التوكل على الله -(الحلقة الأولى)

2010-11-27

جمال المراكبى

التوكل لغةً مصدر توكل، يتوكل، مأخوذ من مادة وكل، التي تدل على اعتماد على الغير في أمر من الأمور.

قال الراغب: التوكيل أن تعتمد على غيرك وتجعله نائبًا عنك. يُقال: وكل فلان أمره إلى فلان، أي: فوض أمره إليه واعتمد فيه عليه، فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل.

ولا يتوكل الإنسان على غيره إلا إذا اعتقد فيه أشياء: الشفقة والقوة والهداية، فيعلم أن الوكيل يسعى لتحقيق ما ينفعه ويصلحه، ويقدر على تحقيق ذلك، ويعلم السبيل الموصل إلى ذلك، فيثق في قدرته، ويفوض الأمر إليه، والتوكل على اللَّه سبحانه يرتكز على علم العبد أن الله كافلُ رزقهِ ومدبرُ أمره، فيثق في تدبير ربه، ويركن إليه وحده، ولا يتوكل على غيره.

الإيمان والتوكل

التوكل عمل قلبي من أجَلِّ أعمال القلوب وشعبة من شعب الإيمان، يرتكز على معرفة بالله عز وجل الذي لا رب سواه ولا إله غيره، وإيمان بقدرة الله عز وجل الذي له ملك كل شيء يدبر الأمور بحكمته وهو على كل شيء قدير، وإيمان بفضل الله ورحمته وإنعامه على عبده، ولهذا فعلى قدر يقين العبد بتوحيد الرب وقدرته ورحمته يكون توكله على ربه، ويظهر ذلك جليًا في فهمه لكلمة التوحيد: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)).

قال ابن القيم: التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا يتم إلا بها، أولها: معرفة بالرب وصفاته من العلم والقدرة والقيومية.

الثاني: الأخذ بالأسباب، فإن الله عز وجل جعل لكل شيء سببًا.

الثالث: رسوخ القلب في مقام التوحيد، فلا يلتفت إلى غير الله عز وجل.

الرابع: اعتماد القلب على الله، فلا يتعلق بالأسباب، ولكن يعتمد على مدبر الأمر ومسبب الأسباب.

الخامس: أن يحسن العبد ظنه بربه ومولاه، فيعتقد أن تدبيرالله عز وجل له خير من تدبيره لنفسه.

السادس: أن يستسلم لهذا التدبير.

السابع: أن يفوض الأمور كلها لله عز وجل.

الثامن: أن يرضى بقضاء الله عز وجل.

الاستخارة تدريب على التوكل

كان النبي -صلى الله عليه وسلم-  يُعَلِّم أصحابه الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن، لما في صلاة الاستخارة ودعائها من تدريب وتعويد على التوكل على الله، فالمستخير يُعلن عن عجزه عن اختيار ما ينفعه، فيلجأ إلى ربه يطلب منه سبحانه بما لديه من علم تام وقدرة بالغة أن يختار له ما ينفعه وما يصلحه، ثم يثق في اختيار الله عز وجل له، ويرضى بما قدره الله عز وجل له.

وهذا معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-  في دعاء الاستخارة: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم))، فهذا توكلٌ وتفويض: ((فإنك تعلمُ ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب))، فهذا تبرؤ إلى الله من العلم والحول والقوة، وتوسل إليه سبحانه بصفاته التي هي أحب ما توسل إليه بها المتوسلون، ثم سأل ربه أن يقضي له ذلك الأمر إن كان فيه مصلحته عاجلاً أو آجلاً وأن يصرفه عنه إن كان فيه مضرته عاجلاً أو آجلاً، فهذه حاجته التي سألها، فلم يبق عليه إلا الرضى بما يقضيه الله عز وجل له، ((واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به)). [مدارج السالكين (2/128)].

وغالب أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم-  ترشد العبد إلى صدق اللجوء إلى الله والاعتماد عليه في حوائج الدنيا والآخرة، والتبرؤ من حوله وقوته وعلمه وقدرته إلى حول الله تعالى وقوته وعلمه وقدرته وطلب الخير حيث كان والرضى بقضاء الله عز وجل. فمن ذلك.

((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضى والغضب، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)). [النسائي].

الله سبحانه وتعالى نعم الوكيل، والوكيل من أسمائه الحسنى، وهو الذي يتوكل عليه المؤمنون، فيفوضون الأمور كلها إليه ليأتي بالخير، ويدفع الشر، ولهذا فإن من الشرك باللَّه أن يتخذ الإنسان وكيلاً من دون الله عز جل، وقد جاءت آيات القرآن لتحذر من ذلك أشد تحذير، قال تعالى: {وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} [الإسراء: 2]، وقد نفى المولى تبارك وتعالى هذا عن غيره حتى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الزمر: 41].

فالوكيل المفوض في كل الأمور هو اللَّه عز وجل، ولهذا أمر عباده بالتوكل عليه، فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب: 81]، وقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل: 8، 9].

والله سبحانه وتعالى حيٌّ قيوم لا يغفل عن التصريف والتدبير، وهو سبحانه وتعالى عزيزٌ لا يُغلب، فلا يذل من استجار به، ولا يضيع من لاذ بجنابه، حكيمٌ يضع كل شيء في نصابه ولا يقصر عن تدبير أمر من توكل على تدبيره، رحيمٌ أرحم بعبده المؤمن من الوالدة بولدها، فلا يدبر إلا ما يصلحه في الدنيا والآخرة، ولهذا جاءت آيات التوكل مقرونة بهذه الصفات وأمثالها، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58]، وقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49]، وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 217].

والله سبحانه نعم الوكيل، فمن توكل على الله كفاه ما يهمه، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]، وفي الصحيح عن ابن عباس قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم-  حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)). [البخاري (4563)].

فضل التوكل على الله

1- التوكل على الله نصف الدين:

التوكل على الله من أفضل الأعمال القلبية بعد الإيمان واليقين، فلا يقوم الدين إلا على أساس التوكل، وقد أمرنا المولى تبارك وتعالى أن نتوكل عليه في طاعته وعبادته، فعلمنا سبحانه أن نقول في صلاتنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وعلمنا النبي -صلى الله عليه وسلم-  أن نقول بعد كل صلاة: ((رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).

ويقول المؤمنون في دعائهم: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [التغابن: 4]، مقتدين في ذلك بالنبي الكريم شعيب عليه السلام، حيث يقول: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

ولهذا قال ابن القيم: الدين نصفان: عبادة، واستعانة؛ فالعبادة هي الإنابة، والاستعانة هي التوكل على الله.

2- والتوكل على الله تعالى من شعب الإيمان ومن سمات المؤمنين، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، وقال تعالى: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36]، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].

3- والله سبحانه وتعالى يكفي من توكل عليه من كل هم وسوء، قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، وقال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}، فمن كان الله حسبه وكافيه وراعيه فقد فاز فوزًا عظيمًا، ولهذا كفى اللَّه إبراهيم في النار حين قال: ((حسبي الله ونعم الوكيل))، فصارت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب: 25]، وذلك يوم الأحزاب، ونصرهم الله في مواطن كثيرة، سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ}، وذلك حين استجابوا لله وتوكلوا عليه، قال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.‏ ‏فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 172- 174].

وفي الحديث: ((حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، من قالها حين يصبح وحين يمسي سبع مرات كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة)). [أخرجه أبو داود، وابن السني].

4- والله سبحانه وتعالى يحب المتوكلين، ولهذا قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم- : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

5- والله سبحانه وتعالى يضمن للمتوكلين عليه رزقهم لو أحسنوا التوكل عليه، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : ((لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا)). [الترمذي، وقال: حسن صحيح].

6- والله سبحانه وتعالى يضمن للمتوكلين عليه الهداية والكفاية والوقاية، ولهذا أمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم-  أن نعزم التوكل عند خروجنا من البيوت وعند عودتنا؛ لئلا نحرم هذا الفضل. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ((إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. يُقال حينئذ: هديت وكفيت ووقيت. فتتنحى له الشياطين، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجلٍ قد هدي وكفي ووقي)). [أبو داود والترمذي]. وعند دخول البيت يقول: ((بسم الله ولجنا، وبسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا)). [أبو داود].

وفي الصحيح: ((إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء)). [مسلم].

7- وأخيرًا يضمن الله للمؤمنين المتوكلين الجنة، فيدخلهم الجنة بغير حساب ولا عذاب؛ لأنهم حققوا التوحيد قولاً وعملاً، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : ((عُرضت عليَّ الأمم، فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت، فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق. فنظرتُ فإذا سواد كثير، قال: هؤلاء أمتك. وهؤلاء سبعون ألفًا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب. قلت: ولِمَ؟ قال: كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)). فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: ((اللهم اجعله منهم)). ثم قام إليه رجل آخر فقال: ((ادع الله أن يجعلني منهم)). قال: ((سبقك بها عكاشة)). [البخاري، ك الرقاق].

وللحديث بقية إن شاء الله.

عدد المشاهدات 4614