بين المبدأ .. والمبلغ

2011-06-21

صفوت الشوادفى

الحمد لله .. وسلام على عباده الذين اصطفى .. وبعد :

فإن القرآن الكريم كتاب هداية ومنهج حياة ، من ابتغى الهدى في غيره أضله الله .

وفي آياته تحذير ووعيد من الدنيا وزينتها ، وترغيب وتشويق في الآخرة ونعيمها .

وإني أرجو من القارئ الكريم أن يقرأ هذه الكلمات قراءة من يتدبر ويتفكر ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ) !!

وقد فتن المال أقوامًا قبلنا، وأقوامًا بيننا، وسوف يفتن أناسًا من بعدنا ! وتستحكم فتنة المال في النفوس الضعيفة وتزداد شيئًا فشيئًا حتى يصير المال معبودًا لصاحبه ! وقد حذر الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه من ذلك في قوله : (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطى رضي، وإن لم يعط  لم يرض) (1) .

وما أكثر الذين يعبدون المال في حياتنا ! لا يبالي أحدهم من أي مال كان مطعمه ومشربه ! فهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويأخذون الربا وقد نهوا عنه، ويقبلون الرشوة بل يطلبونها، لا يتركون بابًا من أبواب الحرام إلا فتحوه، ولا طريقًا إلى الكسب الحرام إلا سلكوه ! والله رقيب على أعمالهم، عليم بذات صدورهم والمسلم في مسيرة الحياة له عقيدة يؤمن بها، ومبادئ يستمسك بها، ومنهج يسير عليه، ووحي يستضيء بنوره .

وقد يتعرض للفتن في حياته فتكون اختبارًا لإيمانه ويقينه، وقد أخبر القرآن عن قوم يعبدون الله على حرف !! فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة !! فيا تعاسة من يبيع آخرته بدنياه !! ويا شقاء من يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل.

ويقفز إلى الأذهان سؤال مهم ؟! أين موضع الخلل وبيت الداء ؟؟

والجواب :

الخلل يأتي من فساد عقيدة الناس في الأرزاق . لو تدبر الناس قوله - سبحانه - ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون ) وهم يرون الأرزاق تخرج من الأرض لأدركوا الحقيقة الكاملة التي تقول : (الأرزاق تقسّم في السماء وتخرج من الأرض ) !! فالقلوب ينبغي أن تتعلق بمنبع التقسيم لا بمخزن التسليم ؟!

ويتحدث القرآن عن الأرزاق حديثًا عجيبًا .

ففي قصة مريم عليها السلام ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) إنها أرزاق تأتي بغير أسباب وبغير حساب لمن كانت تعبد الله في المحراب !

وعندما جاءها المخاض وأدركها ألم الولادة أمرها الله أن تهز جذع النخلة القوية بيدها الضعيفة !! إنها أرزاق تأتي بأسباب ضعيفة وعلى قدر الحاجة !

ويأمرنا القرآن أن نأخذ بالأسباب الكاملة في طلب أرزاقنا ( فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور ) أرأيت كيف يسوق الله الأرزاق إلى أصحابها تارة بغير أسباب وتارة بأسباب ضعيفة وثالثة بأسباب كاملة ! وعلى أي صورة جاءك الرزق فلن تدرك منه إلا ما قُدِّر لك.

فعلام يختصم الناس ويتصارعون ويقتتلون ؟!

إن الدعاة إلى الله ينبغي عليهم أن يصححوا تلك المفاهيم الخاطئة، وأن يبينوا العقيدة الصحيحة.

كما يجب على المجتمع المسلم أن يأخذ على يد من يريد أن يخرق، السفينة من أسفلها حتى لا يهلك الجميع !.

والإسلام يأمر بنصر الظالم كما يأمر بنصر المظلوم !!.

وقد بين الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه أن نصر الظالم يكون بمنعه من الظلم وحجزه عنه والأخذ على يده ، وهو منهج فريد في رفع الظلم ودفعه ، والقضاء عليه ومنعه .

وأصحاب المباديء يتمسكون بها - وإن كانت باطلة - !!.

أما أصحاب المبالغ - أتباع كل ناعق - فإنهم يدورون مع المال حيث دار ، ويقيلون معه حيث قال !.

تضعف نفوسهم، ويسيل لعابهم، فيبيعون المبدأ بالمبلغ يهتفون بحياة من يعطيهم، ويسبحون بحمد من يمنحهم، ويغدق عليهم، إذا أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون !! إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم ! يقولون القول السيئ ثم يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا وهموَّا بما لم ينالوا ! ولتعرفنهم في لحن القول ؟ وهم يبيتون مالا يرضى من القول يكسبون الخطيئة والإثم ثم يرمون بها البريء ! يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، والله عز وجل يُملي لهم ليزدادوا إثمًا !! فيحسبون أن ذلك دليل الرضا ، وآية المغفرة ! وأمثال هؤلاء في الأمة كثير ، تراهم في كل واد يهيمون ، وفي كل ناد يصيحون !.

منذ سنوات طوال ، وقبل الانقلاب العسكري في 23 يوليو سنة 1952 كان أحد الأحزاب السياسية في مصر يشتري أصوات الناخبين بسعر جنيه لكل صوت ! وكانوا يدورون على الناس ، ويأخذون عليهم العهد والميثاق أن يعطوا أصواتهم لمن دفع لهم ! وأُمِر هؤلاء الناس أن يخرجوا في مسيرة تأييد لهذا الحزب وأن يهتفوا له ولمبادئه ، وخرجت المسيرة تهتف : (يحيا الثبات على المبدأ) وفي وسط هذا الهتاف كان يسير رجل لا يؤمن بمباديء الحزب المذكور فكان يهتف منفردًا (يحيا الثبات على المبلغ ) !!!.

إنها حقيقة يشهد لها الواقع، وينادي عليها هتاف هذا الرجل في مسيرة التأييد !!!

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

 

(1) البخاري بشرح فتح الباري - كتاب الرقاق - باب ما يتقى من فتنة المال ح(6435) جـ11 ص257

عدد المشاهدات 4877