الآثار الإيمانية للعبادات

2018-11-01

اللجنة العلمية

الآثار الإيمانية للعبادات

(الآثار الإيمانية للصلاة)

إن الله عز وجل شرع للناس عبادات يتقربون بها إليه، وجعل لهذه العبادات أثرا عظيما في إصلاح قلوبهم وتهذيب نفوسهم، فالعبادات أدوية ناجعة شافية للقلوب؛ مقويات للفضائل ومضادات للرذائل التي قد تصيب النفس من كبر وعجب وشح وحسد وغيرها؛ حتى يحقق المسلم الغاية التي من أجلها خُلِق وهي العبودية والاستسلام لله عز وجل.

يقول ابن القيم عن الشريعة والعبادةُ جزءٌ منها:...هي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل.

فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم.(1)

مفهوم العبادة في الإسلام

مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع شامل، ذكرها الله سبحانه وتعالى في معرض بيان وظيفة الإنسان في هذه الحياة، فحصر فيها حياته، وجعلها الغاية من خلقه، فقال سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]

ولهذا كانت حياة المسلم كلها - كما أرادها الله - عبادة خالصة له سبحانه في جميع جوانبها الخاصة والعامة، والاعتقادية والعملية...فالمسلم عبدٌ لله في كل تحرك

وسكون(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162] (2)

ومن هنا عرف الإمام ابن تيمية العبادة بأنها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.(3)

العبادات بين السلف والخلف

لقد صدق الإمام ابن الجوزي حين قال: يا هذا: بين صلاتك وصلاتهم كما بين وقتك وأوقاتهم.(4)  صدق والله: ففضل عبادتهم على عبادتنا كفضل الثريا على الثرى!

لقد عرف السلف الصالح قيمة العبادات فأسسوها على التوحيد وأحسنوا أداءها فجنوا ثمارها وانتفعوا بفضائلها فقويت صلتهم بربهم فألّف بين قلوبهم، ووحّد بين صفوفهم فسادوا وعزّوا، وكوَّنوا مجتمعا قويّاً متماسكا أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين ونَعِم الجميع في ظله بالأمن والاستقرار والسعادة، أما اليوم فقد استهان كثير من المسلمين بهذه العبادات فتركوها أو أدوها ظاهرا بدون روح، فحرموا فضائلها فقست قلوبهم وانقطعت صلتهم بربهم ففسدت أعمالهم، وساءت معاملاتهم وعاداتهم وتدهورت أخلاقهم، وساروا وراء أهوائهم، وفتنوا بزخارف الحضارة المزيفة والمدنية الكاذبة فظنوا الإباحة حرية والخلاعة رقيّاً فتعدوا حدود العقل والدين، وأغضبوا خالق الأرض والسماء فساءت حالهم وسلط عليه عدوهم (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).(5)

لماذا فقدت العبادات روحها وصارت كالعادات

لعلنا نستطيع أن نرجع هذا التحول الخطير إلى سببين أساسيين: هما:

1 - الخطأ في مفهوم الإنسان لوجوده ووظيفته في هذه الحياة.

2 - تصور المسلم الشعائر التعبدية غايات لا وسائل.

وقد أوضح الله للناس سنته في خلقه فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]

وقال أيضا: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 53]

وليس بعد هذه السنة الكونية القاطعة قول لحكيم ولا تعليل لخبير...فبعد أن كان مفهوم المسلم أنه ما خلق في هذا الكون إلا ليعبد الله عز وجل، ويحقق كمال العبودية في طاعته وخضوعه...

نسي هذه الغاية، وجهل تلك الوظيفة، وتشبه بالحيوانات فجعل أكبر همه في هذه الحياة طعامه وشرابه وشهوته...

فغفل عن الكرامة التي أكرمه الله بها، وجحد نعمة العقل والتكليف، فتغير مفهومه لهذه الحياة...وتبعا لهذا التغير تغير كل شيء: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 59]

وبدلا من أن تكون الشعائر التعبدية عند المسلم وسائل تربوية، ومدارس تدريبية، يعرج بها المؤمن في معارج الكمال، ويصل بها إلى كمال العبودية الحقة فيكون عبدا حقا وصدقا.

بدلا من هذا كله أصبحت هذه الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها...غايات في ذاتها، يحافظ عليها المرء دون أن تكون لها صلة بحياته، ويؤديها ثم ينطلق بعدها كما يريد دون أن يشعر بالتعارض والتناقض.

وأنى لمثل هذا أن يتفكر في حقائقها، وأن يستفيد من دروسها، ما دام ينظر إليها تلك النظرة، ويفهمها ذلك الفهم! !.

مثله في هذا مثل الطفل الصغير الذي يرى المدرسة قيدا لحريته، ولكنه يذهب إليها إرضاء لوالده أو خوفا من عقابه...فأنى له أن يستفيد من مدرسته، وهيهات أن يتخرج من المدرسة - ما دام على هذه الحال - عالما صالحا! !

إنه لن يستفيد منها حتى يعلم حقيقتها، وتتغير نظرته إليها.(6)

الارتباط الوثيق بين العبادات وآثرها

من المعلوم أن العبادات يترتب عليها الثواب والأجر بحسب إتقانها والقيام بها على الوجه المطلوب شرعا وهذا هو الثواب الآجل؛ فكذلك ارتبطت بالعبادات آثار إيمانية تمدُّ القلب بقوته وحياته حتى يظهر أثر ذلك في السلوك والأخلاق بقدر ما أُعطيت العبادة حقها من الإتقان والإكمال، وعلى قدر ما يحدث من خلل وتقصير يظهر أثر ذلك في السلوك والأخلاق.يقول ابن القيم: من تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها.(7)

ويقول ابن عباس -رضي الله عنهما-  يبين آثار الطاعة: إنَّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسَعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق.وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق.(8)

وقال عبد الله بن جابر الخشني: في قول الله تعالى (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل: 97] أي  لنرزقنه طاعةً يجد لذتها في قلبه.(9)

وعن الحسن البصري قال: تفقدوا الحلاوة في الصلاة وفي القرآن وفي الذكر فإن وجدتموها فامضوا وأبشروا وإن لم تجدوها فاعلموا أن الباب مغلق!.(10)

ويقول مالك بن دينار لحملة القرآن: يا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض فإن الله ينزل الغيث من السماء إلى الأرض فيصيب الحُشُّ فتكون فيه الحبَّةُ فلا يمنعها نتنُ موضعها أن تهتز وتخضر وتحسن، فيا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟.(11)

وهذا ابن تيمية يضع لنا ميزانا ظاهرا توزن به الأعمال، يقول ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوةً في قلبك وانشراحا، فاتهمه، فإن الربَّ تعالى شكور.

قال ابن القيم معلقا: يعني أنه لا بد أن يُثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة انشراح وقرة عين.فحيث لم يجد ذلك فعملُه مدخول.(12)

وهذا  ابن القيم يُثمن على كلام شيخه فيقول: كل علم وعمل لا يزيد الْإِيمان والْيقين قُوَّة فمدخول وكل إيمان لا يبْعَث على العمل فمدخول.(13)

ويستعرض الشيخ محمد الغزالي بعض العبادات ليؤكد على أن ظهور أثر العبادات في الواقع هو من أجلِّ مقاصد الشارع للتكليف بهذه العبادات فيقول:

 العبادات التي شرعت في الإسلام، واعتبرت أركانا في الإيمان به ليست طقوسا مبهمة من النوع الذي يربط الإنسان بالغيوب المجهولة، ويكلفه بأداء أعمال غامضة وحركات لا معنى لها، كلا فالفرائض التي ألزم الإسلام بها كل منتسب إليه  هي تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة، وأن يظل مستمسكا بهذه الأخلاق، مهما تغيرت أمامه الظروف.

إنها أشبه بالتمارين الرياضية التي يُقبل الإنسان عليها بشغف، ملتمسا من المداومة عليها عافية البدن وسلامة الحياة.

والقرآن الكريم والسنة المطهرة، يكشفان بوضوح عن هذه الحقائق.

فالصلاة الواجبة: عندما أمر الله بها أَبَان الحكمة من إقامتها فقال تعالي: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).فالإبعاد عن الرذائل، والتطهير من سوء القول وسوء العمل هو حقيقة الصلاة.

والزكاة المفروضة: ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هي أولا غرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات.

وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فتنظيف النفس من أدران النقص، والتسامي بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى.

والصوم: عندما شرعه الإسلام، لم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة، بل اعتبره خطوة إلى حرمان النفس دائما من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

والحج: قد يحسب الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة الذي كُلّف بها المستطيع واعتبر من فرائض الإسلام على بعض أتباعه يحسبه الإنسان رحلة مجردة عن المعاني الخلقية، ومثلا لما قد تحتويه الأديان أحيانا من تعبدات غيبية.وهذا خطأ (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)

هذا العرض المجمل لبعض العبادات التي هي أركان الإسلام، نستبين منه متانة الأواصر التي تربط الدين بالمقاصد والحِكَم.

إنها عبادات متباينة في جوهرها ومظهرها، ولكنها تلتقي عند الغاية والهدف والمقصد.فالصلاة والصيام والزكاة والحج، وما شابه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام، هي مدارج الكمال المنشود، وروافد التطهر الذي يصون الحياة ويعلى شأنها، ولهذه السجايا الكريمة -التي ترتبط بها أو تنشأ عنها- أعطيت منزلة كبيرة في دين الله.فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكِّى قلبه، وينقِّى لُبَّه! ويهذب بالله وبالناس صلته فقد هوى.

وربما قدر الطفل على محاكاة أفعال الصلاة وترديد كلماتها..ربما تمكَّن الممثل من إظهار الخضوع وتصنع أهم المناسك..لكن هذا وذاك لا يغنيان شيئا عن سلامة اليقين، ونبالة المقصد.

والحكم على مقدار الفضل وروعة السلوك يرجع إلى مسار لا يخطئ، وهو الخلق العالي! (14)

أهمية  معرفة و فهم مقاصد العبادات

إن الفهم الصحيح لمقاصد العبادات، وأنها وسائل لا غنى عنها لإحياء القلب بالإيمان، هو الخطوة الأولى على طريق الاستفادة الحقيقية من تلك العبادات، وسيكون من نتاج ذلك الفهم- بإذن الله- البحث عن كيفية إحسان العبادة.

ومن المعلوم أن علماء الأمة اتفقوا علي أن للشعائر مقاصد ومعاني وغايات كلها تصب في مصلحة العباد في دينهم ودنياهم.

يقول العز بن عبد السلام: التكاليف كلها  راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم.(15)

يقول ابن تيمية: من استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد تبين له من ذلك ما يهديه الله إليه (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور).(16)

قال ابن القيم: الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل.(17)

خطورة غياب  فهم مقاصد العبادات

عندما تغيب عن العبد رؤية المقصد من العبادة ويصبح الهدف هو أداء العبادة، بأي شكلٍ كانت، فإن ثمرة العبادة لا تكاد تظهر للوجود، ومن ثمَّ يظل العبد في مكانه؛ فلا يتقدّم في مضمار سباق السائرين إلى الله، ولا يجد حلاوة الإيمان، ولا يشعر بتحسن ملحوظ في سلوكه، لتكون النتيجة: إنسانًا ذو شخصيتين متناقضتين؛ فقدْ تجده كثير الصلاة والصيام والحج والاعتمار، ومع ذلك تجده لا يؤدي الأمانة، ولا يتحرى الصدق، ويسيء معاملة الآخرين، ويحسدهم على كل خير يبلغهم..يصاب بالهلع والفزع مع أدنى هزَّة وأقل فتنة.

يقول ابن القيم: فترى الرجل أزهد ما يكون، وأعبد ما يكون، وأشد اجتهادا، وهو أبعد ما يكون عن الله، وأصحاب الكبائر أقرب قلوبا إلى الله منه، وأدنى منه إلى الإخلاص والخلاص.(18)

هذه المظاهر السلبية وغيرها تدل على أن صاحبها لم يَسْتَفِد من عباداته، ولم يتحسن إيمانه من خلالها، وبالتالي لم ينتج منها الأثر الصحيح الذي من شأنه أن يصلح السلوك والمعاملات.(19)

سل الواقع

ولعل الواقع الحالي للمسلمين خير دليل على أن هناك حلقةً مفقودةً بين العبادات وأثرها؛ فعلى الرغم من كثرة عدد المصلين في المساجد، وعلى الرغم من كثرة المتطوعين بالصيام والصدقات، والمتنفلين بالحج والعمرات، إلا أننا لا نرى الأثر المتوقع لهذه العبادات...فما أسهل أن تجد مصليًا يكذب من أجل تحقيق مصلحة أو دفع مضرة!

وما أكثر أن تجد قارئًا للقرآن متقنًا لتلاوته يسيء معاملة أهله ويذيقهم الويلات تلو الويلات!...وما أكثر وما أكثر.إن وجود هذا الانفصال بين العبادات وأثرها مردُّه - بالأساس - لتعاملٍ غير صحيح مع العبادات بحيث يفرغها من مضمونها الحقيقي، ويقصرها فقط على الناحية الشكلية.(20)

وانظر إلي عاقبة من انفكت عبادته عن مقاصدها وغاياتها فلم يحقق ما تصبوا إليه العبادة.

صلى وزكى وحج واعتمر وصام وقام؛ لكنه ما أحدث تغييرا في داخله، هو متمسك بالدين ظاهرا بعيد عنه كل البعد باطنا وجوهرا ففي الحديث (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ).

إنه كبنَّاء يبني ما يبنيه في يومه ثم يمسي يهدم ما قد بناه فهل يعد هذا انجازا؟! أو كتاجر يملك في محله بضائع بألف وعليه ديون قدرها ألفان، هل يُعد هذا المسكين غنيا، والمتدين الذي يؤدي بعض العبادات بصورة شكلية، وبعدها لا يُؤْمَن شرُّه ولا يُسْلَم من أذاه فكيف يعد هذا تقيا؟!

عندما يصبح همُّ المسلم أن يؤدي العبادات بطريقة شكلية دون الالتفات إلي مقاصدها ودون إحداث تغيير في أخلاقه فلا يجد للعبادة ثمرة، ولا يجد حلاوة الإيمان، وتجد انفصاما في شخصية بعض المسلمين، فقد تجده شخصًا كثير الصلاة والصيام والحج والاعتمار، وفي الوقت نفسه لا يُؤتَمَن علي شيء، ولا يتحَرَّى الصدق، ويُسيء معاملة الآخرين، وتجده قليل الصبر عند البلاء؛ فهو إذا لم يتغير بعبادته ولم يستفد من أدائها.(21)

العبادة التي تؤتي ثمارها وتترتب عليها آثرها

إن السنة الكونية التي بينها الله عز وجل بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]  والتي بينت لنا الداء، وكشفت لنا عن سبب هذا التحول الخطير، هي نفسها مع مثيلاتها من آيات الله توضح له الدواء، وتصف أساليب العلاج.

فكما تحول واقع المسلمين من حسن إلى سيئ تبعا لتغير مفهومهم لحقيقة وجودهم، وتقصيرهم في أداء وظيفتهم...فكذلك تكفل الآية لهم أن يغير الله ما بهم، ويعيدهم إلى ما كانوا عليه من خير إذا ما حققوا ذلك الشرط، وغيروا واقعهم السيئ الذي صاروا إليه، فأصلحوا مفاهيمهم، وقاموا بوظيفتهم حق القيام.

كل هذا يؤكده منطوق هذه الآية، فيشمل التغيير من أسفل إلى أعلى، كما شمل التغيير من أعلى إلى أسفل...

إلا أن هذا التغيير المطلوب ليس بالأمر السهل الهين، وإنما يحتاج إلى جهود عظيمة متواصلة...جهود خاصة يبذلها الدعاة والمربون، وجهود عامة يقوم بها عامة المسلمين...

فعلى الدعاة أولا أن يوضحوا للناس الحكمة من مشروعية هذه العبادات، وكيفية الاستفادة منها، وأن يلمسوا الناس واقعهم السيئ الذي هم في غفلة عنه، والذي سببه جهلهم بحقيقة هذه العبادات وغاياتها، وتحول مفهومهم لها.

وعلى الناس ثانيا أن يتفهموا هذه الحقائق، ويتنبهوا إلى الخطر المحدق بهم، ليؤدوا هذه الشعائر التعبدية عن وعي وفهم، وبخضوع وخشوع، لتؤتي ثمارها في نفوسهم.

ومن ثم تأتي رغبة الأجيال بها، ويقوى حرصهم عليها، إذا لمسوا آثارها في النفوس، وظهرت فوائدها للعيون...

وعندئذ تقل الحاجة إلى الكلام والإقناع؛ لأن الواقع العملي المتحرك أكبر مؤثر في النفوس، والصلاح المنبثق عن العبادة أول داع لها ومحبب فيها...

فلْنُسهم جميعًا في توضيح هذه الحقائق للناس بالوسائل المختلفة، والأساليب المتنوعة، ولنكون من أنفسنا وأهلينا نماذج تطبيقية سليمة تكون الداعية الأولى للصلاح، والمصدق الأكبر لما ندعو إليه، وعندئذ نوفر كثيرا من الجهود، ونجني أطيب الثمار، ونستعيد رضا الله ورحمته التي وعد بها عباده التائبين المؤمنين الحريصين على العمل الصالح فقال سبحانه: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) [مريم: 59، 60]

ونحقق وعد الله لنا بقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).(22)

---

(1) إعلام الموقعين (3/ 12)

(2) تحول العبادات إلى عادات وأثره في حياة المسلمين / محمد أبو الفتح البيانوني / مجلة البحوث الإسلامية (2/ 189)

(3) العبودية (ص: 44)

(4) التبصرة لابن الجوزي (1/ 386)

(5) العبادات في الإسلام وأثرها في إصلاح المجتمع لمحمود شيخون (ص: 98: 99)

(6) مجلة البحوث الإسلامية (2/ 192)

(7) بدائع الفوائد (3/ 193)

(8) مجموع الفتاوى (10/ 630)

(9) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 318)

(10) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (10/ 146)

(11) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 358)

(12) مدارج السالكين (2/ 68)

(13) الفوائد لابن القيم (ص: 86)

(14) منقول من بحث أصول الدعوة - جامعة المدينة (ص: 95)

(15) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 73)

(16) مجموع الفتاوى (21/ 528)

(17) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 11)

(18) مدارج السالكين (3/ 213)

(19) أياما معدودات (ص: 5 )

(20) أياما معدودات (ص: 6 )

(21) أياما معدودات (ص: 5 )

(22) مجلة البحوث الإسلامية (2/ 195).

عدد المشاهدات 6919