خطبة: طوبى للغرباء (سلسلة الواعظ عدد صفر 1437هـ)

2015-11-10

اللجنة العلمية

طوبى للغرباء

طوبى للغرباء

عناصر الخطبة:

1- مقدمة. 2- تعريف الغربة. 3 – لماذا الغربة.

4- مظاهر الغربة. 5- صفات أهلها. 6- واجبنا نحوها

مقدمة: لقد جاء الإسلام والناس في غربة شديدة، فثبت الصحابة رضوان الله عليهم أمام تلك الغربة وأهلها، وتمسكوا بدين الله عز وجل رغم ما لاقوه من شدائد وآلام، حتى تغلبوا على تلك الغربة، وقضوا عليها في مدة وجيزة، وأقاموا دولة الإسلام، ولكن أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الغربة سوف تعود، وها هي قد عادت بكل مظاهرها، فلزاماً على المسلم الحق أن يقف أمام هذه الغربة، وأن يثبت في وجهها، وذلك بالثبات على دين الإسلام كما ثبت عليه الصحابة رضوان الله عليهم. (1)

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلي الله عليه وسلم-،: (بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ). (2)

تعريف الغربة:

الغربة: هي الانفراد بوصف يخرج العبد عن أبناء جنسه فيكون بينهم غريبا إما بصلاحه بين الفاسدين أو بفساده بين الصالحين والمقصود هنا غربة أهل الصلاح.

وكثير من الأنبياء ومن سار على دربهم عاشوا الغربة في دعوتهم، قال تعالى{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13، 14]

وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ مُؤْمِنًا وَحْدَهُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ. (3)

وهذا شعيب عليه السلام يحرص قومه على إخراجه {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88]

وهذا لوط يتوعده قومه بالطرد من بلاده { قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ } [الشعراء: 167]

وهذا خاتم الأنبياء -صلي الله عليه وسلم-، تعقد المؤامرات لنفيه أو قتله { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال: 30]

- حقيقة مهمة: الغربة مرحلة، وليست سُنة لا تزول.

بعض المسلمين عندما يسمعون أحاديث الغربة، يتبادر إلى أذهانهم أن هذا الدين قد انحسر بالكلية عن مواقعه، وأنه ضعُف واستكان، ولم يعد له مفعول قوي، وأن عودته للظهور البارز وسرعة الانتشار، بات أمراً بعيد المنال، وهذا الفهم ليس بصحيح ولا سليم، فغربة الدين ما هي إلا مرحلة عارضة، تمر منها الأمة، ولا تستقر فيها ولا تدوم عليها، ثم تعود إلى المرحلة الطبيعية التي هي انتشار هذا الدين بين العالمين، وبلوغُه ما بلغ الليل والنهار. (4)

**لماذا الغربة؟

حتى يتميز الصف فما من دعوة إلا وينضوي تحت لوائها الصادق والكاذب، والمخلص وغير المخلص، ومن جاء لدنيا ومن يريد الآخرة، لذلك لابد من التمحيص{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]

وقال تعالى{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3]

- أنواع الغربة:

أ - غربة الفهم الشامل للإسلام

فالكثير أصبح الإسلام في نظره هي الصلاة والصيام والحج فقط، وبعضهم لقصر نظره للإسلام جعل الدين لا يتعدى أبواب المساجد!. ونسي هؤلاء أن الإسلام منهج يشمل كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس، قال تعالى{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]

ب- ومن غربة الدين أن يتنازل عنه البعض لأجل أي متاع حقير.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا)). (5)

ج- ومن غربة الدين ذهاب الصالحين حتى لا يذكر اسم الله

عَنْ مِرْدَاسٍ الأَسْلَمِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ، أَوِ التَّمْرِ، لاَ يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً). (6)

وعَنْ أَنَس بن مالك -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلي الله عليه وسلم-، قَالَ: (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ، اللهُ )). (7)

د- ومن غربة الدين أن يُكرم المفسدون ويهان المصلحون.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-،: (سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ)، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: (الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ). (8)

هـ- ومن غربة الخلق ندرة أهل الأمانة.

عَنْ حُذَيْفَةَ بن اليمان -رضي الله عنه-، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ -صلي الله عليه وسلم-، حَدِيثَيْنِ قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ حَدَّثَنَا: (( أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ)، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَةِ قَالَ: " يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ - ثُمَّ أَخَذَ حَصًى فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ - فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ: مَا أَجْلَدَهُ مَا أَظْرَفَهُ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ دِينُهُ، وَلَئِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ لِأُبَايِعَ مِنْكُمْ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا )). (9)

**صفات أهل الغربة.

- أنهم صالحون مصلحون لما أفسده غيرهم.

* عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-،: (إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ) قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الَّذِينَ

يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ). (10)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-، قَالَ: ( إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا وَيَرْجِعُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي). (11)

- أنهم متمسكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم

قال ابن القيم -رحمه الله-: وَمِنْ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءِ الَّذِينَ غَبَطَهُمُ النَّبِيُّ -صلي الله عليه وسلم-،: التَّمَسُّكُ بِالسُّنَّةِ، إِذَا رَغِبَ عَنْهَا النَّاسُ، وَتَرْكُ مَا أَحْدَثُوهُ. (12)

* عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلي الله عليه وسلم-، قَالَ: (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ زَمَانَ صَبْرٍ، للمُتَمَسِّكِ فِيهِ أَجْرُ خَمْسِينَ شَهِيدًا)، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (مِنْكُمْ). (13)

قال ابن القيم رحمه الله: وَهَذَا الْأَجْرُ الْعَظِيمُ إِنَّمَا هُوَ لِغُرْبَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ بَيْنَ ظُلُمَاتِ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ. (14)

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-،: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ). (15) قال أبو بكر بن عياش -رحمه الله-: السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان. (16)

وقال يونس بن عبيد -رحمه الله-: ليس شيء أغرب من السنة وأغرب منها من يعرفها. (17)

- هم قلة مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ.

* عن عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ-رضي الله عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ عِنْدَهُ: (( طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، فَقِيلَ: مَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أُنَاسٌ صَالِحُونَ، فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ)). (18)

قال الأَوْزَاعِيُّ -رحمه الله-: أَمَا إِنَّه مَا يَذْهَبُ الإسلامُ، وَلَكِنْ يَذْهَبُ أَهْلُ السُّنَةِ، حَتَّى مَا يَبْقَى فِي الْبَلَدِ مِنْهُم إِلاّ رَجُلٌ وَاحِدٌ. (19)

وعن سفيان الثوري -رحمه الله- قال: استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء. (20)

- هم الجماعة مع قلتهم.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ، إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ: الْجَمَاعَةُ )). (21)

قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ -رحمه الله-: قال لي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، أَتَدْرِي مَا الْجَمَاعَةُ؟ قُلْت: لَا، قَالَ: إنَّ جُمْهُورَ الْجَمَاعَةِ هُمْ الَّذِينَ فَارَقُوا الْجَمَاعَةَ، الْجَمَاعَةُ مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَإِنْ كُنْت وَحْدَك.

وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: إذَا فَسَدَتْ الْجَمَاعَةُ فَعَلَيْك بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ قَبْلَ أَنْ تَفْسُدَ، وَإِنْ كُنْت وَحْدَك، فَإِنَّك أَنْتَ الْجَمَاعَةُ حِينَئِذٍ. (22)

- هم الطائفة المنصورة الظاهرة

عن مُعَاوِيَةَ بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ). (23)

**واجبنا في زمن الغربة:

ـ الدعوة إلى الله وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

فالواجب على العلماء وطلبة العلم أن يتحملوا المسئولية تجاه دينهم، وأن يتجردوا لله عز وجل، وأن يقموا بالدعوة إلى الله حقّ القيام، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]

وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-، قَالَ لعَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-: ( فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ). (24)

وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلي الله عليه وسلم-: (مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ ). (25)

- الإكثار من الدعاء والتضرع وسؤال اللهَ التثبيت على الصراط المستقيم

قال تعالى{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]

قال ابن القيم -رحمه الله-: فهذا الدعاء يتضمّن بَيَان أَنَّ العَبْد لَا سَبِيل لَهُ إِلَى سعادته إِلَّا باستقامته على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم، وَأَنه لَا سَبِيل لَهُ إِلَى الاسْتقَامَة إِلَّا بهداية ربِّه لَهُ، وكَمَا أنه لَا سَبِيل لَهُ إِلَى عِبَادَته إلا بمعونته، فَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى الاسْتقَامَة على الصِّرَاط إِلَّا بهدايته. (26)

- لزوم طريق الحق ولو كان سالكوه قلة

قال تعالى{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي

الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100]

قال الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رحمه الله-: عَلَيْكَ بِطَرِيقِ الْحَقِّ، وَلَا تَسْتَوْحِشْ لِقِلَّةِ السَّالِكِينَ، وَإِيَّاكَ وَطَرِيقَ الْبَاطِلِ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ ".

- استحضر بقلبك أنَّ الدنيا ليست لمؤمن وطناً:

قال ابن رجب -رحمه الله-: لَمَّا خُلِقَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُسْكِنَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أُهْبِطَا مِنْهَا وَوُعِدَا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا، وَصَالَحُ ذَرِّيَّتِهِمَا، فَالْمُؤْمِنُ أَبَدًا يَحِنُّ إِلَى وَطَنِهِ الْأَوَّلِ، كَمَا قِيلَ:

كَمْ مَنْزِلٍ لِلْمَرْءِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى. . . وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ. (27)

ولذلك قال رَسُولُ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم- ، لعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: (إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ). (28)

فشبه الإنسان في الدنيا بالمسافر، وكذلك هو على الحقيقة؛ لأن الدنيا دار نقلة وطريق إلى الآخرة. (29)

وكَانَ عَطَاءٌ السُّلَيْمِيُّ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ فِي الدُّنْيَا غُرْبَتِي، وَارْحَمْ فِي الْقَبْرِ وَحْشَتِي، وَارْحَمْ مَوْقِفِي غَدًا بَيْنَ يَدَيْكَ. (30)

فالجنة هي الوطن، والأوطار إنما تطلب في الأوطان، أما الدنيا فهي دار غربة منذ أهبط إليها الأبوان.

فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا. . . مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ

وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى. . . نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنَسْلَمُ. (31)

- تذَكَّرْ دائماً أنَّ الدنيا سجن المؤمن:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ). (32)

قال النووي: مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مَسْجُونٌ مَمْنُوعٌ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ مُكَلَّفٌ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ الشَّاقَّةِ فَإِذَا مَاتَ اسْتَرَاحَ مِنْ هَذَا وَانْقَلَبَ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ النَّعِيمِ الدَّائِمِ وَالرَّاحَةُ الْخَالِصَةُ مِنَ النُّقْصَانِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّمَا لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا حَصَّلَ فِي الدُّنْيَا مَعَ قِلَّتِهِ وَتَكْدِيرِهِ بِالْمُنَغِّصَاتِ فَإِذَا مَاتَ صَارَ إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ وَشَقَاءِ الْأَبَدِ. (33)

- اجعل نصب عينيك دائماً ما أعدَّه الله للصابرين في الجنة:

قال تعالى{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10] وأعظم أنواع الصبر على الإطلاق الصبر على طاعة الله في زمن تمرَّد فيه الكثير من الناس على طاعة ربهم وخالقهم.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ )). (34)

- تذَكَّرْ دائماً ما لاقاه أهل الغربة الأولى من الشدة والعناء:

عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنَ المُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللهَ لَنَا؟ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، و الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ). (35)

- لابد من الثقة بموعود الله ورسوله أنَّ المستقبل للإسلام:

قال الله تعالى {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 32، 33]

قال الشيخ الألباني رحمه الله: تبشرنا هذه الآية الكريمة بأن المستقبل للإسلام بسيطرته وظهوره وحكمه على الأديان كلها، وقد يظن بعض الناس أن ذلك قد تحقق في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين والملوك الصالحين، وليس كذلك، فالذي تحقق إنما هو جزء من هذا الوعد الصادق. (36)

عَنْ ثَوْبَانَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا)). (37)

وعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ)). (38)

----

(1) دروس للشيخ عبد الله الجلالي (31/ 1)

(2) رواه مسلم (145)

(3) تفسير البغوي (5/ 50)

(4) مجلة البيان (221/ 5)

(5) رواه مسلم (118)

(6) رواه البخاري (6434)

(7) رواه مسلم (148)

(8) رواه ابن ماجه (4036) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 681)

(9) رواه البخاري (6497) ومسلم (143)

(10) رواه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن للداني (3/ 633) والآجري في الغرباء (ص: 15) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 267)

(11) رواه الترمذي (2630) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (ص: 208)

(12) مدارج السالكين (3/ 188)

(13) رواه الطبراني في الكبير (10394) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 444)

(14) مدارج السالكين (3/ 189)

(15) رواه الترمذي (2260) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1326)

(16) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 73)

(17) كشف الكربة في وصف أهل الغربة (ص: 319)

(18) رواه أحمد (2/ 177) وصححه الألباني في صحيح الجامع(2/ 728)

(19) كشف الكربة في وصف أهل الغربة (ص: 319)

(20) كشف الكربة في وصف أهل الغربة (ص: 319)

(21) رواه ابن ماجه (3993) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 409)

(22) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 308)

(23) رواه مسلم (1037)

(24) رواه البخاري (3701) ومسلم (2406)

(25) رواه مسلم (1017)

(26) الفوائد لابن القيم (ص: 19)

(27) جامع العلوم والحكم (2/ 379)

(28) رواه البخاري (6416)

(29) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 97)

(30) جامع العلوم والحكم (2/ 379)

(31) جامع العلوم والحكم (2/ 379)

(32) رواه مسلم (2956)

(33) شرح النووي على مسلم (18/ 93)

(34) رواه مسلم (2807)

(35) رواه البخاري (3612)

(36) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 31)

(37) رواه مسلم (2889)

(38) رواه أحمد (4/ 103) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة(1/ 32)

عدد المشاهدات 7789