خطبة: أوقات الفراغ بين النعمة والنقمة

2018-08-13

اللجنة العلمية

أوقات الفراغ بين النعمة والنقمة

أوقات الفراغ بين النعمة والنقمة

لا مكان للفراغ في حياة المسلم

التحذير من الفراغ وبيان أضراره

كيفية استغلال أوقات الفراغ

يعدُّ وقت الفراغ بالنسبة لكل إنسان منا سلاح ذو حدَّينِ؛ فإما أن نحسن استغلاله ونجني من خلاله ما يجلب لنا السعادة في دنيانا وآخرتنا، فيكون الفراغ بذلك من أعظم النعم بل وسبب تحصيل كل النعم، وإما أن يكون سببا لضياع دين المرء ودنياه، لما اكتسبه في وقت فراغه من المعاصي وقدمت يداه؛ وفى هذا يقول أبو العتاهية:

إِنَّ الشَّبَابَ وَالْفَرَاغَ وَالْجِدَّهْ. . . مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَهْ(1)

ويقول آخر:

لَقَدْ أَهَاجَ الْفَرَاغُ عَلَيْك شُغْلًا. . . وَأَسْبَابُ الْبَلَاءِ مِنْ الْفَرَاغِ(2)

ولذلك فإن العاقل هو من يجعل أعمالَه أكثرَ من أوقاته، حتى لا يجعل للفراغ على نفسه سبيلا، قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8]

أي: إذا فرغتَ من الفرائض فانصب إلى النوافل، وإذا فرغت من الصلاة فانصب إلى الدعاء، وإذا فرغت من جهاد عدوك، فانصب لعبادة ربك، وإذا فرغت من دنياك فانصب إلى العبادة. (3)

المحور الأول: الأصل عند المسلم أنه لا مكان للفراغ في حياته

فالمسلم الذي يحمل همَّ الآخرة في صدره. . لا يمكن أن تراه إلا منشغلاً بما ينفعه. . فهو إما في أداء الواجبات الشرعية، أو في أعماله الدنيوية. . وكل حركاته وسكناته تدور مع رغبته في عبادة الله جل وعلا وتحقيق أمره والتماس رضاه وقربه، فوقت المسلم لا فراغ فيه؛ لأنه يعلم أن الحياة أنفاس معدودة وأيام محدودة، ويوشك أن تنتهي الأيام وتقف الأنفاس وتظهر النتائج، قال تعالى: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84]

قال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ نَعُدُّ أَنْفَاسَهُمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا نَعُدُّ سِنِيَّهُمْ. وقال الضَّحَّاكُ: الْأَنْفَاسُ.(4)

وكَانَ الْحَسَنُ البصريُّ يَقُولُ فِي مَوْعِظَتِهِ: الْمُبَادَرَةَ الْمُبَادَرَةَ، فَإِنَّمَا هِيَ الْأَنْفَاسُ، لَوْ قَدْ حُبِسَت انْقَطَعَتْ عَنْكُمْ أَعْمَالُكُمُ الَّتِي تُقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}. ثُمَّ يَبْكِي وَيَقُولُ: آخِرُ الْعَدَدِ خُرُوجُ نَفْسِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ فِرَاقُ أَهْلِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ دُخُولُكَ فِي قَبْرِكَ. (5)

وهذا هو حال سلفنا ودأبهم، و بذلك أوصوا مَن بعدهم، وإليك بعضا من أخبارهم:

- لما حضر أبا بكر الموتُ دعا عمر -رضي الله عنهما- فقال له: اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عز وجل عملا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار. (6)

وكان عمر بن الخطاب يقول: إني لأرى الرجلَ فيُعجِبُني، فأقول: أَلَهُ حِرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط من عيني. (7)

قال عمر -رضي الله عنه-: إني لأكره أن أرَى أحَدَكم سَبَهْلَلا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة.(8)

وقال عبد الله بن مسعود: ما نَدِمتُ على شيء نَدَمي على يومٍ غربتْ شمسُه، نقص فيه أجَلِي ولم يَزددْ فيه عملي".

وعن الحسن قال أنه قال: أدركتُ أقواما كان أحدُهم أشحّ على عمره منه على درهمه وديناره.(9)

وليس الاستجمامُ عندهم مقصودا لذاته وإنما لإراحة البدن، ليَقوَى على العبادة فيما يُستقبل.

قال أبو الدَّرْداء: إني لأستجِمُّ نفسي بشيءٍ من اللهوِ غيرِ المحرَّم، فيكون ذلك عونًا لي على الحقّ.(10)

وعن وهب بن منبه قال: حقٌّ على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدق عن نفسه، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذتها فيما يحلّ ويجمل، فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات وإجماما للقلوب. (11)

المحور الثاني: التحذير من الفراغ وبيان أضرار ه ومثالبه

وأعني بالفراغ هنا الإهمال والبطالة وتضييع الأوقات وقطع الأعمار بلا فائدة، وهذه بعض مثالب الفراغ وأضراره فمن ذلك:

1- الفراغ كفر لنعمة الوقت والحياة

فالوقت الذي هو الحياة نعمة من أجلّ النعم، فمن أضاعها سدى فقد كفرها وما شكرها

قَال بعضُ الحكماء: مَنْ أَمْضَى يَوْمَهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ قَضَاهُ، أَوْ فَرْضٍ أَدَّاهُ، أَوْ مَجْدٍ أَثَّلَهُ أَوْ حَمْدٍ حَصَّلَهُ، أَوْ خَيْرٍ أَسَّسَهُ أَوْ عِلْمٍ اقْتَبَسَهُ، فَقَدْ عَقَّ يَوْمَهُ وَظَلَمَ نَفْسَهُ. (12)

2- الفراغ سبب أساسي في الكثير من أمراض العصر النفسية والجسمية

لا يختلف الأطباء في أثر الفراغ في الجسم البشري وأنه يؤدي إلى تصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والروماتيزم والجلطات القلبية والدماغية، وكذلك فالفراغ وراء الاكتئاب والقلق النفسي والهم.

3- الفراغ يجعل الإنسان يشعر بأنه لا فائدة له، وأنه عضو مشلول في المجتمع لا ينتج ولا يفيد.

فالإنسان الفارغ لا يترقب شيئاً تهفو إليه نفسه كنتيجة لعمله، فهو بلا هدف في الحياة وأي حياة هذه التي لا هدف لها؟.

4- الفراغ وسيلة من وسائل إبليس لإهلاك الإنسان

فأوقا ت الفراغ هي أكثر الأوقات التي يوسوس فيها الشيطان للإنسان فيثير عنده كوامن الغرائز ويلهبها فتحرقه وتفلت من لجامها لتحرق ما حوله. وهذه حقيقة لا مراء لها.

5- الفراغ سبب للمشاكل الأخلاقية والجريمة

ويشهد بهذا علماء الاجتماع، إذ وجد أن نسبة الجرائم والمشاكل الأخلاقية تتناسب طرداً مع نسبة البطالة في أي زمان ومكان.

6- الفراغ سبب في الوقوع في الذنوب

قال عمر بن الخطاب: الراحة للرجال غفلة وللنساء غلمة (أي محرك للغريزة).

وقال أحد الحكماء: إن يكن الشغل مجهدة، فالفراغ مفسدة. (13)

فكم من أوقات ثمينة تضيع أمام الصفحات، والأفلام والمسلسلات والمكالمات وغير ذلك مما يجلب على الإنسان الهموم والغموم في الدنيا ويعرضه لعذاب الله وسخطه في الآخرة إذا لم يراجع صوابه ويرجع إلى ربه معلنا التوبة من كل ذلك.

7- الفراغ تعطيل للطاقات وإهدار للقدرات

فهذه الأوقات التي تهدر والأوقات التي تُضيَّع نعمٌ سيُسأل عنها الإنسان بين يدي ربه، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ). (14)

المحور الثالث: الصورة الصحيحة في التعامل مع وقت الفراغ؟

إنَّ الفراغ الذي هو خلوُّ الوقت من الشَّواغِل، وخلوُّ القلب من متاعب الدُّنيا وما فيها من مشاكل؛ نعمةٌ من نِعَمِ الله، فإذا مَنَّ الله على العبد براحةٍ من ذلك مثل الإجازات، ونحوها من المناسبات، فصَفَى له الزمان، وتسنَّى له الاجتهادُ فيما يقوى فيه الإيمان، ويتحقَّق به الشُّكران، فليَصرِف فراغَه في مَجالات الخير، ومُباشَرة خِصال البِرِّ، شُكرًا للنِّعمة، واغتِنامًا للمُهلة، وإليك بعض الأبواب لاستثمار وقت الفراغ:

1- حفظ كتاب الله تعالى وتعلمه

وهذا خير ما يستغل به المسلم وقته، وقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على تعلم كتاب الله، فعَنْ عُثْمَانَ بن عفان -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ). (15)

فليحرص المسلم على الالتحاق بحلقات القرآن الدائمة طوال العام، أو الدورات الصيفية التي تُعقد لتحفيظ القرآن خلال الفترة الصيفية.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه). (16)

2- طلب العلم الشرعي

فقد كان السلف الصالح أكثر حرصاً على استثمار أوقاتهم في طلب العلم وتحصيله، وذلك لأنهم أدركوا أنهم في حاجة إليه أكبر من حاجتهم إلى الطعام والشراب، قال الإمام أحمد: الناسُ إلى العلم أحوجُ منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلا الطعام والشراب في اليوم مرةً أو مرتين وحاجتُه إلى العلم بعددِ أنْفاسِه. (17)

قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]

وعن مُعَاوِيَةَ بْن أَبِي سُفْيَانَ -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ). (18)

وقال عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- لتلميذه كميل بن زياد: يا كميل: العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النّفقة، والعلم يزكو بالإنفاق. (19)

وعن ابن مسعود قال: اغدُ عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تكن الرابع فتهلك. (20)

وقال عمر بن عبد العزيز: إن استطعت أن تكون عالماً فكن عالماً فإن لم تستطع أن تكون عالماً فكن متعلماً فإن لم تستطع أن تكون متعلماً فأحبهم فإن لم تستطع فلا تبغضهم. (21)

وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. (22)

3- الإكثار من ذكر الله تعالى

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ). (23)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ) قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: (الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ). (24)

ويتحقق ذلك بالمحافظة على أذكار الصباح والمساء، والأذكار في دبر الصلوات، وغير ذلك من الأوراد والأذكار والأدعية، فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء.

4- صلة الأرحام

فيقوم المسلم بزيارة أقاربه، وإدخال السرور عليهم، والحرص على دعوتهم للخير وتوجيههم إليه، فهذا من أفضل الأعمال التي يحبها الله تعالى. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ). (25)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ). (26)

5- الإكثار من النوافل والطاعات

وهو مجال مهم لاغتنام أوقات العمر في طاعة الله، وباب مهم في تربية النفس وتزكيتها، علاوة على أنه فرصة لتعويض النقص الذي يقع عند أداء الفرائض، وأكبر من ذلك كله أنه سبب لحصول محبة الله للعبد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ). (27)

6 - الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة للمسلمين

والدعوة إلي الله هي وظيفة العمر التي ينبغي للمسلم أن يقضي فيها أوقاته، بل هي القضية التي ينبغي للمسلم أن يعيش ويموت عليها ومن أجلها، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]

وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]

المحور الرابع: المغبونون حقا

إن أعظم شيءٍ يغبن فيه الإنسان هو الصحة والفراغ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ).(28)

تأمل في قوله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: (كثيرٌ مِنَ الناس) فإنه يشير إلى أن الذي يوفق للعمل الصالح، و استغلال أوقات الصحة والفراغ إنما هم قليل، أما أكثر الناس فهم في غبن أي في خسارة وفي ضياع.

قال ابن بطال: معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغاً حتى يكون مكْفّيِاً صحيح البدن، فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يُغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومِنْ شُكْرِه امتثالُ أوامره واجتنابُ نواهيه، فمَن فرّط في ذلك فهو المغبون. (29)

وقال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشُغْلِه بالمعاش، وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسلُ عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغَه وصحتَه في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون، فالفراغ يعْقُبُه الشُّغْل، والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم لكفى. (30)

وقال يحيى بنُ مُعاذٍ: المغْبُونُ مَنْ عطَّلَ أيامَهُ بِالبَطالاتِ وسلَّطَ جَوارحَه علَى الهلَكاتِ، وماتَ قبلَ إِفَاقتِهِ مِنَ الجِناياتِ. (31)

وأخيرا: اغتنم وقتك قبل فوات الأوان

إلى الذين يقتلون أوقاتهم ويضيعون أعمارهم هذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونا جميعا إلى استغلال أوقاتنا وانتهاز الفرصة قبل فوات الأوان، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ).(32)

قال المناوي: يعني: اغتَنِمْ ما تَلقَى نفْعَه بعْدَ مَوْتكَ؛ فإنَّ مَنِ انقَطَعَ عَمَلُه، وفات أَملُه، حُقَّ ندمُه، وتَوالَى همُّه، واغتنمِ العَمَل حالَ الصِّحة، فقد يَمنَع مانعٌ، واغتنمْ فراغَكَ في هذه الدارِ قبْلَ شُغْلكَ بأهوال القيامة، واغتنمِ الطاعةَ حالَ قُدْرتكَ قبْلَ هُجُوم الكِبَر علَيْكَ، فتندم على ما فَرَّطْتَ في جَنْب الله. واغتنمِ التصدُّق بفُضُول مالك قبْلَ عُروض جائحةٍ تُفقِرُكَ، فَتَصِيرَ فقيراً في الدنيا والآخرة.(33)

لَيسَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَوَانِ تَتَأَتَّى صَنَائِعُ الْإِحْسَانِ

فَإِذَا أَمْكَنَتْ فَبَادِرْ إِلَيهَا حَذَراً مِنْ تَعَذُّرِ الْإِمْكَانِ(34)

قال أحد الحكماء: لا تُمضِِ يَومكَ في غير مَنفَعة، فالعُمْر أَقصَرُ مِن أن يَنفَد في غَير المَنافع، والعاقلُ أَجَلُّ مِن أن يُفْنِي أيامه فيما لا يَعُود علَيْه نَفْعُه وخَيْرُه.(35)

---

(1) مدارج السالكين (2/ 129)

(2) أدب الدنيا والدين للماوردي (ص: 55)

(3) تفسير القرطبي (20/ 109) بتصرف

(4) تفسير القرطبي (11/ 150)

(5) قصر الأمل لابن أبي الدنيا (ص: 106)

(6) حلية الأولياء (1/ 36)

(7) ربيع الأبرار ونصوص الأخيار للزمخشري (3/ 115)

(8) مجمع الأمثال لأبي الفضل النيسابوري (1/ 172)

(9) العمر والشيب لابن أبي الدنيا (ص: 81)

(10) إحياء علوم الدين (2/ 30)

(11) العقل وفضله لابن أبي الدنيا (ص: 38)

(12) أدب الدنيا والدين (ص: 55)

(13) أدب الدنيا والدين (ص: 100)

(14) رواه الترمذي (2417) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1221)

(15) رواه البخاري (5027)

(16) رواه مسلم (2699)

(17) مدارج السالكين (2/ 440)

(18) رواه البخاري (71) ومسلم (1037)

(19) أدب الدنيا والدين للماوردي(ص: 42)

(20) الزهد لوكيع (ص: 827)

(21) إحياء علوم الدين (3/ 198)

(22) آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (ص: 72)

(23) رواه الترمذي (3375) وصححه الألباني في تخريج الكلم الطيب (ص: 60)

(24) رواه مسلم (2676)

(25) رواه البخاري (2067) ومسلم (2557)

(26) رواه البخاري (6138)

(27) رواه البخاري (6502)

(28) راه البخاري (6412)

(29) فتح الباري لابن حجر (11/ 230)

(30) فتح الباري لابن حجر (11/ 230)

(31) التبصرة لابن الجوزي (1/ 151)

(32) رواه الحاكم في المستدرك (4/ 341) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 311)

(33) فيض القدير (2/ 16) بتصرف

(34) الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية لابن علان (7/ 144)

(35) أدب الدنيا والدين (ص: 100)

عدد المشاهدات 5647