خطبة: نعمة الصحة وكيفية الحفاظ عليها(سلسلة الواعظ عدد المحرم 1437هـ)

2015-10-25

اللجنة العلمية

نعمة الصحة وكيفية الحفاظ عليها

نعمة الصحة وكيفية الحفاظ عليها

مما لا شك فيه أن الشريعة الإسلامية جمعت أصول الطب كلها، ففي القرآن والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام بيان كثير من الأمراض النفسية والجسمية، وبيان علاجها المادي والروحي، قال الله تعالى{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].

وجمع الله تبارك وتعالى الطب النفسي وعلاجه كله في آية واحدة هي قوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28]. (1)

وَلَمَّا كَانَتِ الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَأَجْزَلِ عَطَايَاهُ، وَأَوْفَرِ مِنَحِهِ، بَلِ الْعَافِيَةُ أَجَلُّ النِّعَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَحَقِيقٌ لِمَنْ رُزِقَ حَظًّا مِنَ التَّوْفِيقِ مُرَاعَاتُهَا وَحِمَايَتُهَا عَمَّا ُضَادُّهَا. (2)

ولا يماري أحد من العقلاء بأن الصحة نعمة من الله تعالى على عباده وأن الواجب شرعا المحافظة عليها من أي أذى. ولهذا شرع الله التداوي من الأمراض والأوبئة. (3)

فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: " مَا أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ دَاءً، إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ ". (4)

وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " تَدَاوَوْا عِبَادَ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ

عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً، إِلَّا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً، إِلَّا الْمَوْتَ، وَالْهَرَمَ". (5)

نعم الله كثيرة لا تعد ولا تحصى

يقال شيئان لا يعرف فضلهما إلا من فقدهما "الشباب والعافية"، وقيل: "لا يعرف طعم العافية إلا من نالته يد العلة ولا طعم الرخاء من مسته يد البلاء"، وقيل: "الدنيا بحذافيرها الأمن والعافية لا تزال غنيا ما دمت سويا". (6)

أيها الصحيح إذا أردت أن تعرف قدر الصحة والعافية فأكثر من زيارة المرضى في المنازل والمستشفيات وقيل: "إن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يعرفها إلا المرضى"، كم من مريض يتمنى أن يخطو بقدميه ليصلي مع الجماعة ويصل أرحامه ويزور إخوانه ولكنه لا يستطيع، كم من مريض انقطع عن الناس فهو لا يسمع ولا ينطق يتمنى سماع القرآن وترتيله، ولكنه لا يستطيع.

كم من مريض كف بصره، فهو يتمنى أن يرى مخلوقات الله وآياته، وكم من مريض يتمنى أن يأكل الطعام ويشرب الشراب ولكنه لا يستطيع، وكم من مريض لا تسكن أوجاعه، ولا يرتاح في منامه وغيرهم كثير.

أيها الصحيح هل نسيت هؤلاء فاتق الله في صحتك وعافيتك واشكر الله على نعمة القدمين واستخدمها في الذهاب للمساجد ولكل خير، واشكر الله على نعمة اللسان وأكثر فيه من تلاوة القرآن. (7)

اعتلّ الفضل بن سهل-رحمه الله- بخراسان ثم برأ فجلس للناس، فهنأوه بالعافية وتصرّفوا في فنون الكلام، فلما فرغوا، أقبل على الناس، فقال: "إنّ في العلل نعما ينبغي للعاقل أن يعرفها: تمحيص الذنب والتعرّض للثواب، والإيقاظ من الغفلة والتذكير بالنعمة في حال الصحة، والاستدعاء للتوبة والحضّ على الصدقة. وفي قضاء الله وقدره الخيار". (8)

حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على عدم تضيع الصحة

أيها المسلمون، إنه إذا كان تتابعُ النعم، وترادُف المِنَنِ، وتعاقُب الآلاء، فَيْضًا من الربّ الكريم لا يَغِيض، وغَيْثًا مِدْرَارًا لا ينقطع، كما قال عز من قائل: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]. فكم ممن مَتّعه الله بسمعه وبصره وقوته، وحفظ عليه نُضْرَة الشباب ورَوْنَقَه وبهاءه، مَغْبُونٌ في صحته حين لا يستعملها فيما يبلّغه رضوان ربه الأعلى ونزول دار كرامته، وحين لا يستثمرها في كل ما يسعد به في دنياه وآخرته، وحين ينسى أن آفة النعم الزوال؟ فكم من صحيح لا يشكو من عِلّة في نفسه أو جسمه نزل به السَّقَامُ، ووَهَنْتُه الأمراضُ، وأقضّت مضجعَه العِللُ فسعت به إلى شيخوخة مبكّرة، وعِلّة مُسْتَحْكِمة، أو داءٍ حائل بينه وبين ما يشتهي من متع الحياة الأثيرة لديه، المُذَلّلة المبذولة بين يديه، فإن كان ممن أبلى شبابه، وأفنى عمره، واستنفد قوته فيما يحرم من الشهوات والنزوات، وما يُحَقَّر من الأعمال وما يُستقبَح من الغايات، ولم يبتغ إلى ربه الوسيلة بما يرضيه، ولم يدّخر عنده من الرصيد ما يسعد به حين يلقاه؛ غُبِنَ هنالك غَبْنًا أورثه حسرة، وأعقبه ندامة؛ لتفويته الفرصة، وإضاعته المَغْنَم، وتَبْدِيده الأرباح. (9)

فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: " اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ". (10)

يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ ". (11)

لماذا كان مغبونًا؟ لأنه لم يستفد من صحته وفراغه بما يقربه إلى الله والدار الآخرة.

أيها الصحيح: هذه الصحة والعافية سوف تسأل عنها يوم القيامة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ". (12)، فاجعل هذه الصحة عونًا لك على طاعة الله.

سبل المحافظة على الصحة

لقد كرم الله عز وجل بني الإنسان على كثير من مخلوقاته، فقال تعالى{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ َحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70].

ولقد وضعت الشريعة الإسلامية الضوابط والوسائل التي يحمي بها الإنسان صحته من كافة الأخطار والأضرار والأمراض التي قد تحدث له وهذه بعض هذه الوسائل:

1- النظافة من أهم الأسباب التي تحفظ الإنسان من الأمراض، لأن الأمراض أكثر ما تنتشر بين الناس بسبب الأوساخ والأقذار، وقد شرع لنا الإسلام الوضوء خمس مرات، والغسل من الجنابة وغيره، وسن لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- خصال الفطرة وهي " الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الآباط".

فتنظيف الجسم، وهذه الأعضاء التي تتعرض للوسخ كثيراً عدة مرات كل يوم يجعل الجسم حصيناً من الأمراض.

2- فرض الحجر الصحي في حالات الأمراض المعدية، وذلك مبالغة في حماية الصحة العامة فعَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا". (13)

وقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضاً على اجتناب المصابين بالأمراض المعدية فقال: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ". (14)

3- من القواعد الصحية السديدة التي وضعها الإسلام أيضاً قاعدة الاعتدال وعدم الإسراف، ففيما يتعلق بتناول الطعام قال تبارك وتعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأعراف: 31]، عَنْ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ. بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ

أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ". (15)

وقال النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ المُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ". (16) فالاعتدال في الطعام والشراب طريق من الطرق الموصلة إلى سلامة الإنسان من الأسقام.

وقد وصف الله ذوي الشراهة في التهام الأطعمة بأنهم يأكلون كما تأكل الأنعام، فقال تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12].

وهذا وصف أراد الله تعالى به أن يذكر الناس بمصير من يأكل كما تأكل الأنعام وهو الغباء والغفلة والحرمان من فهم حقيقة الحياة.

4- إعطاء الجسم حقه في النوم، وعدم الاجهاد والسهر، وممارسة الرياضة والمواظبة عليها، لتنشيط الجسم، وكلٌ حسب قدرته وعمره.

5- كذلك من وسائل الحفاظ على الصحة غسل الإناء إذا شرب الكلب فيه فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-، قَالَ: قال رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا شَرِبَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا". (17)

وفي لفظ "وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ"، وذلك لما ينقله لعاب الكلب من الأمراض. (18)

6- الابتعاد عن الغضب والمشادّات والهم والغم والحزن وترويض النفس على الحلم والتحمل والصبر واحتساب الأجر وتقبل ما ينتج عن كبر السن صحيًا بنفس راضية بقدر الله. (19)

7- حسن التعامل مع الجميع والتحلي بالأخلاق الفاضلة والبشاشة وسلامة الصدر ومحبة خدمة الآخرين.

6- الابتعاد عن خطر المخدرات والمسكرات والتدخين

ولأهمية هذا العنصر سنفرد الكلام عنه.

وقفة مع أضرار المخدرات والمسكرات

أيها المسلمون: إن للمسكرات والمخدرات مضاراً كثيرة، أثبتها الطب العصري، وأكدتها تجارب المجتمعات، وذكروا فيها أكثر من مائة وعشرين مضرة دينية ودنيوية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن الحشيشة حرام يحد متناولها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثه وغير ذلك من الفساد، وإنها تصد عن ذكر الله". (20)

ومن أعظم مضار المسكرات والمخدرات: أنها تفسد العقل والمزاج، وما قيمة المرء إذا فسد عقله ومزاجه؟! يتعاطى المسكرات والمخدرات، فيرتكب من الآثام والخطايا ما تضج منه الأرجاء، وما يندم عليه حين يصحو، ولات ساعة مندم!

ولقد روى القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: أن أحد السكارى جعل يبول ويأخذ بوله بيديه ويغسل به وجهه وهو يقول: "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين". (21)

وقال الضحاك بن مزاحم-رحمه الله- لبعض أصحابه: "مالك ولشرب النبيذ؟ قال: يهضم طعامي، قال: والله لما يهضم من عقلك ودينك أكثر". (22)

وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "لو كان العقل يشترى لتغالى الناس في ثمنه، فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده". (23)

أيها الناس: في بلاد المسلمين كثرت حوادث المخدرات من مروجين ومدمنين، وكثرت الجرائم بتعاطيها، وأصبحت مكافحة المخدرات قضية تشغل الحكومات المختلفة، وكل هذا يتم في غياب وازع الإيمان والدين والتقوى، فاتقوا الله أيها المسلمون، واتقوا المسكرات والمخدرات، واتقوا الخمر فإنها أم الخبائث.

وعن عُثْمَانَ -رضي الله عنه- يَقُولُ: " اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، إِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ خَلَا قَبْلَكُمْ تَعَبَّدَ، فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ غَوِيَّةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَتَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّا نَدْعُوكَ لِلشَّهَادَةِ، فَانْطَلَقَ مَعَ جَارِيَتِهَا فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ، حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ عِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا دَعَوْتُكَ لِلشَّهَادَةِ، وَلَكِنْ دَعَوْتُكَ لِتَقَعَ عَلَيَّ، أَوْ تَشْرَبَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْرَةِ كَأْسًا، أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ، قَالَ: فَاسْقِينِي مِنْ هَذَا الْخَمْرِ كَأْسًا، فَسَقَتْهُ كَأْسًا، قَالَ: زِيدُونِي فَلَمْ يَرِمْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ النَّفْسَ، فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ، فَإِنَّهَا وَاللَّهِ لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ، وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ إِلَّا لَيُوشِكُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ". (24)

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90-91].

عقوبات شارب الخمر

العقوبة الدنيوية

لقد وضعت الشريعة الإسلامية عقوبة لشارب الخمر فهناك عقوبة دنيوية وهي أن يجلد ثمانين جلدة، ويحد شاربها وإن لم يسكر، سواءً أشرب الكثير أم القليل بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم، وإذا تكرر من الشارب الشرب وهو يعاقب ولا يرتدع، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ: فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ" وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ جَلَدَ الشَّارِبَ غَيْرَ مَرَّةٍ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ. وَالْقَتْلُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مَنْسُوخٌ. وَقِيلَ: هُوَ مُحْكَمٌ. يُقَالُ: هُوَ تَعْزِيرٌ يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ "عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ أَرْبَعِينَ. وَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- أَرْبَعِينَ وَضَرَبَ عُمَرُ -رضي الله عنه- فِي خِلَافَتِهِ ثَمَانِينَ. وَكَانَ عَلِيٌّ -رضي الله عنه- يَضْرِبُ مَرَّةً أَرْبَعِينَ وَمَرَّةً ثَمَانِينَ". فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: يَجِبُ ضَرْبُ الثَّمَانِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْوَاجِبُ أَرْبَعُونَ وَالزِّيَادَةُ يَفْعَلُهَا الْإِمَامُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إذَا أَدْمَنَ النَّاسُ الْخَمْرَ. أَوْ كَانَ الشَّارِبُ مِمَّنْ لَا يَرْتَدِعُ بِدُونِهَا. (25)

وهذا عين الفقه؛ لأن الصائل على الأموال إذا لم يندفع إلا بالقتل قتل، فما بالكم بالصائل على أخلاق المجتمع وصلاحه وفلاحه.

وأما العقوبة الأخروية

فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ". (26)

وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ-رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ". (27)

وعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ جَيْشَانَ، وَجَيْشَانُ مِنَ الْيَمَنِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنَ الذُّرَةِ، يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَ مُسْكِرٌ هُوَ؟ "قَالَ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ "قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: "عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ "أَوْ "عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ". (28)

فهذه عقوبة الدنيا وهذه عقوبة الآخرة فيا تُرى من يستطيع أن يتحمل هذه العقوبة ويهدر صحته ويضيع عمره وماله في مثل هذه المسكرات. (29)

انتبه فإن الموت قادم

أيها الأصحاء والمرضى: تذكروا أن أعمارنا في هذه الدنيا قصيرة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ". ، ولا خير أصلاً في طول العمل إلا إذا كان على طاعة الله. (30)

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ-رضي الله عنه-، أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ". ، وقد استعاذ عليه الصلاة والسلام أن يرد إلى أرذل العمر. (31)

أيها الأصحاء والمرضى: تذكروا أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، ولهذا فهي مليئة بالمصائب والأكدار والأحزان والأمراض والحوادث؛ قال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [البقرة: 155]، وقال: { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } [البلد: 3]. لذا فإن الجزع لا يفيد؛ بل يضاعف المصيبة ويفوت الأجر ويعرض المصاب للإثم.

قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- "إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور". (32)

يقول معاوية بن قرّة-رحمه الله-" أشدّ الناس حسابا الصحيح الفارغ".

ويقول سفيان بن عيينة -رحمه الله-"من تمام النعمة طول الحياة في الصحة والأمن والسرور".

ويقول ابن السماك -رحمه الله-"النعمة من الله على عبده مجهولة فإذا فقدت عُرفت".

وقيل "من لم يشكر الله على النعمة فقد استدعى زوالها". (33)

والحمد لله رب العالمين

---

(1) دين الحق لعبد الرحمن بن حماد آل عمر (ص: 104).

(2) الطب النبوي لابن القيم (ص: 159).

(3) الأدلة والبراهين على حرمة التدخين (ص: 52).

(4) صحيح أخرجه أحمد في مسنده (7/ 38) رقم 3922، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني رقم 1650.

(5) صحيح أخرجه أحمد في مسنده (30/ 398) رقم 18455، والحميدي في مسنده (2/ 73) رقم 845 وغيرهما وانظر صحيح الجامع (1/ 565) رقم 2930.

(6) محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت: 502هـ) (1/ 514).

(7) موسوعة الكتيبات الإسلامية (290/ 3).

(8) محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء (1/ 514).

(9) موسوعة خطب المنبر (ص: 4316).

(10) صحيح أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 447) رقم 7927 وقال " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ "، وانظر صحيح الجامع للألباني (1/ 243) رقم 1077.

(11) صحيح البخاري (8/ 88) رقم 6412 من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-.

(12) صحيح أخرجه الترمذي في سننه (4/ 190) رقم 2417 وقال حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُرَيْجٍ هُوَ بَصْرِيٌّ، وَهُوَ مَوْلَى أَبِي بَرْزَةَ، وَأَبُو بَرْزَةَ اسْمُهُ: نضْلَةُ بْنُ عُبَيْدٍ. ، والدارمي في سننه (1/ 144) رقم 537، وانظر السلسلة الصحيحة (2/ 629) رقم 946.

(13) صحيح البخاري (7/ 130) رقم 5728 من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه-.

(14) صحيح البخاري (7/ 126) رقم 5707 معلقاً.

(15) صحيح أخرجه الترمذي في سننه (4/ 168) رقم 2380، والنسائي في الكبرى (6/ 268) رقم 6737 وغيرهما وانظر السلسلة الصحيحة (5/ 336) رقم 2265للألباني.

(16) صحيح البخاري (7/ 72) رقم 5397 من حديث أبي هريرة.

(17) صحيح البخاري (1/ 45) رقم 172و صحيح مسلم (1/ 234) رقم 90 (279).

(18) انظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي (13/ 331)، ومجلة الرسالة (997/ 43)، الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي للدكتور مُصطفى الخِنْ، والدكتور مُصطفى البُغا، علي الشّرْبجي (1/ 29).

(19) هذه الفوائد مقتبسة من موسوعة الكتيبات الإسلامية (31/ 14).

(20) مجموع الفتاوى (28/ 339) لابن تيمية بتصرف.

(21) تفسير القرطبي (3/ 57) بتصرف.

(22) قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمور لأبي اسحاق إبراهيم بن القاسم المعروف بالرقيق النديم (المتوفى: نحو 425هـ) (ص: 115).

(23) ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (5/ 17).

(24) صحيح موقوفاً أخرجه النسائي في سننه (8/ 315) رقم 5666، وعبد الرزاق في مصنفه (9/ 236) رقم 17060وغيرهما وانظر التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (8/ 22) للألباني.

(25) مجموع الفتاوى (28/ 336).

(26) صحيح أخرجه أبو داود في سننه (3/ 326) رقم 3674، وأحمد في المسند (10/ 9) رقم 5716، وغيرهما، وانظر صحيح الجامع الصغير (2/ 907) رقم 5091.

(27) صحيح البخاري (7/ 104) رقم 5575 صحيح مسلم (3/ 1588) رقم 76 - (2003).

(28) صحيح مسلم (3/ 1587) رقم 72 (2002).

(29) دروس للشيخ سعود الشريم (9/ 2).

(30) صحيح أخرجه الترمذي(3550)، وابن ماجة (4236) وانظر الصحيحة ( 757).

(31) صحيح أخرجه الترمذي في سننه (2329)، وصححه الألباني في الصحيحة(1836).

(32) الرضا لابن أبي الدنيا (29)، والتعازي لأبي الحسن المدائني (ص: 82).

(33) روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار لمحمد بن قاسم بن يعقوب الأماسي الحنفي، محيي الدين، ابن الخطيب (ت: 940هـ) (ص: 264).

عدد المشاهدات 14578