حصار غزة وبادرة أمل

2010-10-05

جمال المراكبى

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن غزة تحت الحصار، والمسجد الأقصى يئن وجدرانه تتصدع، وإخوان القردة والخنازير يحفرون الأنفاق من تحته يبحثون عن هيكلهم المزعوم ويقيمون الجدار العازل يعزلون به الشعب الفلسطيني الباسل، ويمزقون أرضه تمزيقاً، والمسلمون في شتى بقاع الأرض قد أثقلتهم الهموم فلبنان يبحث عن رئيس يجتمع عليه الفرقاء المتنازعون، والسودان يبحث عن الجنوب الضائع، ويئن في دارفور، وباكستان الدولة النووية تنتهي من كارثة قدرية بفعل الزلازل إلى كوارث إنسانية إلى قتل وعنف وتفجيرات واغتيالات. وأفغانستان من الاحتلال الروسي إلى الاقتتال الداخلي ثم الاحتلال الأمريكي، وإندونسيا أكبر الدول المسلمة تغرق في الفيضانات، ودول الخليج تبحث عمن يحميها من أطماع جيرانها، عراق صدام، ثم إيران الثورة التي تسعى لتصدير مذهبها، والدول العربية لا تملك القدرة على اتخاذ القرار الفعال في أي مشكلة من هذه المشكلات، وكلها تعاني المشكلات، ليست غزة وحدها محاصرة، بل إن أمتي كلها محاصرة، قد غلت يدها فهي عاجزة عن الحراك، ولكنها تئن وتتألم فأنينها وآلامها هو الدليل الوحيد على بقائها على قيد الحياة، ليس هذا أول حصار، ولن يكون آخر حصار، لقد حوصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة في شعب أبي طالب، وقد أجمع المشركون على أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب وبني عبد مناف، وأن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يُسلموا إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم ، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة - مثلما تفعل أمريكا اليوم حين تفرض الحصار على أمة أو دولة فتستخرج من مجلس الأمن الدولي وثيقة الحصار - وقد دام حصار المسلمين الأوائل نحو ثلاث سنين حتى بلغ منهم الجهد مبلغه، ومع هذا بقوا صامدين صابرين، حتى قيض الله عز وجل لهذه الصحيفة الظالمة من ينقضها، ولهذا الحصار الشديد من يكسره، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ] [البقرة: 153: 157].

و قال تعالى: [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ] [محمد: 31]. ثم كان الحصار الشديد للمسلمين في المدينة حينما تمالأت عليهم جنود الكفر والشرك وجاءوهم بما لا قبل لهم به، فوفق الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه فحفروا خندقاً وتحصنوا به، وجاء المشركون فنزلوا غربي المدينة قريباً من جبل سلع، ونزلت طائفة منهم في أعالي أرض المدينة كما قال تعالى: [إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا] [الأحزاب: 10].

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين وأسندوا ظهورهم إلى جبل سلع، ووجوههم نحو العدو، والخندق يحول بينهم وبين عدوهم، ثم بلغهم أن يهود بني قريظة قد نقضوا عهدهم وتحالفوا مع المشركين على قتالهم فكان الأمر شديداً لولا أن تداركهم الله عز وجل برحمته فنصرهم ودحر عدوهم وأنزل في ذلك سورة تتلي إلى يوم القيامة وهي سورة الأحزاب وفيها: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً] [الأحزاب: 9-11].

حصــارٌ وانتصـــار

ولكن ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مثل هذا لحصار والخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات واسترجعوا عند المصائب قائلين: «إنا لله وإنا إليه راجعون». فألقى الله عز وجل السكينة في قلوبهم، وألقى الرعب في قلوب أعدائهم، وثبت الله المؤمنين وأيدهم بجند من عنده: [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً] [الأحزاب: 22: 25].

لقد زرع النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه الثقة في الله ونصره وتأييده حتى قبل مجيء الأحزاب فكان يبشرهم وهم يحفرون الخندق بفتح بلاد كسرى وقيصر، فلما رجع الأحزاب خائبين وردهم الله عز وجل فلم ينالوا خيراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم الآن نغزوهم ولا يغزوننا. فهل تعي الأمة اليوم هذا الدرس، وهل نتعلم من الحصار كيف يكون الثبات والصبر واليقين، وكيف تكون الأخوة الإيمانية [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] [الحجرات:10].

إن الحصار يكشف خبايا القلوب، ففي الحصار تظهر معادن الرجال، ويتميز الأشرار من الأخيار، والذين في قلوبهم مرض والمرجفون، عن الرجال الصادقين المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وما بدلوا تبديلا ً. لقد ابتلى الله سبحانه وتعالى إخواننا في غزة بالحصار ليميز الله الخبيث من الطيب، وابتلانا الله عز وجل في مشارق الأرض ومغاربها بهم لينظر ماذا نصنع لإخواننا، فماذا نحن فاعلون ؟ هل نُسلم هؤلاء الضعفاء للخوف والجوع والظلام إلا من بريق القنابل والصواريخ، وضوء الحرائق التي تلتهم البيوت ؟

هل نُسلم إخواننا وننسى قول نبينا صلى الله عليه وسلم : «المسلم أخو المسلم لا يُسلمه ولا يظلمه، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه».ماذا نحن قائلون لربنا عز وجل، والأمة في ثبات عميق فمتى نفيق، وهل أصبحنا أمة لا تستشعر طعم النصر إلا في مباراة للكرة ينشغل بها أهل الفراغ الذين يهونون عظائم الأمور فلا يلقون لها بالاً، ويهولون من صغائر الأمور حتى تملأ القلوب والأسماع والأبصار، فمتى تفيق هذه الأمة من حال الغثائية، وتعلم أن الله عز وجل أراد لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس. لقد اعتدنا في نثل هذا البلاء أن يلقي كل واحد منا باللائمة على غيره، فتلقى الشعوب الغارقة في الوهم باللائمة على قادتها وحكوماتها، ويلقي الحكام والولاة باللائمة على الشعوب، فمتى ستعرف الأمة مصالحها ؟

لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا

وبت أشكوا إلى مولاي ما أجد

فقلت يا أملي في كل نائبة

ومن عليه لكشف الضر أعتمد

أشكو إليك أموراً أنت تعلمها

مالي إلى حملها صبرٌ ولا جَلَدُ

أشكو إليك هواناً عمَّ أمتنا

وعسكر الكفر من أرجائها احتشدوا

يبغون قلع جذور الدين من غدنا

والمسلمون بقاع الأرض قد رقدوا

قد ضيعوا الدين الذي به عزوا

قد فرطوا في قول الله وأعدوا

وقد مددت يدي بالذل مبتهلاً

إليك يا خير من مدت إليه يد

فلا تردنها يا رب خائبة

فبحر جودك يروي كل من يرد

واجمع على الحق والإيمان أمتنا

ولا تردنا يا فرد يا صمد

فلا تلق أخي المسلم باللائمة على غيرك، وسل نفسك ماذا أنت قائل لربك غداً؟وماذا أنت فاعلٌ لنصرة إخوانك ؟ماذا أنت فاعلٌ لنصرة دين الله عز وجل ؟أين أنت من دعوة صالحة تدعو بها لإخوانكم أين أنت من صدقة تواسي بها إخوانك أين أنت من كلمة طيبة تناصح بها ولاة الأمور حتى يعلموا أن وراءهم شعوباً يقظة تعي دورها جيداً وتراقب وتحاسب.

لقد أحسن رئيس الجمهورية - حفظه الله - حين فتح الحدود أمام إخواننا ليتزودوا بالمؤن من طعام ودواء ووقود، فاستجاب لنداء الصالحين واستشعر نبض الأمة فكان على قدر المسئولية، ونحن ننتظر منه ومن إخوانه المزيد فشعوبنا عطشى. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسدد على طريق الحق خطاه، وأن يوفقه لما يحبه ويرضاه. واليوم وأنا أكتب هذه الكلمات يجلس السيد الرئيس مع الفرقاء من فتح وحماس لتوحيد الكلمة ورأب الصدع وتوحيد الجهود، ففي أتون الحصار ينبغي أن تتوحد الجهود وأن ننسى الضغائن والأحقاد. وأقول لإخواننا من المسلمين في كل مكان شعوباً وقادة: نريد دوراً فعالاً وتعاوناً بناءً عسى أن يرفع الله عنا ويدفع كيد أعدائنا، وتخرج أمتنا من دائرة الحصار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

عدد المشاهدات 8261