حول الجن وتلبيسه

2010-12-02

صفوت نور الدين

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد :

فلقد كثر الجدل حول تلبس الجن بالإنس بين مثبت غالٍ ، واقع في البدعة والشرك ، وبين نافٍ مجحف ، خالف النص ، أو تأوله تأويلًا لا يتحمله ، فوافق المبتدعة ، وشابه المعتزلة ، حتى اختلط على الناس الحق بالباطل في هذا الأمر ، اشتبه عندهم الدجل بالسنة ، وعمل كثير من الناس أمور الشعوذة باسم السنة .

فالحق كثيرًا ما يضيع بين إفراط المُفْرطين ، وتفريط المفرِّطين ، ولقد كثرت الأسئلة حول ما يقوم به بعض الناس من علاج المصروع بالقرآن الكريم ، ويقع الجواب بين مُنْكِر ينكر الحق خوفًا من الوقوع في الباطل ، الذي يتعلق فيه كثير من الناس بغير الله ، ويخوفون من السحرة والمشعوذين . ويقع الأمر بين مفرطين يقولون : إن جيوشًا من كفار الجن يتسلطون على المسلمين ، ويعتبرون أنفسهم في جهاد شرعي مع الجن ، ويقولون : هذه الأعمال من القراءة، والضرب والخنق ، وعمل الأشربة ، وغيرها عرفنا أثرها بالتجربة في صرفها للجن ، والتجربة خير دليل ، ويسندون أقوالهم بما ينسبونه إلى بعض الأئمة والعلماء ، بل بأحاديث بعضها مقبول ، وبعضها مردود . ولا يتسع المقام لتفصيل طويل ، ولكننا - مستعينين بالله - نذكر بعض الضوابط الهامة لهذا الموضوع الشائك والمتشعب ، والله الهادي إلى الصواب .

أولًا : الجن مخلوق مكلف مأمور بالعبادة لله رب العالمين لقوله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات : 56] . خلقهم الله من نار قبل خلق الإنسان : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُوم) [ الحجر :26،27] ، ويقول سبحانه : (  وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ  ) [ الرحمن :15] .

ومن الجن مسلمون وكافرون: ( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا(14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) [الجن : 14، 15] . والجن يهتدون ويضلون، ويلغب عليهم الضلال والإضلال . وهي توسوس للناس وتوحي إليهم : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) [ الأنعام : 112] . وهي تُزين الباطل للناس : ( تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [النحل:63] . وشياطين الجن ومردة الجن تطلق على الكافر العاتي من الجن .

والجن ينعم بالجنة إن كان مؤمنًا صالحًا، ويُعذب بالنار إن كان كافرًا عاصيًا. ولا غرابة أن يُعذب الجني المخلوق من النار بالنار في جهنم ؛ لأن الله كما خلق الإنسان من طين ، فجعله خلقًا آخر يعذبه الطين إذا غمس فيه ، أو لطخ به ، أو ضرب به ، كذلك الله خلق الجان من النار ، فصار خلقًا آخر يعذب بالنار إذا دخلها ، والله على كل شيء قدير ، والجن يمكنهم أن يعملوا أعمالًا وصناعات : (مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ) [سبأ :13] ، وغير ذلك ، ويمكنهم حمل أشياء ثقيلة مثل عرش بلقيس : ( أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِك ) [النمل : 39] .

والجن لا يعلمون الغيب ، إنما علم الغيب لله رب العالمين ، ومن ادعى علم الغيب من الجن فهو كاذب ، فلقد مات نبي الله سليمان، والجن لا يعلمون ، مع أنهم في عذاب أليم ، يعملون خوفًا من سليمان ، وهو ميت أمامهم وهو لا يشعرون .

ومن الجن رجال ولهم قلوب وأعين وآذان وأسماع وأبصار : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) [الجن :6] ، والله يقول : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ) [ الأعراف : 179] ، ويقول سبحانه : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ) [ الجن :1]، وقال سبحانه : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ) [الجن : 13] ، ويقول سبحانه : ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَوَقَبِيلُهُ ) [ الأعراف :27] .

ثانيًا : وسوسة الجن ومسه وتلبيسه واقترانه بالإنس ، كل ذلك ثابت بنصوص القرآن والسنة ، فهم يضلون الإنس كثيرًا : ( يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ  وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ) [ الأنعام :128] ، ويقول تعالى : ( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ) [طه:120] ، ويقول سبحانه : (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) [الناس : 4، 5] ، ويقول على لسان أيوب عليه السلام : ( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) [ص :41] ، ويقول عز وجل : ( إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا ) [ الأعراف : 201]، ويقول سبحانه : ( الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) [ البقرة :275] ، ويقول سبحانه : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين ) [الزخرف : 36] ، ويقول سبحانه : (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ) [ النساء : 38] ، ويقول سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) [مريم : 83] ، وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا : (إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبَّس عليه حتى لا يدري كم صلى … ) .

ثالثًا : أمر الجن من مسائل الغيب ، فلا يجوز لنا أن نفصل ما أُجمل في القرآن والسنة ، أو نستنبط من غير دليل منهما ؛ لأنها ليست من الأمور التي تدرك بالحس ، أو تختبر بالتجربة ، أو يستنبط فيها بالملاحظة .

رابعًا : التجربة إنما تصلح في الماديات التي يمكن ضبط عواملها ، والتحكم في متغيراتها . لذا لا يقال : هذا الدعاء نافع بالتجربة ، أو هذه كلمات مجربة ، إنما الفصل هنا للشرع ، فما جاء به هو الصواب ، وإن كانت تجربتك تخالف ذلك ، انظر لحديث البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أخي استطلق بطنه (وفي رواية: يشتكي بطنه)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : (اسقه عسلًا) ، ثم أتاه الثانية، فقال : (اسقهعسلًا) . ثم أتاه الثالثة ، فقال : (اسقهعسلًا) ، ثم أتاه ، فقال : فعلت . فقال : (صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلًا) ، فسقاه فبرأ (وفي رواية : فقال : إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا ، فقال (صدق الله ، وكذب بطن أخيك) .

فتدبر كيف أن التجربة رفضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وجود النص الشرعي؛ لأنه لا تصلح دليلًا في وجود النص الشرعي. ويمكننا أن نفهم المزيد من ذلك عند مراجعة قصة بريصيص العابد التي ذكرها ابن كثير ، لا لنستدل بها ، ولكن لنفهم كيف أن الشيطان يحتال على العبد ، فيظهر له نتائج تُبهره ليستدرجه فيغويه ، كذلك نتائج تجارب المشعوذين والدجالين ، إنما هي من استدراج الشياطين . اقرأ كذلك ما ساقه ابن كثير في (البداية والنهاية) ، وكذلك ابن القيم في بعض كتبه ، وما كتبه محمد بن عبد الوهاب في (الكلمات النافعة) في شأن الحيوان يحبس فيه البول ، أو الغائط ، فيطاف به قبور المشركين فيبرأ ، ولا يصلح ذلك دليل صلاح صاحب القبر ، إنما يفسره أهل العلم بأنهم يعذبون في قبورهم ، فيسمع الحيوان صراخه إذا اقترب من القبر ، فيرتاع لذلك ، فتهتز أمعاؤه وأحشاؤه، فتطرد ما فيها ، فيبرأ ، ولا دليل في ذلك على صلاح ؛ بل هو دليل كفر وشرك وفساد .

خامسًا : يسمى الكثير من الناس قراءة القرآن على المصروع ، والدعاء له يسمونه : علاجًا ، ويسمى فاعل ذلك : معالجًا . وتسمية العلاج التصقت بالطب المادي ، فلا أرى استخدام ذلك الاسم ، إنما يسمى : رقية ، ويسمى نشرة ، وقال ابن القيم : النشرة : حل السحر عن المسحور ، وهي نوعان : (أحدهما) حل بسحر مثله ، وهو الذي من عمل الشيطان ، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب ؛ فيبطل عمله عن المسحور (الثاني) النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية المباحة ، فهذا جائز .

فالتسمية الشرعية (الرقية) : هي التي ينبغي أن نطلقها على هذا الدعاء والقراءة ؛ لأن الرقية والطلب من الله يكون في كل وقت ، وعلى كل نفس ، ويمكن للطبيب أن يرقي مريضه ، وللمريض أن يرقي نفسه ، ولأهله أن يرقوه ، ويمكن لغيرهم أن يرقيه ، ولا يشترط في الرقية فحص ولـمس ، أو نظر ، وغير ذلك .

أما العلاج فإنه يقتضي تخصيصًا وترتيبًا ونظامًا ، ولم يأت الشرع بذلك .

سادسًا : العلاج يقتضي متخصصين والرقية ليست كذلك ، فإن قيل : إنما يرقي التقي ، فهذه مزلة أقدام ، لأن التقوى أمر قلبي لا يطلع عليه العباد ، ولأن الاستجابة لا تكون فقط للدعاء من التقي ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (اتق دعوة المظلوم  ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) ، ويقول سبحانه : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ) [ النمل :62] ، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم - ، وهو أتقى خلق الله قاطبة ، دعا على أقوام ، فقال له رب العزة سبحانه : ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ) [ آل عمران :128] ، ودعا لأقوام ، فقال تعالى له : ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) [ القصص : 56] . فالمريض وأهله مضطرون ، والمريض إن ظلمه إنسي ، أو جني ، فهو مظلوم يجيب الله دعاءه ، ويقبل رجاءه .

ودعوى أن الاستجابة تكون للتقي باب للشيطان يغر به كثير من الناس، فيوقعهم في المعاصي والمخالفات الشرعية، ويكسبهم غرورًا وكبرًا، وذلك من أكبر الذنوب. كيف وإبليس لما قال لله عز وجل : (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي …قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ….. ) [ ص :79 ،80] ، وإبليس من الكافرين ، وليس من المتقين ، فالغرور الذي يوهم الشيطان به القوم يفضي بهم إلى غضب الله وعذاب النار ، أجارنا الله وإياكم منها .

سابعًا : إن للشيطان أولياء يوحي إليهم فيطيعوه : وللشيطان أعداء من طلبة العلم العاملين ، ومن هم في طريق العلم النافع ، والعمل الصالح ، فلما تأذى الشيطان بدعوة هؤلاء للناس ، وهدايتهم بعد غواية تسلط الشيطان على أوليائه ، فوسوس إليهم ولَبَّس ، وأوهمهم بأوهام حتى شغل بهم طلبة العلم ؛ ليخرجهم من عملهم في هداية الناس ، فيوقف عليهم عملهم ، ثم يتسلط بعد ذلك عليهم ، عسى أن يجعلهم من أوليائه ، حتى أن الكثير منهم صدَّق الشيطان ، ومشى وراء زعم الجان ، فوقع في الشرك والدجل من التعليق والذبح وسائر الشركيات ، فليتنبه لذلك، فنعمل على إرشاد العاصي إلى الطاعة ، والواقع في الشرك إلى التوحيد ، وتارك الصلاة في المساجد أن يصلي في المسجد ، ويعلم الناس سائر واجبات الشرع ، فيعملون بالطاعات ، ويهجرون المعاصي حتى لا يفتن الشيطان بتلك الشبهات ، فيوقع الصالح بتسلطه على العاصي ، ثم يستدرج الجميع ليكونوا له حزبًا وأنصارًا : ( إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) [ فاطر :6] .

فانظر رعاك الله كيف جعل الشيطان أولياءه شباكًا وشراكًا، ووسوس إليهم، فتلاعب بهم، وصرعهم ليخرج بهم الدعاة المصلحين من دعوتهم ليعبثوا معه فيفتنهم ويفتن بهم.

ثامنًا : الشفاء له سببان : مادي وشرعي والاضطرار إنما يقع في الأسباب المادية ، فقد يضطر الطبيب فيجرح المريض ، أو يستأصل منه عضوًا ، أو يشق له جلدًا ، أو يصف له الدواء المر ، أو يكشف له عورة ، أو يلمس له موضعًا لا يحل له لمسه ، أو ينظر إلى امرأة لا تحل له ؛ لأنه لا سبيل لتشخيص المرض ، أو وصف الدواء ، أو العلاج إلا بذلك ، فهو مضطر ، فيرتكب الضرر الأدنى دفعًا للضرر الأكبر . أما الأسباب الشرعية : فهي دعاء لله، وطلب منه سبحانه ، وذلك لا يسبب اضطرارًا ، فلا تجوز فيه معصية وإن صغرت ، بل يُحرص فيه على الطاعة التي تعين على رفع الدعاء ، فلا تجوز خلوة بغير ذات محرم ، ولا نظر إليها ولا لمس لها ، ولا غير ذلك من المُخالفات الشرعية .

تاسعًا : الرقية الشرعية دعاء لله سبحانه بذكر ومسألة ، وذلك هو الذي يستجيب الله به : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ) [الأعراف :200] ، فلا حاجة عندئذ لمخاطبة الجني ؛ لأنها باب إلقاء الكذب فيصدق ، وهو كذوب . وقد يقول الراقي : إنه يستفيد من هذه المخاطبة ، ليتعرف كيف يتغلب على الجني ، فيذهب أثره ، وهذه درجة من درجات التعوذ بهم ، والله سبحانه وتعالى يقول : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) [ الجن :6] ، فإن كنت راق فلا تستعن إلا بالله وحده ، واحرص على إخلاص الدعاء ، وصدق التوكل على الله سبحانه . ولا تخاطب الجني، ولا تصدقه إن أخبرك، فكم من فتنة أوقعها وفرقة أحدثها، فكن على حذر من ذلك، وتمسك بالمشروع، ولا ترتكب الممنوع.

عاشرًا : ما يفعله كثير من الناس من ضرب ، أو خنق ، أو كي ، وإسراف في استخدام ذلك، يخرجون بذلك عن الشرع الذي جاء ، ويستدلون بما لا يصلح لذلك دليلًا ، كقول منسوب للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، أو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى . وهم يعلمون أن الضرب ، أو الخنق ليس هو المؤثر ، إنما المؤثر هو ذكر الله سبحانه والدعاء ، فما لهم ينتقلون من الأعلى إلى الأدنى ، وينتقلون مما يعلم بالشرع نفعه إلى ما يخشى وقوع ضره ، فيتأثر المريض بذلك الضرب والخنق . ولو كان الضرب هو المؤثر لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر من يجلد المصروع لا من يرقيه .

هذه جملة من الضوابط أردت أن أقدم بذكرها نصيحة للناس في هذا الباب الذي كثر فيه التلبيس على الناس ، كما نحذر من الرقى الشركية ، أو التي حوت كلمات غير مفهومة ؛ لأنها من سبيل الشيطان للتعوذ بالجن ، فاحذرها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أعرضوا عليَّ رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك) ، ويقول ابن حجر في (الفتح ) : وقد أجمع العلماء على جواز الرقي عند اجتماع ثلاثة شروط : أن يكون بكلام الله تعالى ، أو بأسمائه وصفاته . وباللسان العربي ، أو بما يعرف معناه من غيره . وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها ، بل بذات الله تعالى .

هذا وننبه على حديث لم يصح عن النبي- صلى الله عليه وسلم - حتى لا يغتر الناس به ، وقد أخرجه النووي في كتاب (الأذكار) ، قال : (روينا في كتاب ابن السني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل عن أبيه قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أن أخي وجع ، فقال : (وما وجع أخيك؟ ) ، قال : به لمم ، قال : (فابعث به إليَّ) ، فجاء فجلس بين يديه ، فقرأ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - : فاتحة الكتاب وأربع آيات من أول سورة البقرة . وآيتين من وسطها : (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ(163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ) [البقرة : 163، 164] ، حتى فرغ من الآية ، وآية الكرسي ، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة ، وآية من أول سورة آل عمران : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) [ آل عمران :18] إلى آخر الآية ، وآية من سورة الأعراف : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ) [ الأعراف : 54] ، وآية من سورة المؤمنون : ( فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم ) [المؤمنون :116] ، وآية من سورة الجن : (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ) [ الجن :3] ، وعشر آيات من سورة الصافات من أولها ، وثلاثًا من آخر سورة الحشر ، وقل هو الله أحد ، والمعوذتين) ، فهذا حديث لا يصح طريقه مظلم بالمجاهيل ، ونختم كلمتنا ببعض الرقى الصحيحة إرشادًا لمن أراد ذلك .

ومنها الرقيا بفاتحة الكتاب ، والمعوذتين ، وسورة الإخلاص ، وآية الكرسي ، بل وكل القرآن الكريم ، أو بعضه ، ومن الرقيا : الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ، ومنها : (اللهم رب الناس مذهب البأس اشف أنت الشافي ، لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقمًا ) ، ومنها : (بسمالله ربنا تربة أرضنا وبريقة بعضنا يشفى سقيمنا وبإذن ربنا ) ، ومنها : (أعوذبكلماتاللهالتامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة ) ، أخرج ذلك البخاري ، أما مسلم فجاء فيه : (بسم الله يبريك من كل داء يشفيك ، ومن شر حاسد إذا حسد ، وشر كل ذي عين ) ، (بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس ، أو عين حاسد اللهُ يشفيك باسم الله أرقيك ) ، (وأن يضع يده على الذي تألم من الجسد ويقول : (بسمالله) (ثلاثًا) ، ويقول : (أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) (سبعًا) .

ومما صح من الرقيا أيضًا : (أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ) .

هذه لمحات وملاحظات آمل أن تكون كافية ، والله من وراء القصد .

عدد المشاهدات 4841