حرمة اتخاذ القبور مساجد

0000-00-00

محمد عبد العزيز

□■حرمة اتخاذ القبور مساجد■□

د. محمد عبد العزيز

إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا ... وبعد:

فإن شريعة الإسلام جاءت بالتوحيد الخالص من شوائب الشرك، وسدت كل ذريعة (وسيلة) تفضي إليه، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من أهل العلم من أهل السنة والجماعة، ومن الذرائع المفضية إلى الشرك اتخاذ القبور مساجد:

ـ وسواء في ذلك بناء المساجد على القبور.

ـ أو بإدخال القبور إلى المساجد.

والأدلة على ذلك متضافرة أكتفي منها بذكر عشرة أحاديث:

1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» أخرجه مسلم (530).

2 ـ عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أدخِلوا عليَّ أصحابي.

فدخلوا عليه وهو مُتقنِّعٌ ببُردةِ مُعافريٍّ، فكشف القناعَ، فقال: لعن اللهُ اليهودَ والنَّصارَى اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجد». أخرجه أحمد (21822).

ببُردةِ مُعافريٍّ: برود باليمن منسوبة إلى معافر، وهي قبيلة باليمن.

3 ـ عن عائشة، وعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قالا: «لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه.

فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

يحذر ما صنعوا».

أخرجه البخاري (435) (3453)، (4443)، (5815)، ومسلم (531).

4 ـ عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

لولا ذلك أبرز قبره غير أنه خَشِيَ - أو خُشِيَ - أن يتخذ مسجدًا» أخرجه البخاري (1390)، (4441).

5 - عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» أخرجه البخاري (437)، ومسلم (530).

6 - عن عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ: أن أم حبيبة، وأم سلمة ـ رضي الله عنهن ـ ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة». أخرجه البخاري (427)، (3873)، ومسلم (528).

7 ـ عن جندب ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك» أخرجه مسلم (532).

8 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». أخرجه أحمد (7352).

9 ـ عن أبي عبيدة، قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا يهود أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». أخرجه أحمد (1691).

10 ـ عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». أخرجه أحمد (7358).

فلا يجتمع في الإسلام قبر ومسجد.

قال الشوكاني في شرح الصدور بتحريم رفع القبور (ص ٨): «اعلم: أنه قد اتفق الناس، سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضوان الله عنهم إلى هذا الوقت:

أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله لفاعلها، كما يأتي بيانه، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين».

ولما خالف بعض الناس هذا الهدي وأدخلوا قبور صالحيهم المساجد استجر الشيطان كثيرًا من العوام الطغام فصرفوا إلى أهلها كثيرًا من العبادات كدعاء الأموات، والاستغاثة بهم، والذبح لهم، والنذر لهم، والطواف حول قبورهم، واعتقاد أن لهم قوة وتصريفًا ...، وهذا أمر قديم في جهلة العوام من سائر الأمم، وهو في أمتنا أيضًا واضح جلي لا يحتاج إلى تمثيل، ولا يجادل في وقوعه أحد.

وقد ذكر الذهبي، وابن كثير من المنكرات الواقعة عند ضريح السيدة: نفيسة بنت أبي محمد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، القرشية الهاشمية طائفة من تلك المنكرات.

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (10 /106): «ولجهلة المصريين فيها [يعني: السيدة: نفيسة] اعتقاد يتجاوز الوصف، ولا يجوز مما فيه من الشرك، ويسجدون لها، ويلتمسون منها المغفرة، وكان ذلك من دسائس دعاة العبيدية».

وقال ابن كثير في البداية والنهاية (10 / 286): «قال [يعني: ابن خلكان]: ولأهل مصر فيها [يعني: السيدة: نفيسة] اعتقاد.

قلت: وإلى الآن، قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيرًا جدًّا، ولا سيما عوام مصر فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة:

ـ تؤدي إلى الكفر والشرك.

ـ وألفاظًا كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز.

ـ وربما نسبها بعضهم إلى زين العابدين وليست من سلالته.

ـ والذي ينبغي أن يعتقد فيها ما يليق بمثلها من النساء الصالحات.

ـ وأصل عبادة الأصنام من:

ـ المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها.

ـ والمغالاة في البشر حرام.

ـ ومن زعم أنها تفك من الخشب، أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك.

رحمها الله وأكرمها».

فينبغي على أهل العلم وطلابه والأدباء وذوي الكلمة أن ينبهوا العوام على خطورة هذه المنكرات على عقيدتهم.

لكن بدلاً من ذلك خرج علينا فئام ممن ينتسبون إلى العلم ونشره إلى تبرير ذلك لهؤلاء العوام بدلاً من تحذيرهم من الوقوع في هذا الغلو وذلكم الشرك.

وهؤلاء يقال لهم ما قاله الشيخ الغزالي ـ رحمه الله ـ في كتابه عقيدة المسلم (ص ٨٤ - ٨٥): «ولماذا نستحي من وصف القبوريين بالشرك؟

مع أن الرسول وصف المرائين به، فقال: (الرياء شرك).

وإن واجب العالم أن يرمق هذه التوسلات النابية باستنكار، ويبذل جهده في تعليم ذويها طريق الحق، لا أن يفرغ وسعه في التمحل والاعتذار!

ولست ممن يحب تكفير الناس بأوهى الأسباب، ولكن حرام أن ندع الجهل بالعقائد ونحن شهود.

أية جريمة يرتكبها الطبيب إذا هو طمأن المصدور ومنع عنه الدواء، وأوهمه أنه سليم معافى؟! إن ذلك لا يجوز».

بل وزاد بعضهم عن مجرد تبرير ذلك للعوام فذهب إلى استحباب صرف تلك العبادات إلى هؤلاء الصالحين مدعيًا أن الإنكار عليهم وتحريم ذلك بدعة وهابية أو تيمية لم يقل بها أحد غيرهم، وهذا كذب صراح، بل أئمة أهل العلم مصرحون بذلك في كل عصر، وأنا سأنقل في هذه الأسطر بعضًا من كلامهم لتقف عليه.

وسأكتفي من ذلك بخمسة عشر نقلاً عن بعض علماء المذاهب الأربعة، والمذهب الظاهري.

أولاً: المذهب الحنفي:

1 ـ قال أبو بكر علاء الدين السمرقندي الحنفي (المتوفى: نحو 540هـ) في تحفة الفقهاء (1 / 257): «وكذا يكره أن يصلى عند القبر على ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: لا تتخذوا قبري مسجدًا كما اتخذت بنو إسرائيل قبور أنبيائهم مساجد».

2 ـ قال ابن عابدين الدمشقي الحنفي (المتوفى: 1252هـ) في رد المحتار على الدر المختار (2 / 237): «وأما البناء عليه فلم أر من اختار جوازه. وفي شرح المنية عن منية المفتي: المختار أنه لا يكره التطيين. وعن أبي حنيفة: يكره أن يبني عليه بناء من بيت أو قبة أو نحو ذلك».

3 ـ قال شهاب الدين الألوسي الحنفي (المتوفى: 1270هـ) في روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (3 / 298): «الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم:

مثل: يا سيدي فلان أغثني.

وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك وألا يحوم حول حماه.

وقد عدّه أناس من العلماء شركًا وألا يكنه، فهو قريب منه.

ولا أرى أحدًا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى وإلا لما دعاه ولا فتح فاه، وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم.

فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد».

ثانيًا المذهب المالكي:

4 ـ قال أبو الحسن اللخمي المالكي (المتوفى: 478 هـ) في التبصرة (1 / 346): «وأرى أن تمنع الصلاة في المقبرة وإلى القبر والجلوس عليها والاتكاء إليها، وقد ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تتخذ القبور مساجد.

وفي كتاب مسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)».

5 ـ قال أبو الوليد ابن رشد القرطبي المالكي (المتوفى: 520هـ) في البيان والتحصيل (2 /220): «قال ابن القاسم في اتخاذ المساجد على القبور، قال إنما يكره من ذلك هذه المساجد التي تبنى عليها؛ فلو أن مقبرة عفت فبنى قوم عليها مسجدا فاجتمعوا للصلاة فيه، لم أر بذلك بأسًا.

قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في هذا السماع، والرسم بعينه من كتاب الحبس، وهي مسألة صحيحة؛ فوجه كراهية اتخاذ المساجد على القبور ليصلي فيها من أجل القبور، ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج)

وقوله عليه الصلاة والسلام: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - يحذر ما صنعوا).

وقوله: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).

وأما بناء المسجد للصلاة فيه على المقبرة العافية، فلا كراهة فيه».

6 ـ قال أبو العباس القرطبي المالكي (المتوفى: 656 هـ) في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2 / 128): «فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على فعل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك، فقال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد)، أي: أنهاكم عن ذلك.

وقال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد).

وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد).

ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم.

ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة - إذ كان مستقبل المصلين - فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره، ولهذا الذي ذكرناه كله قالت عائشة: (ولولا ذلك لأبرز قبره)».

ثالثًا: المذهب الشافعي:

7 ـ صرح فخر الدين الرازي (المتوفى: 606هـ) بأن تعظيم قبور الأكابر ودعاء أهلها من الشرك، وذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].

قال في التفسير الكبير (17 / 227): «ورابعها: أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل، فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى.

ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله».

8 ـ قال الإمام النووي (المتوفى: 676 هـ) في المجموع شرح المهذب (4 / 69): «ما يفعله كثير من الجهلة من السجود بين يدي المشايخ، بل ذلك حرام قطعًا بكل حال سواء كان إلى القبلة أو غيرها وسواء قصد السجود لله تعالى أو غفل وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر أو يقاربه عافانا الله الكريم».

9 ـ قال شهاب الدين ابن حجر الهيتمي (المتوفى: 974هـ) في الزواجر عن اقتراف الكبائر (1 / 244): «الكبيرة: الثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثانًا، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها».

10 ـ قال شهاب الدين الرملي (المتوفى: 1004هـ) ـ ناقلاً عن تقي الدين ابن الصلاح (المتوفى: 643هـ) ـ في نهاية المحتاج (1 /122):

«قال ابن الصلاح: ما يفعله عوام الفقراء من السجود بين يدي المشايخ فهو من العظائم، ولو كان بطهارة وإلى القبلة، وأخشى أن يكون كفرًا».

رابعًا: المذهب الحنبلي:

11 - قال أبو محمد موفق الدين بن قدامة المقدسي الحنبلي (المتوفى: 620 هـ) في المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (2 / 382): «ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر مثل ما صنعوا) متفق عليه وقالت عائشة: إنما لم يبرز قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يتخذ مسجدًا».

12 ـ قال شمس الدين أبو الفرج بن قدامة الحنبلي (المتوفى: 682هـ) في الشرح الكبير على متن المقنع (2 / 388): «ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر مثل ما صنعوا) متفق عليه، ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها.

وقد روي أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها».

13 ـ قال تقي الدين أبو العباس بن تيمية الحراني الحنبلي (المتوفى: 728هـ) في مجموع الفتاوى ـ جمع: عبد الرحمن بن القاسم ـ (3 / 398): «ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المسجد على القبور، ولا تشرع الصلاة عند القبور؛ بل كثير من العلماء يقول الصلاة عندها باطلة».

14 ـ قال منصور بن يونس البهوتى الحنبلى (المتوفى: 1051 هـ) في كشاف القناع عن متن الاقناع (4 / 220): «ويحرم اتخاذ المسجد عليها، أي: القبور وبينها؛ لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) متفق عليه.

وتتعين إزالتها، أي: المساجد إذا وضعت على القبور أو بينها».

خامسًا: المذهب الظاهري:

15 ـ قال أبو محمد علي بن أحمد بن حزم القرطبي الظاهري (المتوفى: 456هـ) في المحلى بالآثار (2 / 348): «... حدثني جندب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس: (وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك) في حديث طويل

قال علي [يعني: ابن حزم]: من زعم أنه عليه السلام أراد بذلك قبور المشركين فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه عليه السلام عم بالنهي جميع القبور، ثم أكد بذمه من فعل ذلك في قبور الأنبياء والصالحين.

قال علي [يعني: ابن حزم]: فهذه آثار متواترة توجب ما ذكرناه حرفًا حرفًا، ولا يسع أحدًا تركُها».

فيقال لهؤلاء ـ تنزلاً ـ: أهؤلاء العلماء وهابيون تيميون؟!

وقد تمادى هؤلاء في تلبيسهم على عوام المسلمين فادعوا أن فعل هذه المنكرات هو عقيدة الأزهر التي أقر الناس عليها من قديم الزمان، وهذا أيضًا خطأ فمؤسسة الأزهر شيء وبعض من ينتمون إليها شيء آخر.

وهؤلاء كبار علماء الأزهر ينكرون هذه المنكرات، وسأكتفي هنا بنقل خمس فتاوى لهم وكل من سأنقل عنه إما كان شيخًا للأزهر، أو مفتيًا للديار المصرية، أو وزيرًا للأوقاف:

1 ـ قال فضيلة الشيخ: محمد عبده مفتي الديار المصرية (المتوفى: 1905م) وقد سئل بتاريخ: (28 ذي الحجة 1319هـ) سؤالاً جاء فيه: ضريح قديم عليه قُبة في شارع مطروق ليلاً ونهارًا، معرضة للبول والأقذار، وبجوار هذا الضريح مسجد منسوب لصاحبه، وفي هذا المسجد باب لذلك الضريح، فهل يجوز هدم القبة ونقل الضريح إلى داخل المسجد أو يبقى في محله؟

فأجاب - رحمه الله -: «المروي عن الإمام أبي حنيفة أن بناء بيت أو قبة على القبر مكروه (حاشية ابن عابدين 2/ 238).

وهو يدل على أن لا بأس بهدم القُبة المذكورة، بل إنَّه الأَوْلَى، فإذا كانت تجتمع حولها القاذورات واعترضت في الطريق تأكدت الأولوية.

أما موضع القبة وهو الضريح فيسوى بأرض الشارع؛ لأنه لو فُرض أنَّ تحته ميتًا مدفونًا فقد بلي، فيجوز استعمال أرضه في غير الدَّفن. والله أعلم» [فتاوى دار الإفتاء المصرية (5 / 190)].

2 ـ قال فضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية (المتوفى: 1358 هـ ـ 1939 م) في كتابه: أحكام النذور (37): «... وصحيح أنك إذا سألت أحد هؤلاء الضالين إن كان يعتقد ألوهية من يقدم القربان إليه استعاذ بالله، واستنكر نسبة الكفر إليه، ولكن أذلك نافعهم بشيء؟!

أذلك منقذهم من شائبة الشرك بله العصيان؟

ما أشبه ما يقدمون من قربان وما ينذرون من نذور وما يعتقدون في الأضرحة وساكنيها بما كان يصنع المشركون في الجاهلية.

وما يغني عنهم نفي الشرك عنهم بألسنتهم وأفعالهم تنبئ عما يعتقدون من أن هؤلاء الأولياء لهم نافعون ولأعدائهم ضارون».

3 ـ قال فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، الشيخ: عبد المجيد سليم ـ رحمه الله ـ (المتوفى: 1374هـ ـ 1954م): وقد سئل سؤالاً من وزارة الأوقاف ـ وكان آنذاك مفتي الديار المصرية ـ بتاريخ: جمادى الأولى 1359 هجرية - 22 من يونيه 1940 م: يوجد بوسط مسجد عز الدِّين أيبك قبران، وَرَدَ ذكرهما في الخطط التوفيقية، وتقام الشعائر أمامهما وخلفهما، وقد طلب رئيس خَدَم هذا المسجد دفنه في أحد هذين القبرين؛ لأن جدة الذي حدَّد بناء المسجد مدفون بأحدهما، فنرجو التفضل ببيان الحكم الشرعي في ذلك.

- فأجاب - رحمه الله تعالى: «نفيد أنه قد أفتى شيخ الإسلام ابن تيميَّة بأنه: لا يجوز أن يُدْفَن في المسجد ميت، لا صغير، ولا كبير، ولا جليل، ولا غيره؛ فإن المساجد لا يجوز تشبيهها بالمقابر (الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيميَّة 2/ 85) ...».

[فتاوى دار الإفتاء المصرية (7 / 154)]

4 ـ قال فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، الشيخ: محمود شلتوت (المتوفى: 1963م).

«... لذك كان مِن أحكام الإسلام فيما يختص بأماكن العبادة تطهيرها من هذه المشاهد: {وعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والْعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]، {وَإذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ ولَمْ يَخْشَ إلاَّ اللَّهَ} [التوبة:18]، {وأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18].

- تسرب الشرك إلى العبادة: وما زَلّ العقل الإنساني وخرج عن فطرة التوحيد الخالص – فعبد غير الله، أو أشرك معه غيره في العبادة والتقديس – إلَّا عن طريق هذه المشاهِد التي اعتقد أنَّ لأربابها والثاوين فيها صلة خاصة بالله، بها يُقرِّبون إليه، وبها يشفعون عنده؛ فعظَّمها واتجه إليها واستغاث بها، وأخيرًا طافَ وتَعلَّق، وفعل بين يديها كل ما يفعله أمام الله مِن عبادة وتقديس.

- لا تتخذوا القبور مساجد: والإسلام مِن قواعده الإصلاحية أن يسد بين أهله ذرائع الفساد ...» [الفتاوى، للإمام الأكبر: محمود شلتوت (ص88-90)].

5 ـ قال فضيلة الشيخ: أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف (المتوفى 1405 ـ 1985 م) عندما وجهت له بعض الهيئات الدينية في الهند هذا السؤال: هل من الجائز شرعًا تزيين القبور، وإقامة الأضرحة عليها؟ ...

قال: «هذا العمل ضرب من الوثنية، وعبادة الأشخاص، وقد منعه الإسلام، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وحث على تركه ...»

[فتاوى هامة، جمع فضيلة الشيخ: فتحي أمين عثمان ـ رحمه الله ـ مدير لجنة التراث بجمعية أنصار السنة المحمدية (ص 15 ـ 16)، نقلاً عن جريدة الأهرام 14 فبراير 1955 م، وكتاب: ليس من الإسلام، لفضيلة الشيخ: محمد الغزالي، تحت عنوان: فتوى رسمية (ص: 256)]

فهذا الذي قرره فضلاء علماء الأمة هو الحق الذي يتفق مع ما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد نقل ابن تيمية الإجماع على ذلك في مجموع الفتاوى ـ جمع: عبد الرحمن بن القاسم ـ، قال (27/488): «بل لا يجوز اتخاذ القبور مساجد، سواء كان ذلك ببناء المسجد عليها أو بقصد الصلاة عندها.

بل أئمة الدين متفقون على النهي عن ذلك، وأنه ليس لأحد أن يقصد الصلاة عند قبر أحد لا نبي ولا غير نبي.

وكل من قال: إن قصد الصلاة عند قبر أحد أو عند مسجد بني على قبر أو مشهد أو غير ذلك: أمر مشروع بحيث يستحب ذلك ويكون أفضل من الصلاة في المسجد الذي لا قبر فيه: فقد مرق من الدين، وخالف إجماع المسلمين».

وأختم هنا بكلمة للأديب الأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي (المتوفى: 1924 م) قال في كتابه: النظرات (2 / 21): «إنكم تقولون في صباحكم ومسائكم وغدوكم ورواحكم: كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف.

فهل تعلمون أن السلف الصالح كانوا يجصِّصون قبرًا أو يتوسلون بضريح؟!

وهل تعلمون أن أحدًا منهم وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر أحد من الصحابة وآل بيته يسأله قضاء حاجة أو تفريج كربة؟!

وهل تعلمون أن الرفاعي والدسوقي والجيلاني والبدوي أكرم عند الله وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين؟!

وهل تعلمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل نهى عنها عبثًا ولعبًا أم مخافة أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى؟!

وأي فرق بين الصور والتماثيل وبين الأضرحة والقبور ما دام كل منها يجر إلى الشرك، ويفسد عقيدة التوحيد؟!

والله ما جهلتم شيئًا من هذا، ولكنكم آثرتم الدنيا على الآخرة، فعاقبكم الله على ذلك بسلب نعمتكم، وانتقاض أمركم، وسلط عليكم أعداءكم يسلبون أوطانكم، ويستعبدون رقابكم، ويخربون دياركم، والله شديد العقاب».

هذا ما يسره الله تعالى في هذا المقام

عدد المشاهدات 7601