· حاجة الإنسان إلى الدين: قضت الحكمة الإلهية أن تكتنف الإنسان في الخلق والتكوين قوة تدفعه إلى إدراك الحق وتنير له سبل الخير وتحببه فيه وتدعوه إليه ، والإنسان من هذا الجانب يقترب من الملأ الأعلى الذي صفا طبعه وخلص جوهره من شوائب المادة المظلمة وصار خيرًا كله : ( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُون ) [ الأعراف : 206] .

وقوة تسد عليه منافذ الحق والجمال فيضطرب في حمأة من الجهل وتستأثر به الشهوات والأهواء ويملكه حب الكيد والانتقام ؛ والإنسان من هذا الجانب يقترب من الملإ الأدني الذي خبث طبعه وفُطِر على الشر والإغواء والإضلال والإفساد : ( رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ( 39 ) إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين ) [ الحجر : 39 ، 40] .

هكذا وقع الإنسان بين هاتين القوتين اللتين لابد من أصلهما في هذه الحياة ؛ حياة العمل ، حياة الهدم والبناء .

ولكي يقوى في الإنسان جانب الخير ويظهر في العالم جمال الحق وجلاله ؛ قضت الحكمة الإلهية أن تشد أزره في تنظيم الانتفاع بقوة الشر ، فمنحته مددًا ينظمها ذلك المدد هو هدي الله ، ينزل به الوحي من السماء على صفوة خلقه ليبلغوه ويدعوا إليه : ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى( 123 )وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) [ طه : 123 ، 124] .

ذلكم الهدى هو دين الله الذي رسمه لعباده وأنزله في كل كتبه ، ودعت إليه كل رسله : ( قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) [ آل عمران : 84] ، هو دين الإسلام الذي لا دين عند الله سواه : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [ آل عمران : 85] .

 · عناصر الدين : يتكون هذا الدين أو هذا المدد الإلهي من عناصر أو وحدات ترجع إلى ما يزكي القلب بمعرفة الحق والإيمان به ، وإلى ما ينمي هذه التزكية بتهذيب النفس وترقية الشعور وتصفية الروح وإثارة الوجدان نحو الخير والفضيلة ، وهذه العناصر أو هذه الوحدات هي المعروفة في لسان الإسلام بأركان الدين : ( بني الإسلام على خمس ) ، وهذه الخمس هي : شهادة التوحيد والرسالة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، والصيام .

ولكل وحدة من هذه الوحدات معنى يتوقف وجودها في الإنسان على تحققه وأدب لا ينتفع الإنسان بها في مقاومة الشر والقرب من الملإ الأعلى إلا إذا توخاه وحافظ عليه فيها ، وقد آثرنا بمناسبة شهر رمضان الذي فرض الله صومه أن نتحدث إلى قراء ( التوحيد ) عن وحدة من هذه الوحدات الخمس هي : الصوم في الإسلام .

 · الصوم عبادة قديمة : إن الصوم شأن عرفه الإنسان من قديم الزمان ، عرفه المتدينون وسيلة من وسائل التقرب إلى الله ، وعرفه الوثنيون طريقًا من طرق التهذيب والرياضة ، وهو بعد ليس خاصًا بطائفة دون طائفة ، ولا برسالة دون رسالة ، وإنما هو شأن فطري يشْعر بالحاجة إليه في فترات متتابعة أو متفرقة كلٌّ كائن حي ، وإن اختلفت صوره وأوقاته باختلاف العصور والأمم .

 ·  حقيقة الصوم في الإسلام : والصوم في الإسلام هو الإمساك عن الطعام والشراب والملابسة الجنسية إيمانًا واحتسابًا بالله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وهذه حقيقته وشرطه ووقته ، وقد دل على ذلك قوله تعالى : ( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) [ البقرة : 187] ، فمن أكل أو شرب أو لابس عامدًا فليس بصائم ، ومن أمسك عن هذه الأشياء سهوًا عنها أو حمية لمرض أو اشتغالاً بأمر هام دون نية الصوم لله فليس بصائم .

هذه هي الحقيقة العامة للصوم في نظر الإسلام ، وظاهر أنها من الشئون الخفية التي ليس لها صورة بارزة تُعرف بها كما هو الشأن في الصلاة والزكاة والحج ، ومن هنا كان الصوم سرًّا بين العبد وربه ، هو الذي يَعْلَمُه وهو الذي يحاسب عليه ، ولذلك خصه الله بالإضافة إليه ، وإن كانت كل العبادات إليه ، وقد جاءت أحاديث كثيرة ترغب فيه وتدعو إليه وتصف ما أعده للصائمين من الأجر العظيم .

يقول الله تعالى فيما يرويه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم : ( كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) ، ( إنما يدع طعامه وشرابه وشهوته لأجلي ) .

وإذا كان هذا هو وضع الصوم في نظر الإسلام ، وتلك مكانة الصائم عند ربه ، فليس من المقبول عند الله أن يكون الصائم وقد دخل في حظيرة القدس الإلهي ، وأسلم نفسه إلى عالم السر والنجوى متناقضًا مع نفسه وناقضًا لعهده ؛ فيكون فحاشًا ، أو نمامًا ، أو كذابًا ، أو مغتابًا ، أو منتهكًا للحرمات ، أو مستلبًا للحقوق ، أو أكَّالاً للسحت ، أو سماعًا للكذب ، أو مجاملاً للسفهاء ، أو معضدًا للظالمين ، أو ممكنًا للعابثين المفسدين : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) .

وكم يؤسفني ويؤسف كل مْسْلم غيور أن نرى كثيرًا من الأجانب ينزلون على حكم الأدب العام فيمتنعون عن الطعام والشراب والتدخين أمام الصائمين من المسلمين رعاية لشعورهم ومجاملة لهم في دينهم ، بينما نرى كثيرًا من المسلمين أنفسهم في الشوارع ، في مركبات الترام ، في المقاهي والأندية ، في المكاتب الحكومية ، في مكان عام ينتهكون حرمة الشهر ، ويجرحون الشعور الإسلامي في مظهر الوحدة الدينية ، ويتبجحون باسم الحرية المكذوبة ، فيجاهرون بالإفطار على ملأ من الناس مستهينين بالدين ، مستهينين بالشعور العام ، مستهينين بالآداب : ( أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ) [ البينة : 6] .

 · حكمة الصوم :

فرض الله على المؤمنين صوم شهر رمضان من كل عام ليتخذوا منه سبيلاً للتحلي بخلق المراقبة وخلق الصبر ، فتصدق نيتهم وتقوى عزيمتهم ويثبتوا لحوادث الدهر وما يعترضهم من عقبات في الحياة ، ففي الحياة نوازع الشهوة والهوى ، وفي الحياة دوافع الغضب والانتقام ، وفي الحياة التقلب بين النعماء والضراء ، فيها الفقر بعد الغنى ، والمرض بعد الصحة ، والضعف بعد القوة ، فيها التروح عن الأوطان ومفارقة الأهل والإخوان ، فيها الجهاد في سبيل الله ، ثم في سبيل الذود عن الحمى والكرامة ، فيها كثير من الخطوب والمشاق التي تعترض الإنسان ، فما أحوجه إلى أن يتذرع بخلق الصبر ليثبت ويحتمل ، وما أحوجه إلى أن يتسلح بسلاح المراقبة والرجوع إلى الله ، وتمثل عظمته ليدفع عن نفسه ويذود عن كيانه ، لهذا كله فرض الله صوم رمضان شهرًا متتابعة أيامه ، ليغرس بهذا التتابع ملكة الصبر والمراقبة وجعله في كل عام ليتكرر الدرس وينمو الغرس .

وللمحافظة على آثار الصوم في النفس وجب على الصائم أن يستمر في كل ليلة من ليالي هذا الشهر متدرعًا بالصبر متسلحًا بالمراقبة ، فلا يسرف فيما كان محظورًا عليه بصومه من طعام أو شراب أو لهو أو متاع ، وإلا انطفأ عليه مصباح الإشراق القلبي الذي أحسه في نهاره ، وانسدت عليه سبل التقوى وانقطع عنه التتابع الروحي والتهذيب النفسي ؛ فيعود إلى طغيانه وشره ، ولا يجني من صومه - كما قال الرسول عليه السلام - : ( إلا الجوع والعطش ) ، ويكون بمثابة من يهدم بيساره ما بناه بيمينه .

إذا صام الناس على هذا الوجه تحققت فيهم حكمة الله في التعبد بالصوم ، وكان صومهم كما أراد الله مددًا قويًّا لجند الخير في الإنسان ، به يزكو قلبه وتصفو نفسه وتتهذب روحه ، ويصير منبعًا فياضًا للخير على نفسه وعلى بني جنسه ، ويعيش عيشة راضية سُدَاها المحبة والوئام ، ولُحْمَتُها التعاون والسلام ، وبهذا يقترب الإنسان من الملأ الأعلى ويتلقى الشرائع الإلهية والواجبات الاجتماعية بقوة لا تعرف الضعف ، وثبات لا يعرف الملل ، وإخلاص لا يعرف الرياء ، وإيمان لا يعرف الشك ، فتطيب الحياة ، ويسعد الإنسان .

أيها المسلمون هذه أمانة الله لديكم ووسيلة تربيته لكم ، فأدوها كما أمركم ، وكما رسم لكم : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون ) [ الأنفال : 27] .

( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ) [ البقرة : 183] .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

عدد المشاهدات 9632