية ولا يصلون في السر. قال ابن كثير: أي: الذين هم من أهل الصلاة وقد التزموا بها، ثم هم عنها ساهون، إما عن فعلها بالكلية، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعا، فيخرجها عن وقتها بالكلية، وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائما أو غالبا. وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به. وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل هذا كله، ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية. ومن اتصف بجميع ذلك، فقد تم نصيبه منها، وكمل له النفاق العملي(6).
- في حديث العلاء بن عبد الرحمن أنه دخل على أنس بن مالك -رضي الله عنه- في داره بالبصرة حين انصرف من صلاة الظهر، وداره بجنب المسجد، قال: فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ، قَالَ: أَصَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ؟ فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّمَا انْصَرَفْنَا السَّاعَةَ مِنَ الظُّهْرِ، قَالَ: فَصَلُّوا الْعَصْرَ، فَقُمْنَا، فَصَلَّيْنَا، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا )(7).
لا آثر للصلاة في قلوبهم ولا في أعمالهم، لعدم اهتمامهم بأمر الله، فإن كان هذا حالهم مع أجل الطاعات فإهمالهم لباقي العبادات والقربات أكثر، وتضييعها أسهل.
والسهو -وهو: الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب عنه(8)- في الصلاة لا يخلو منه أحد، أما عنها فشيء آخر، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بنُ أبِي وقَاصٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي سَعْدًا فَقُلْتُ: يَا أَبَهْ )الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) أَسَهْوُ أَحَدِنَا فِي صَلَاتِهِ حَدِيثُ نَفْسِهِ؟ قَالَ سَعْدٌ: )أَوَلَيْسَ كُلُّنَا يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ وَلَكِنَّ السَّاهِي عَنْ صَلَاتِهِ الَّذِي يُصَلِّيهَا لِغَيْرِ وَقْتِهَا، فَذَلِكَ السَّاهِي عَنْهَا(، قَالَ مُصْعَبٌ مُرَّةً أُخْرَى: (تَرْكُهُ الصَّلَاةَ فِي مَوَاقِيتِهَا )(9).
وللصلاة ثمرات يقطفها العبد، تعود عليه ومجتمعه بالخير، إذا ما أدائها تامة كما علمنا نبينا -صلى الله عليه وسلم-، منها:
- الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، وعون على شدائد الدنيا، قال الله عز وجل: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة: 45].
- المصلي لا يكون جزوعا عند الشر، ولا هلوعا عند الخير، ولا منوعا للخير، قال ربنا سبحانه: (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج: 19 - 23].
- الصلاة سبب للنور يوم القيامة، قال تعالى: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) [الحديد: 12]، وعن بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(10).
- يقول ابن القيم -رحمه الله-: للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه. فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه، شدد عليه ذلك الموقف، قال تعالى: (وَمن اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً)(11) [الإنسان: 26 - 27].
وقوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ) الذين يعملون حيث يراهم الناس، ويظهرون أعمالهم ليعجب الناس بها، ويثنوا عليهم، وهذا في غير الفريضة.
قال القرطبي -رحمه الله-: ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة، فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها، لأنها أعلام الإسلام، وشعائر الدين، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت، فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوعا فحقه أن يخفى، لأنه لا يلام تركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا. وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين، فتثني عليه بالصلاح(12).
عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: (تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ)(13).
وقد حـذرنا الله تعالى، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- من الرياء وأخبر بأن المرائي لا يقبل عمله، قال الله سبحانه: (وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) [النساء: 38]، وقال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان: 23].
وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ) قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً)(14).
ومن صفات المكذبين بيوم الدين أيضا أنهم: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) يمنعون ما يعان به الخلق ويصرف في معونتهم كالقلم، والورقة، والإناء وغيره، مع أنه مما يستحب فعله، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، لكن هؤلاء إذا استعارهم أحد ماعونا للحاجة، لا يعيرونه ويعتذرون بمعاذير باطلة، ولا ترق قلوبهم للجياع والمحتاجين.
ومن استعار شيئا فليحافظ عليه وليرده من غير نقص، فإن تلف أو حدث به خلل فليصلحه، أو يرد مثله، أو يعطيه ثمنه، فعلى اليد ما أخذت، في حديث أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: العَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ(15).
خاتمة: إن سورة الماعون تصف شخصية بشرية بأنه: يكذب بالدين، لقد تأثرت الحياة العملية بسوء الحالة الإيمانية أو عدم وجودها من الأصل، فمن اعتقد بالباطل دعّ اليتيم، ولم يحض على طعام المسكين، وسهى عن صلاته، ومنع المعونة عمن يحتاجها.
- فهل للمسلمين الذين يزعمون أنهم يؤمنون بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به أن يقيسوا أحوالهم وما يجدونه من أنفسهم بما يتلون في هذه السورة الشريفة؟ ليعرفوا هل هم من قسم المصدقين أو المكذبين؟.
- إن تقرير البعث في قلوب العباد، وتذكير الناس بالبعث وبيوم القيامة أصل في صلاح الناس، وفي حسن تصرفاتهم؛ لأن هذا المعتقد ينعكس على أفعال العباد فيمنعهم من السرقة والزنا والغش والخداع.
- حقيقة التصديق بالدين تَحَوُّلٌ في القلب يدفعه إلى الخير والبر، لا يراد من الناس كلمات، إنما يراد منهم معها أعمالا تصدقها، وإلا فهي هباء، لا وزن لها ولا اعتبار.
----
(1) أخرجه أبو داود (2873) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: )لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ( الحديث. وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
(2) البخاري (6024)، مسلم (2165/10).
(3) البخاري (13)، مسلم (71/45).
(4) البخاري (5304) واللفظ له، ومسلم (2983/42) من حديث أبي هريرة.
(5) البخاري (2896).
(6) تفسير ابن كثير (8/493).
(7) مسلم (622/195).
(8) العين للفراهيدي (6/149)، تهذيب اللغة للأزهري (6/194).
(9) مسند أبي يعلى (705) بإسناد حسن.
(10) أخرجه: أبو داود (561)، سنن الترمذي (223)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (561).
(11) الفوائد (200).
(12) تفسير القرطبي (20/213).
(13) مسلم (2642/166).
(14) أحمد (23630) بإسناد جيد.
(15) أبو داود (3565)، والترمذي (1265) واللفظ له، والنسائي في الكبرى (5749)، وابن ماجه (2398) وصححه الألباني في صحيح الجامع (4116).