خطبة : أعمال العشر وتحري ليلة القدر - عدد رمضان1438هـ من كتاب الواعظ

2017-05-21

اللجنة العلمية

أعمال العشر وتحري ليلة القدر

أعمال العشر وتحري ليلة القدر

فضل العشر الأواخر من رمضان

سُـنــة الاعتكاف

ليلة القدر فضلها وعلاماتها

لقد قرب رحيل شهر رمضان عنا، فمن قضى أيامه الماضية وعمَّرها بالأعمال الصالحات فليحمد الله عز وجل أن وفقه لذلك، وليبشر بحسن الثواب والأجر الجزيل من الله، ومن ضيَّع تلك الأيام، ولم يغتنمها فليسارع بالتوبة وطلب المغفرة من الله، فالله عز وجل غفورٌ توابٌ يتوب سبحانه على من تاب، وليغتنم ما بقي منها فإن الله جلَّ شأنه شرع لنا في تلك الأيام عبادات تزيد العبد قربًا من ربه، وتزيد إيمانه قوة، وتضاعف الحسنات في سجلاته، فهذه الأيام العشر فرصة لمن أحسن فيها أن يزداد، وفرصة أيضًا لمن قصر أن يبادر بالتوبة، وهذا من كرم الله عز وجل وفضله على عباده، والأعمال بالخواتيم كما ذُكر عن النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه حيث قال: " وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا"(1).

فضل العشر الأواخر من رمضان:

لقد جاءت نصوص كثيرة فيها الحديث عن فضل العشر الأواخر من رمضان، فمن فضائله أنها حوت خير الليالي التي أنزل فيها خير كتاب نزل على خير نبي، وكفى بذلك شرفًا وفضلاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخلِطُ في غير تلك العشر بين نوم وقيام، لكن إذا دخلت العشر شمَّر عن ساعِد الجدِّ وشدَّ المئزر وأيقظ الأهل وأحيا الليل، كما هو مُدَونٌ في كتب السنة، قالت عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ"(2).

وقولها -رضي الله عنها-: " إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ "، أي: العشر الأواخر من رمضان، " أَحْيَا اللَّيْلَ"، أي: استغرقه بالسهر في الصلاة، فأحياه بِالطَّاعَةِ واحيى نَفْسَهُ بِسَهَرِهِ فِيهِ لِأَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَأَضَافَهُ إِلَى اللَّيْلِ اتِّسَاعًا لِأَنَّ الْقَائِمَ إِذَا حييّ باليقظة احيى لَيْلَهُ بِحَيَاتِهِ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا أَيْ لَا تَنَامُوا فَتَكُونُوا كَالْأَمْوَاتِ فَتَكُونَ بُيُوتُكُمْ كَالْقُبُورِ، "وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ"، أي أيقظهم للصلاة في الليل، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ يَدَعُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ يُطِيقُ الْقِيَامَ إِلَّا أَقَامَهُ(3).

قال ابن بطال: "من الفقه أن للرجل أن يحض أهله على عمل النوافل، ويأمرهم بغير الفرائض من أعمال البر، ويحملهم عليها"(4).

فكل امرئ حريص على إصلاح أهله وبيته، لابد له أن يحثهم على اغتنام تلك الأيام بالطاعات، وهذا من أسباب التعاون على البر والتقوى، وأهلُ الرجل هم أولى الناس بالنصح والإصلاح لأنه عنهم مسئول، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ "(5).

ومعنى: " وَجَدَّ "، أي: جدَّ في العبادة زيادة على العادة، " وَشَدَّ الْمِئْزَرَ"، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى شَدَّ الْمِئْزَرَ فَقِيلَ هُوَ الِاجْتِهَادُ فِي الْعِبَادَاتِ زِيَادَةً عَلَى عَادَتِهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَيْرِهِ، وَمَعْنَاهُ التَّشْمِيرُ فِي الْعِبَادَاتِ يُقَالُ شَدَدْتُ لِهَذَا الْأَمْرِ مِئْزَرِي أَيْ تَشَمَّرْتُ لَهُ وَتَفَرَّغْتُ وَقِيلَ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اعْتِزَالِ النِّسَاءِ لِلِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَاتِ.

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُزَادَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَاسْتِحْبَابُ إِحْيَاءِ لَيَالِيهِ بِالْعِبَادَاتِ(6).

وعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ": كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَجْتَهِدُ في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ في غَيْرِهِ"(7).

وعلى طريق الجدِّ والاجتهاد سار سلفنا، فكانوا سباقين إلي الخيرات، فهذا سفيان الثوري كان يقول: "أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجدَ بالليل و يجتهد فيه و يُنهِضَ أهله، وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك "(8).

وعن ليل الصالحين وقيامهم حدِّث، قال ابن المبارك:

إذَا مَا الَّليلُ أظلَمَ كَابَدُوه فيسفرُ عنهمُ وهمُ ركوعُ

أطَارَ الخَوفُ نومَهُم فَقَامُوا وَأهلُ الأمنِ فِي الدُنَيا هُجُوعُ

لَهُم تَحتَ الظَّلامِ وَهُمْ سُجُودٌ أنِينٌ مِنهُ تَنفَرجُ الضُّلُوعُ

وَخُرسٌ بالنَّهارِ لِطُولِ صمتٍ عليهِم منْ سكينتهمْ خشوعُ(9).

وفي الأيام العشر الأواخر من رمضان تشرع طائفة من العبادات، كالاعتكاف وتحري ليلة القدر، والإكثار من تلاوة القرآن، والاجتهاد في القيام، والإكثار من الإنفاق في سبيل الله.

فأما الإكثار من تلاوة القرآن ففيه كبير ثواب، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن قراءة حرف من كتاب الله يعدل عشر حسنات والله يضاعف لمن يشاء، كما أن قارئ القرآن ينال الشفاعة به وبالصيام كما في الحديث، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو-رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ"(10).

وأما الإكثار من الإنفاق في سبيل الله، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، كما أخبر بذلك ابْنِ عَبَّاسٍ-رضي الله عنهما-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ(11). ولنا في نبينا -صلى الله عليه وسلم- أسوة كما أخبر بذلك سبحانه بقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]

سُـنــة الاعتكاف:

والاعتكاف لغة: اللبث وملازمة الشيء أو الدوام عليه خيراً كان أو شراً.

ومنه قوله تعالى: { {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138]

وقوله سبحانه: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة: 187]

والاعتكاف شرعًا: اللبث والمكث في المسجد للعبادة، بنية مخصوصة، على كيفية مخصوصة(12).

واتفق أهل العلم على أن الاعتكاف مشروع وأنه قربة(13).

وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضًا إلا أن يوجبه المرء على نفسه، فيجب عليه"(14). ومعنى "إلا أن يوجبه على نفسه" أي: بالنذر.

والحِكْمَةُ من تشريع الاِعْتِكَافِ: أن فِيهِ تَسْلِيمُ الْمُعْتَكِفِ نَفْسَهُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبَ الزُّلْفَى، وَإِبْعَادَ النَّفْسِ مِنْ شُغْل الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ مَانِعَةٌ عَمَّا يَطْلُبُهُ الْعَبْدُ مِنَ الْقُرْبَى، وَفِيهِ اسْتِغْرَاقُ الْمُعْتَكِفِ أَوْقَاتَهُ فِي الصَّلاَةِ إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، لأَِنَّ الْمَقْصِدَ الأَْصْلِيَّ مِنْ شَرْعِيَّةِ الاِعْتِكَافِ انْتِظَارُ الصَّلاَةِ فِي الْجَمَاعَاتِ، وَتَشْبِيهُ الْمُعْتَكِفِ نَفْسَهُ بِالْمَلاَئِكَةِ الَّذِينَ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَيُسَبِّحُونَ اللَّيْل وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ(15).

وقال ابن القيم: " شُرع لهم الاعتكاف الذى مقصودُه وروحُه عكوفُ القلبِ على الله تعالى، وجمعيَّتُه عليه، والخلوةُ به، والانقطاعُ عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذِكره وحبه، والإقبالُ عليه فى محل هموم القلب وخطراته، فيستولى عليه بدلَها، ويصير الهمُّ كُلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكره، والتفكُر فى تحصيل مراضيه وما يُقرِّب منه، فيصيرُ أُنسه بالله بدَلاً عن أُنسه بالخلق، فيعده بذلك لأُنسه به يوم الوَحشة فى القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرحُ به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم"(16).

من لم يتيسر له الاعتكاف كاملً سائر ليالي العشر، فلا يحرم نفسه من الاعتكاف ولو جزئي في يوم أم ليلة، وليحرص على القيام والتراويح، وليغتنم الأوقات في هذه الليالي بأي عمل من أعمال البر وهي كثيرة ولله الحمد.

ليلة القدر فضلها وعلاماتها:

ليلة القدر من أعظم الليالي على الإطلاق، جاء في فضلها آيات وأحاديث كثيرة، عن أبي هريرة-رضي الله عنه-، قال: لمّا حَضر رمضانُ قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "قد جاءكمَ رمضان، شهرٌ مباركٌ، افترض الله عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبوابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ"(17).

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " فَقَدْ حُرِمَ. . . "، أي منع الخير كله كما سيجيئ صريحاً ففيه مبالغة عظيمة. والمراد حرمان الثواب الكامل أو الغفران الشامل الذي يفوز به القائم في أحياء ليلها. قال الطيبي: اتحد الشرط والجزاء دلالة على فخامة الجزاء، أي حرم خيراً كثيراً، لا يقادر قدره(18). وقد أخفى الله عز وجل هذه الليلة في العشر الأواخر لما له سبحانه من الحكم، ليعظم الاجتهاد في تحريها ويكثر العمل بالطاعات، والإكثار من الثواب فيها، قال الفخر الرازي: " أَخْفَى اللهُ تَعَالَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْفَاهَا، كَمَا أَخْفَى سَائِرَ الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّهُ أَخْفَى رِضَاهُ فِي الطَّاعَاتِ، حَتَّى يَرْغَبُوا فِي الْكُلِّ، وَأَخْفَى غَضَبَهُ فِي الْمَعَاصِي لِيَحْتَرِزُوا عَنِ الْكُلِّ، وَأَخْفَى وَلِيَّهُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى يُعَظِّمُوا الْكُلَّ، وَأَخْفَى الْإِجَابَةَ فِي الدُّعَاءِ لِيُبَالِغُوا فِي كُلِّ الدَّعَوَاتِ، وَأَخْفَى الِاسْمَ الْأَعْظَمَ لِيُعَظِّمُوا كُلَّ الْأَسْمَاءِ، وَأَخْفَى قَبُولَ التَّوْبَةِ لِيُوَاظِبَ الْمُكَلَّفُ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ التَّوْبَةِ، وَأَخْفَى وَقْتَ الْمَوْتِ لِيَخَافَ الْمُكَلَّفُ، فَكَذَا أَخْفَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ لِيُعَظِّمُوا جَمِيعَ لَيَالِي رَمَضَانَ.

وثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَوْ عَيَّنْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَأَنَا عَالِمٌ بِتَجَاسُرِكُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَرُبَّمَا دَعَتْكَ الشَّهْوَةُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَوَقَعْتَ فِي الذَّنْبِ، فَكَانَتْ مَعْصِيَتُكَ مَعَ عِلْمِكَ أَشَدَّ مِنْ مَعْصِيَتِكَ لَا مَعَ عِلْمِكَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَخْفَيْتُهَا عَلَيْكَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِذَا عَلِمْتَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنْ أَطَعْتَ فِيهَا اكْتَسَبْتَ ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسب عِقَابَ أَلْفِ شَهْرٍ، وَدَفْعُ الْعِقَابِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الثَّوَابِ.

وَثَالِثُهَا: أَنِّي أَخْفَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ حَتَّى يَجْتَهِدَ الْمُكَلَّفُ فِي طَلَبِهَا، فَيَكْتَسِبَ ثَوَابَ الِاجْتِهَادِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي الطَّاعَةِ فِي جميع ليالي رَمَضَانَ، عَلَى رَجَاءِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَيُبَاهِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ، وَيَقُولُ: كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِيهِمْ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ فَهَذَا جِدُّهُ وَاجْتِهَادُهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَظْنُونَةِ، فَكَيْفَ لَوْ جَعَلْتُهَا مَعْلُومَةً لَهُ! فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ سِرُّ قَوْلِهِ تعالى: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [الْبَقَرَةِ: 30] (19).

وقد خص الله عز وجل هذه الليلة بعدة خصائص منها:

1-أنزل الله فيها القرآن جملة واحدة:

قال ابن عباس وغيره: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلًا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(20).

2-وصفها ربنا بأنها خيرٌ من ألف شهر:

فقال سبحانه: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، ووصفها بأنها مباركة، فقال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]

3-ذكر ربنا تبارك وتعالى أن الملائكة تتنزل بكثرة في هذه الليلة:

قال تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} أي: يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له. وأما الروح فقيل: المراد به هاهنا جبريل-عليه السلام - فيكون من باب عطف الخاص على العام. وقيل: هم ضرب من الملائكة(21).

4-وصفها ربنا بأنها سلامٌ:

فقال تعالى: { سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] قال ابن كثير: هي سالمة، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى(22).

5-أن الله يغفر لمن قامها إيمانًا واحتسابًا ما تقدم من ذنبه:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ

مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(23).

قوله: "إيمانًا"، يريد تصديقًا بفرضه وبالثواب من الله تعالى، على صيامه وقيامه، وقوله: "احتسابًا"، يريد بذلك يحتسب الثواب على الله، وينوى بصيامه وجه الله، وهذا الحديث دليل بين أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تتقبل إلا مع الاحتساب وصدق النيات(24).

كيف نتحرى ليلة القدر؟

قد حثَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته في تحريها في العشر الأواخر من رمضان، وحثهم على طلبها، وإصابة فضلها بالعبادة والطاعة.

عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ(25).

وعن ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْتَمِسُوهَا في الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي(26).

قوله -صلى الله عليه وسلم-: " الْتَمِسُوهَا في الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ"، سميت ليلة القدر بما تقدر فيها من الأقدار، وما يكون فى تلك السنة من الأرزاق والآجال بقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}، ولقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، ومعنى ذلك - والله أعلم - إظهار ما قدره الله فى أزله من ذلك لحملة وحيه وملائكة سماواته، ونفوذ أمره بذلك لهم ووحيه، أو إظهار ما شاء من أفعاله الدالة على ذلك عندهم، وإلا فقدر الله وسابق علمه بالآجال والأرزاق وقضاؤه بما كان ويكون لا أول له. وقيل: سماها بليلة القدر، أي ذات القدر العظيم، والمحِل الشريف كما قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر}، وكما قال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَة} فسماها بهذا لنزول القرآن جملة فيها إلى سماء

الدنيا وثبات خيرها ودوامُهُ، وهو يعنى البركة(27).

قوله -صلى الله عليه وسلم-: " فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي"، ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض الأحاديث ما يدل على شدة تحري ليلة القدر فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا عَلِمَ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَأَخْبَرَ بِهِ، ثُمَّ أُعْلِمَ أَنَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَأَخْبَرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ مَا قَدَّمْنَا أَوَّلًا أَنَّهُ حَضَّ عَلَى الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَنْ لَهُ بَعْضُ الْقُوَّةِ وَحَضَّ عَلَى السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِيَامِ جَمِيعِ الْعَشْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ(28).

أي الليالي تكون ليلة القدر؟

اختلف العلّماء في ليلة القدر وفي تعينها وفي ميقات رجائها على أقوال عدة:

والصّحيح منها: أنها لا تُعْلَمُ، لكن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قد حَضَّ على رمضان، وحَضَّ بالتَّخْصِيصِ العشر الأواخر، وكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُحْيي فيها لَيْلَهُ ويُوقظ أهلَهُ ويشدّ مئزره، وصدَقَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أنّها في العَشرِ الأَوَاخِرِ.

وفي الحديث دَلِيلٌ على أنّها متنقِّلَةٌ غير مخصوصة بليلةٍ(29).

وقال القاضي عبد الوهّاب المالكي: "ليلة القدر في العشر الأواخر، وليس فيها تعيين

ثابت. خلافاً لمن عين، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (التمسوها في العشر الأواخر)، وروي: (من كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)، وهذا ينفي التعيين.

وهي باقية غير مرتفعة بموت النبي -صلى الله عليه وسلم- خلافاً لمن قال إنها زائلة، لقوله: (التمسوها في العشر الأواخر)، فعمَّ كل وقت، ولأنها من شعائر الإسلام كسائر الشعائر"(30).

علامات ليلة القدر:

1-تطلع الشمس صبيحتها لا شعاع لها:

لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا"(31).

2-يطلع القمر فيها مثل شق الجفنة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ، وَهُوَ مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ؟ "(32).

3-تكون ليلة معتدلة لا حارة ولا باردة:

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْد اللَّه -رضي الله عنه-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي كُنْتُ أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ

نُسِّيتُهَا وَهِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ لَيْلَتِهَا، وَهِيَ لَيْلَةٌ طَلْقَةٌ، بَلْجَةٌ، لَا حَارَّةٌ، وَلَا بَارِدَةٌ"(33).

4-لا يرمى فيها بنجم:

عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ-رضي الله عنه-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ بَلَجَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، وَلَا سَحَابٌ فِيهَا وَلَا مَطَرٌ وَلَا رِيحٌ، وَلَا يُرْمَى فِيهَا بِنَجْمٍ"(34).

وَقَدْ رُوِيَ فِي عَلَامَاتِهَا: {أَنَّهَا لَيْلَةٌ بلجة مُنِيرَةٌ} وَهِيَ سَاكِنَةٌ لَا قَوِيَّةُ الْحَرِّ وَلَا قَوِيَّةُ الْبَرْدِ وَقَدْ يَكْشِفُهَا اللَّهُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي الْمَنَامِ أَوْ الْيَقَظَةِ. فَيَرَى أَنْوَارَهَا أَوْ يَرَى مَنْ يَقُولُ لَهُ هَذِهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَقَدْ يُفْتَحُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْأَمْرُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ(35).

وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَنْ يَكْتُمَهَا، ويدعو بإخلاص نية وصحة يقين بما أوجب مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا، وَيَكُونُ أَكْثَرُ دُعَائِهِ لِدِينِهِ، وَآخِرَتِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِنْ رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ بِمَاذَا أَدْعُو؟ فَقَالَ: تَسْأَلِي اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ(36).

وعَنْ عَائِشَةَ-رضي الله عنها-، قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ؟ قَالَ: قَوْلِي: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي"(37).

---

(1) أخرجه البخاري(6493) واللفظ له، ومسلم(6833). عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ-رضي الله عنه-.

(2) أخرجه مسلم(1174).

(3) انظر فتح الباري لابن حجر (4/ 269)، ومختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر لمحمد بن نصر المروزي(ص: 247).

(4) شرح صحيح البخارى لابن بطال (4/ 159).

(5) أخرجه مسلم(4828).

(6) شرح النووي على مسلم (8/ 70)، فتح الباري لابن حجر (4/ 269).

(7) أخرجه مسلم(2845).

(8) لطائف المعارف لابن رجب(ص: 207(.

(9) ديوان عبد الله بن المبارك (ص: 14).

(10) أخرجه أحمد(6626)، وصححه الألباني في الجامع الصغير(7329).

(11) أخرجه البخاري(6).

(12) وانظر الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي(3/ 121). ورسالة في الفقه الميسر لصالح غانم(ص: 66).

(13) اختلاف الأئمة العلماء لابن هبيرة(1/ 259).

(14) الإجماع لابن المنذر (ص: 50).

(15) الموسوعة الفقهية الكويتية(5/ 207).

(16) زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم(2/ 87).

(17) أخرجه أحمد(7148)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (55).

(18) انظر شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1576)، ومشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح (6/ 822).

(19) مفاتيح الغيب للفخر الرازي(32/ 229).

(20) تفسير ابن كثير(8/ 441).

(21) تفسير ابن كثير(8/ 444).

(22) تفسير ابن كثير(8/ 444).

(23) أخرجه البخاري(1901).

(24) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/ 21).

(25) أخرجه البخاري(2017)، ومسلم(2833).

(26) أخرجه البخاري(2016)، مسلم(2829) وهذا لفظ مسلم.

(27) إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض(4/ 142).

(28) المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي(2/ 88).

(29) المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 267).

(30) الإشراف على نكت مسائل الخلاف لعبد الوهّاب المالكي (1/ 451).

(31) أخرجه مسلم(179)، من حديث أبي بن كعب-رضي الله عنه-.

(32) أخرجه مسلم(222).

(33) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه(2190)، والطيالسي في مسنده(2802)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير(5475).

(34) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير(139)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (5472).

(35) مجموع الفتاوى لابن تيمية(25/ 286).

(36) الحاوي الكبير للماوردي(3/ 484). والحديث أخرجه الترمذي(3513)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

(37) أخرجه النسائي في الكبرى(7665)، وصححه الألباني في الجامع الصغير(7873).

عدد المشاهدات 4716